مقدمة الترجمة

في مقاله المنشور في مجلة “فورين أفيرز”، يرصد تشارلز كينغ، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة جورج تاون، الأفكار المؤسِّسة لليمين الأميركي الجديد الذي يهيمن تدريجيا على الحزب الجمهوري، متبنيا سياسات ليست مناهضة لليبرالية فقط، ولكنها -في جوهرها- معادية للديمقراطية نفسها. ويرى كينغ أن الولايات المتحدة تحوَّلت إلى بيئة خصبة لإنتاج هذا النمط من التوجهات السياسية، في ظل وجود حزب ومجال إعلامي وقاعدة مالية، بل ومدرسة فكرية كاملة مضادة للحريات، تدفع هذا الاتجاه اليميني الجديد. وبهذا الشكل، باتت الولايات المتحدة في موقع غريب، فهي أبرز قوة تدافع عن النظام الليبرالي العالمي، وفي الوقت نفسه واحدة من أهم القوى التي تهدده.

نص الترجمة

على مدار أكثر من نصف قرن، كان لرجال الاتجاه اليميني الأميركي مهمة واضحة وشعور لا لبس فيه بالجذور التي أتوا منها. فلئن كان الليبراليون مهووسين بخططهم الحالِمة لبناء مجتمع لا شائبة فيه؛ فيجب على المحافظين أن يخوضوا معركة الدفاع عن الحريات في وجه طغيان الدولة. يقول المحافظون الأميركيون إن جذورهم تعود إلى عام 1790، حين حذَّر رجل الدولة البريطاني “إدموند بورك” من مخاطر الثورات وأصرَّ على طبيعة العلاقة التعاقدية بين الماضي الموروث والمستقبل المنظور. وقد استلهم المحافظون أيضا أفكار الفيلسوف الإنجليزي “مايكل أوكشوت” والاقتصادي ذي الأصل النمساوي “فريدريش هايَك”، كما رأوا في بعض المفكرين الشعبيين، مثل الكاتب الأميركي “ويليام باكلي” ورئيسة الوزراء البريطانية “مارجرت تاتشر” والرئيس الأميركي “رونالد ريغان”، شركاء لهم في معركتهم من أجل الفردانية، وحِكمة السوق، وغريزة البحث عن الحرية، والاعتقاد بأن حل المشكلات الاجتماعية يَنبُت من أسفل تلقائيا فقط إذا تَنحَّت الدولة جانبا.

بيد أن ذلك الإرث المحافظ أخذ يُهمَّش طيلة العقد المنصرم لصالح قراءة بديلة للماضي، حيث يرى الآن عدد من الكُتَّاب والنشطاء أصحاب الصوت العالي أن التقليد المحافظ الحقيقي إنما يكمُن فيما يسمونه “التكاملية”، وهو تكامل الدين والأخلاقيات الفردية والثقافة الوطنية والسياسات العامة على صورة نظام مُوحَّد. ولا يعكس هذا الاتجاه الفكري ثقة المحافظين القُدامى في المجتمع مثل “باكلي”، ولا يقول بضرورة وجود حكومة تقوم على دستور توازن السلطات وتُتيح لمواطنيها البحث عن أسباب رخائهم بحُرية (وهي مدرسة تشكَّلت بالأساس نتيجة الحوار والاشتباك مع مؤسسي الولايات المتحدة). عوضا عن ذلك، يصبو هؤلاء المفكرون الجُدد للعودة إلى نظام اجتماعي أقدم بكثير، إلى ما قبل انحرافات التنوير الأوروبي (من وجهة نظرهم)، وقبل تقديس حقوق الإنسان وشيوع الإيمان بالتقدُّم؛ أي حين كان الطبيعي والاجتماعي والإلهي كُلًّا واحدا لا يتجزَّأ (وهو نظام ساد في بعض أنحاء الغرب المسيحي في العصور الوسطى، ولم يكُن شائعا عند العرب المسلمين)*.

في مؤتمر “ائتلاف العمل السياسي المحافظ” السنوي، قال رئيس الوزراء المَجَري “فيكتور أوربان”: “إنهم يكرهونني ويشوِّهونني أنا وبلادي، تماما كما يكرهونكم ويشوِّهونكم أنتم وأميركا.. أما أولئك العالميون فليذهبوا إلى الجحيم”. (AFP)

لقد وُلِدت فكرة التكاملية عند اليمين الكاثوليكي في بادئ الأمر، لكنها امتدت إلى أبعد من ذلك، وباتت اليوم منهجا في النظر إلى السياسة والقانون والسياسات الاجتماعية يُعرَف لدى أنصاره باسم “مُحافِظِيَّة الصالح العام” (Common-Good Conservatism). وفي ولايات مثل فلوريدا وتِكساس، ألهَم هذا الاتجاه الجديد تقييد حقوق التصويت، وتعديل مناهج المدارس العامة فيما يخُص العِرق والجنس (الجِندر)، وإزالة العديد من الكُتب من مكتبات المدارس. وقد شكَّلت النظرية القانونية المرتبطة بهذا الاتجاه القرارات الأخيرة للمحكمة العُليا الأميركية التي قضت بتقييد حقوق النساء وأضعفت الفصل بين الدين والمؤسسات العامة، علاوة على أن الفِكر الديني الذي يستند إليه هذا الاتجاه المحافظ الجديد هو المسؤول عن حظر الإجهاض الذي مرَّرته المجالس التشريعية في نصف الولايات الأميركية تقريبا.

