ليس بعيدا عن “درب الآلام” في البلدة القديمة بالقدس حُمل نعش شيرين على الأكتاف للمرة الأخيرة قبل أن يوارى الثرى، بعد أن شهد تشييعها اعتداءات إسرائيلية متعددة، في مشهد يعكس درب آلامها الخاص بدءا بنقلها قصة شعب منكوب طيلة ربع قرن، وانتهاءً برصاصة في رأسها.

القدس المحتلة- من لحظة ارتقائها مرورا بتشييعها ووداعها على مدار ثلاثة أيام في مناطق ومدن جنين ونابلس ورام الله وأخيرا في القدس، كانت الساعات تمرُّ ثقيلة على من رافق الجنازات أو تابع مشاهدها على الشاشات.

“طريق آلام” امتدت لسنوات طويلة سلكتها شيرين أبو عاقلة خلال حياتها المهنية التي غطّت من خلالها آلام شعبها ودموعه بعد التصاقها به وبهمومه.

وليس بعيدا عن “درب الآلام” في البلدة القديمة بالقدس حُمل نعشها على الأكتاف للمرة الأخيرة ووُوري الثرى في مقبرة جبل صهيون بباب الخليل، بعد أن شهد تشعييها هجمة عسكرية، في مشهد يعكس درب آلامها الخاص بدءا بنقلها قصة شعب منكوب طيلة ربع قرن، وانتهاءً برصاصة في رأسها.

مشى تشييع شيرين في درب الآلام بالقدس وفي رمزية كبرى لمعنى هذا الطريق في المعتقد المسيحي. إنه أيضا “الطريق التي سلكها السيد المسيح من باب الأسباط إلى كنيسة القيامة عندما قام اليهود بتعذيبه وصلبه. وفيها عُذّب وجُلد وحمل صليبه بالكامل طوال الطريق”.

موكب التشييع في طريقه من باب الخليل إلى المقبرة ويظهر على اليمين سور القدس التاريخي (الجزيرة)

أرادوها جنازة صامتة

أراد الاحتلال أن يخرج الفلسطينيون بجنازة خجولة صامتة، لكن الرياح جرت بعكس رغبة أجهزته الأمنية، فلم يقتصر توافد المشيعين على أبناء القدس، بل وصلوا من كافة مناطق الداخل الفلسطيني ومن محافظات الضفة الغربية المختلفة.

لم يرُفع علم فلسطيني واحد بل عشرات الأعلام، ولم تصدح الحناجر بالأغاني الوطنية والهتافات التقليدية فحسب، بل بأخرى جديدة اختصت بشيرين رغم محاولات المخابرات الإسرائيلية منذ أمس منع تمجيدها بحملة من الاستدعاءات والتهديدات.

في مستشفى مار يوسف “الفرنسي” في القدس حيث وصل جثمان شيرين الخميس، أقيمت صلاة الجمعة وتصاعد الاحتقان مع إصرار الشبان على حمل نعشها على أكتافهم نحو البلدة القديمة للقدس، كما يليق بالشهداء.

لكن شرطة الاحتلال وقواتها الخاصة لم تمهلهم طويلا، إذ اقتحمت المستشفى وقمعت المتواجدين بشكل عشوائي واعتقلت عددا منهم قبل أن يعاد الجثمان إلى الثلاجة، ثم ينطلق في سيارة وحيدة تابعة للكنيسة نحو البلدة القديمة.

صلاة حزينة

في كاتدرائية البطريركية للملكيين الكاثوليك في القدس، استقبل جثمان شيرين بالزغاريد والتصفيق، قبل أن يقود الصلاة على روحها النائب البطريركي ياسر عيّاش وعدد من الكهنة المسيحيين.

نوبة حزن وبكاء قاسية انتابت كل الحضور عند تلاوة الصلاة التالية: “أنت يا رب أرِح نفس عبدك الراقد في مكان نيّر، في مكان نضر، في مكان راحة، حيث لا وجع ولا حزن ولا تنهّد.. وبما أنك صالح ومحب للبشر اغفر له كل خطيئة فعلها بالقول أو بالفعل أو بالفكر لأنه ليس من إنسان يحيا ولا يخطئ، بل أنت وحدك منزّه عن الخطيئة وعدلك إلى الأبد وقولك حق… آمين آمين”.

