لم تكتف دولة الاحتلال الإسرائيلي باغتيال الصحفية شيرين أبو عاقلة عند قيامها بواجبها الصحفي والإنساني أثناء تغطية اقتحام قوات الاحتلال مخيم جنين (شمالي الضفة الغربية) في 11 مايو/أيار الحالي، ولا اكتفت بنشر ما لا يقل عن 4 روايات متناقضة لعملية الاغتيال، وهو ما يعكس حالة التخبط والإرباك والإصرار على إخفاء الحقيقة.

كما أنها لم تتورع عن رفض نتائج التحقيق التي قامت بها جهات مختلفة بشكل منفصل، وخلصت إلى نتيجة واحدة قاطعة؛ وهي أن شيرين أبو عاقلة قُتلت برصاصة قناص في جيش الاحتلال الإسرائيلي بشكل متعمد، بل فوق ذلك، ولتبرير جريمتها، والإفلات من العقاب وتبعات الجريمة القانونية والسياسية والدولية، تعمد إلى ممارسة نوع من القتل المعنوي للشهود، وأبرزهم الصحفية شذا حنايشة زميلة شيرين أبو عاقلة ورفيقتها في تغطيتها الأخيرة.

عملية الطعن في التحقيقات الدولية والفلسطينية لها آليات وأدوات تختلف عن رد الفعل الرسمي الذي عبر عن رفضه نتائجها، ودعا إلى استكمالها عبر إشراك إسرائيل فيها، ونقل أداة الجريمة إليها لمعاينتها؛ في تلميح ضمني مفاده أن الفلسطيني طرف غير مؤهل وغير محايد.

شذا حنايشة تحولت إلى الراوية الرئيسية، والشاهد الأبرز على قضية اغتيال شيرين أبو عاقلة، وبناء على شهادتها بحكم تواجدها مع الشهيدة شيرين لحظة استهدافها واغتيالها؛ سُلطت الأنظار عليها، وتحولت في لحظة من زميلة مهنة وصديقة لشيرين إلى دليل إثبات يدين قتلتها.

استهداف أبو عاقلة من القناص الإسرائيلي كان مقصودا وموجّها بهدف اغتيالها، وهذا ما أثبته تحقيق النيابة العامة الفلسطينية وتحقيقات شبكة “سي إن إن” (CNN) ووكالة أسوشيتد برس، وهي تحقيقات استندت إلى جملة أدلة مادية ملموسة، من بينها شهادات الشهود وأبرزهم الصحفية شذا.

هذا الدور المحوري لشهادة شذا وقربها -إلى حد الخطر على حياتها- من الجريمة جعلها هدفا لماكينة الدعاية الإعلامية الإسرائيلية، التي تخبطت بين الروايات المختلفة، وتواطأت في التستر على الجريمة، فأصبح الهدف هو قتل شذا معنويا، لإسقاط شهادتها، والطعن في مصداقية التحقيقات التي أدارتها جهات ذات سمعة عالمية لا يمكن لإسرائيل أن تدخل في صراع مباشر معها.

عملية الطعن في التحقيقات الدولية والفلسطينية، لها آليات وأدوات تختلف عن رد الفعل الرسمي الذي عبر عن رفضه نتائجها، ودعا إلى استكمالها -بوصفها منقوصة- عبر إشراك إسرائيل فيها، ونقل أداة الجريمة (المقذوف) إليها لمعاينتها، في تلميح ضمني مفاده أن الفلسطيني “طرف غير مؤهل وغير محايد”.

الآليات غير الرسمية التي تأتي على شكل تصريحات مبنية للمجهول وذات مرجعية غير معرّفة يتم زجها في التقارير الرسمية تحت مسمى “مصدر أمني” أو “مسؤول إسرائيلي” أو “جهات مطلعة” مهمتها زرع بذور الشك وتمرير الرسالة المضللة والتلاعب بالرأي العام من دون تحميل المستويات الرسمية تبعاتها، في حال اتضاح عدم دقتها وزيفها.

أبرز مثال على هذا الأسلوب الذي تم اللجوء إليه للطعن في شهادة شذا حنايشة التي استند إليها تقرير شبكة سي إن إن الأميركية، يمكن التعرف عليه من خلال التمعن ودراسة تقرير تم نشره على موقع مهم ومركزي في الإعلام الإسرائيلي هو “واي نت” ذائع الصيت، الذي يتبع صحيفة يديعوت أحرونوت، والمنشور في 25 مايو/أيار 2022 تحت عنوان “تحقيق سي إن إن: “أبو عاقلة أصيبت بشكل مقصود على يد القوات”. الجيش: “هذا لا يستند إلى أي أساس”.

يلاحظ أن التقرير جاء في فترة حساسة من القضية، فمن حيث التوقيت جاء مباشرة بعد إعلان نتائج تحقيق حاسمة لا تقبل التأويل، ومن حيث الجهة التي أعلنت النتائج كونها جهة ذات مصداقية وسمعة عالمية، ولا يمكن اتهامها بالعداء لإسرائيل، لذا يمكن الافتراض أنها تضمن الرسالة المركزية التي أرادت إسرائيل إيصالها.