بدا شقيق شيرين، أنطوان أبو عاقلة متماسكا وهو يقف بجوار جثمانها، لكن زوجته وابنتيه لينا ولارين وزملاء شيرين وصديقاتها انهاروا مرارا فوق تابوتها المُزيّن بعلم فلسطين.

في هذه الأثناء، جلست على مقاعد الكنيسة الخشبية مجموعة من الراهبات القادمات من مدرسة “راهبات الوردية” التي تلقت شيرين تعليمها المدرسي على مقاعدها، وليس بعيدا عنهن جلست المقدسية لانا الربضي رفيقة شيرين على المقاعد ذاتها.

6-نجوان سمري وشقيق شيرين طوني وابنتيه أمام الجثمان(الجزيرة نت)
مراسلة الجزيرة نجوان سمري يقابلها شقيق الشهيدة وابنتاه في لحظة وداع أخيرة (الجزيرة)

رحلت المهذبة الخجولة

تقول لانا “شيرين بنظري ما زالت الطفلة المهذبة الذكية المتواضعة والخجولة.. لم أتوقع أن يأتي هذا اليوم الذي سأودعها فيه إلى الأبد.. اليوم اهتز كيان القدس والمقدسيين”.

وبمجرد الخروج من الكنيسة كان الآلاف بانتظار الجنازة التي خرجت من باب الخليل نحو المقبرة، وذُهل الجميع من حجم المشاركة وتردد على مسامع الحضور عشرات المرات “كأن فلسطين تحررت.. وهذه الحشود عائدة لمدنها وقراها التي غادرتها قسرا عام النكبة”.

وبينما الحشود تهدر باسم شيرين، وقفت قوات الاحتلال الخاصة وشرطته في محطات عدّة محاولة منع أي مظاهر يدّعون أنها تخرق “السيادة الإسرائيلية” على القدس، لكنهم فشلوا وتراجعوا أمام الزحف الكبير الذي سار متسلحا بحب شيرين أبو عاقلة.

روان برهوم القادمة من بلدة “عين رافة” حملت لافتة كُتب عليها “شيربن أبو عاقلة.. في بعض الغياب حضور أكبر”، وفي طريقها نحو المقبرة هاجمتها الشرطة لتصادر اللافتة لكنها رفضت الاستسلام.

تقول روان “أنا وجيل كامل نشأنا على صوت وصورة ورسالة شيرين، وحضورنا اليوم هو وفاء لمسيرتها وإصرار على إكمال طريقها”.

فقدوا السيطرة

فقدت إسرائيل السيطرة بالفعل على القدس والمشيعين، وشعر المشاركون أنهم قاموا بواجبهم تجاه الشهيدة على أكمل وجه بعدما رافقوها في أزقة المدينة التي تحب وهم يهتفون “الله.. فلسطين.. القدس عربية.. قومي تفرجي يا شيرين كيف وحدتي كل فلسطين”.

حجارة سور القدس التاريخية التي ووري الجثمان بجوارها بدت أكثر بهاءً خلال مسيرة التشييع الحاشدة، فلا رفيق خير لها من شيرين الشهيدة اليوم.

في تمام الساعة 3:56 دقيقة عصرا قُرعت أجراس الكنائس من داخل البلدة القديمة، وعمّ الحزن العميق مجددا بعدما غلب على مسيرة التشييع مشاعر الحماس والفخر والتحدي.

طويت صفحة التشييع ورقد جثمان شيرين أبو عاقلة بسلام رغم جرحها وجرح شعبها النازف، لكن صفحات فخر وعزّ فُتحت خلال جنازتها في العاصمة المقدسة التي قالت قبل أسابيع إنها تسعدُ لرؤيتها عامرة، وقال المشيعون لها إنها لم تكن يوما عامرة كما هي يوم تشييع شيرين، والذي سيُحفر في ذاكرتهم إلى الأبد.

المصدر: وكالات + الجزيرة نت

Share.

صحفية عراقية من اربيل خريجة وزارة الاعلام في اربيل سنة 2004

Comments are closed.