هذه الرسالة كانت عبارة عن رصاصة معنوية وجهت بشكل مباشر لاغتيال الشاهدة المركزية وحجر الأساس الذي استندت إليه التحقيقات في إدانة إسرائيل.

واي نت

إلى جانب عرض الرواية الرسمية الرافضة لنتائج التحقيق، والتوسع في المساحة التي تم تخصيصها لرد الناطق باسم الجيش، قام الموقع بتهيئة القارئ بصريا للتشكيك في دليل الإدانة عبر عرض صورة كبيرة لشذا وهي مذعورة تحاول أن تحتمي بشجرة للتدليل على أنها مشوشة، وتحتها مباشرة صورة (سكرين شوت)، ومترجمة باللغتين الإنجليزية والعربية لمنشور منسوب للصحفية شذا حنايشة، كتب تحته “شذا حنايشة تنشر منشورات تحريضية ضد إسرائيل على حساباتها الشخصية على وسائل التواصل الاجتماعي” من دون الإشارة إلى تاريخ المنشور ومناسبة نشره.

تحت المنشور مباشرة، تبدأ فقرة جديدة بالإشارة بوضوح إلى مركزية شهادة شذا، “في إسرائيل يشيرون إلى أن جزءا كبيرا من الادعاءات أن الجيش قتل عمدا أبو عاقلة تستند إلى شهادة الصحفية الفلسطينية شذا حنايشة”، وهنا التشديد على كونها الشاهد المركزي وأنها فلسطينية في ذات الوقت لها دلالاتها التي ستتضح في الفقرات التالية، حيث يكمل التقرير أنها “من سكان مخيم جنين”، وأن المصادر الإسرائيلية تلفت إلى “أنها تنشر بشكل دائم محتوى تحريضيا على حساباتها الشخصية”، وهو أمر لم يتم إثباته سوى عبر منشور واحد من دون تاريخ أو سياق، لذا أضاف “المصدر الإسرائيلي” أن النشر التحريضي كان أثناء عملها في موقع “ميدل إيست آي” (Middle East Eye).

“المصدر الإسرائيلي” -وفق واي نت- اتهم سي إن إن بأنها لم تدقق في شهادة حنايشة، التي ادعت “أنها لم تر مسلحين فلسطينيين، رغم انتشارهم الكثيف في المكان”، كما أنها “ادعت أن الجيش شخصها” ليتساءل: كيف عرفت ذلك عن “بعد 200؟”

الحقيقة الدامغة هي أن الإسرائيليين أنفسهم هم الذين لا يكلفون أنفسهم عبء تدقيق رواياتهم وتمحيصها، ودأبوا على الاستخفاف بالآخرين، معتقدين أن العالم سيأخذ روايتهم كما هي، وهم لم يعتادوا على أن ثمة جهات دولية ذات مصداقية ستدقق في كل تفاصيل ما يدعون كما فعلت سي إن إن في تحقيقها.

هذا الاستسهال هو الذي دفعهم لارتكاب أخطاء عن شخصية الصحفية الشاهدة شذا حنايشة، فذكروا أنها من مخيم جنين (وكأن هذه تهمة في حد ذاتها)، بينما هي من بلدة قباطيا، وفي تفاصيل العمل وسيرتها المهنية خلطوا بينها وبين زميلة لها تحمل الاسم الأول نفسه، وراحوا يبحثون عن نتف هنا وهناك لتجريم شذا وتبرير استهدافها. هذه النظرة الاستعلائية عبرت عن نفسها بوضوح في تغطية المنابر العبرية لخبر استشهاد الصحفية شيرين أبو عاقلة، حيث عمدت معظم التغطيات إلى تجاهل اسم الشهيدة والاكتفاء بوصفها “الصحفية الفلسطينية”، مما دفع الصحفي الفلسطيني محمد مجادلة (وهو من فلسطينيي الداخل وكان ضيفا في برنامج تقدمه الإعلامية رينا متسليح) إلى الصراخ في وجه هذه المذيعة المعروفة وترديد اسم شيرين أبو عاقلة عدة مرات قائلا لهم إن لها اسما وليست نكرة.

يخلص التقرير في فقرته الختامية، وبعد “شيطنة” شذا والطعن في مصداقيتها، إلى أن “التقرير غير دقيق، وليس كاملا”، وأن إشراك الجهات الإسرائيلية في التحقيق فقط، وتسليم الرصاصة لها سيجعله كاملا وموثوقا.

بعد الكشف عن 3 تحقيقات موثوقة ومنفصلة، خلصت إلى النتيجة ذاتها، فيبدو أن حملات التشكيك في شهادات الشهود و”شيطنتهم” لا تقتصر على رفض الشهادة، بل محاولة لقتل الشاهدة ودفن الشهادة للتستر على المجرم.

المصدر: وكالات + الجزيرة نت

Share.

صحفية عراقية من اربيل خريجة وزارة الاعلام في اربيل سنة 2004

Comments are closed.