سيكون أنصار هذا الاتجاه حاضرين في أي إدارة رئاسية جمهورية قادمة، وفي أي معركة مع الليبراليين وأنصار التعددية الثقافية، كما سيميلون إلى البحث عن حلفاء لهم خارج الولايات المتحدة أكثر ممن سبقهم من المحافظين في تاريخ الولايات المتحدة، ولن يكون هؤلاء الحلفاء من اليمين البريطاني أو الأوروبي، بل من أحزاب اليمين المتطرف الجديدة والحكومات الاستبدادية العازمة هي الأخرى على تفكيك “النظام الليبرالي”. ففي مؤتمر “ائتلاف العمل السياسي المحافظ” السنوي، الذي يجمع النشطاء والسياسيين والمُتبرِّعين المحافظين في الولايات المتحدة، وأُقيم في مدينة دالاس العام الماضي، قال رئيس الوزراء المَجَري “فيكتور أوربان” أمام حشد جماهيري: “إنهم يكرهونني ويشوِّهونني أنا وبلادي، تماما كما يكرهونكم ويشوِّهونكم أنتم وأميركا التي تعبِّرون عنها.. غير أن ثمَّة مستقبلا آخر في أذهاننا، أما أولئك العالميون فليذهبوا إلى الجحيم”.

لكل هذه الأسباب، تُعَدُّ قراءة فلاسفة اليمين الجديد خطوة مهمة لفهم التحوُّل الجذري الجاري في طبيعة الإجماع السياسي الأميركي الذي ساد لأجيال مُمتدة. هنالك مُنظِّرون مثل “باتريك دِنين” و”أدريان فِرميول” و”يورام هازوني” يُصِرُّون على أن الأمراض الاقتصادية التي تعاني منها الولايات المتحدة، والفِتَن السياسية التي ضربتها، وانحدارها النسبي بوصفها قوة عالمية؛ كُل ذلك ينبع من مصدر واحد وهو الليبرالية، ذلك الإطار الثقافي والسياسي والاقتصادي الذي هيمن على الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ثم أمضى البلد نصف قرن تقريبا كي يحاول فرضه على بقية العالم. بيد أن هذه الأفكار تشي أيضا بتغيُّر أعمق في تشخيص المحافظين لمشكلات أميركا، إذ يتزايد الاعتقاد في صفوف اليمين الأميركي بأن مشكلة الديمقراطية الليبرالية ليست في الصفة الملازمة لها فحسب (الليبرالية)، بل في المصطلح السابق على الصفة كذلك (الديمقراطية).

دِنين: الأسرة والكنيسة في مواجهة الليبرالية

في كتابه “تغيير النظام” يرى دِنين أن صُناع الخراب الأميركي ليسوا أولئك الواقفين على اليسار فحسب، بل نخبة البلاد الثقافية والتجارية والسياسية بأكملها. (مواقع التواصل)

في كتابه “تغيير النظام”، يكتب دِنين، المُنظِّر السياسي بجامعة نوتردام الأميركية، بدافع رغبته في إنقاذ بلد وحضارة يعتقد أنهما في انحدار واضح، ويبكي دِنين على الفجوات الصارخة في توزيع الثروات بالولايات المتحدة، وينتقد بشدة الحُكم بالجدارة (Meritocracy) الذي بات يعمل فعليا لإعادة إنتاج الامتيازات القائمة (لا لإعادة توزيعها على قطاع أكبر كما يقضي مفهوم الحُكم بالجدارة في الأصل)*. ويرى دِنين في الاستقطاب والتشرذم السياسي المتزايد درجة من التفكُّك، وضعفا في فكرة الانتماء للأمة، وإدمانا لما يُسميه “التحوُّلات التكنولوجية الكُبرى، ورؤوس الأموال الكُبرى، والإباحية الكُبرى، والمخدرات الكُبرى، وصناعات الدواء الكُبرى، وعالم ميتا الاصطناعي الذي بدأ يدُق الأبواب” (Big Tech, Big Finance, Big Porn, Big Weed, Big Pharma).

لقد تعمَّد الليبراليون -وفقا لدِنين- تقويض المجالات الأساسية للتضامن الاجتماعي مثل “الأسرة والحي والرابطة والكنيسة والجماعة الدينية”، وهُم يحكمون الآن بوصفهم أقلية في مقابل الأغلبية الشعبية. وفي داخل المؤسسات التي يتحكَّمون فيها، من الأكاديميا وحتى هوليوود، يروِّج الليبراليون إلى أن الحياة الوحيدة المنطقية هي الحياة المتحررة من قيود الواجب والتقاليد، وأن المسار المُفترض اتباعه من المراهقة إلى النضج هو تعلُّم “الجنس الآمن، والاستخدام الترفيهي للكحول والمخدرات، وتبني هويات منافية للغريزة.. وذلك من أجل الاندماج في حياة تعيشها قلة قليلة في كبريات المدن العالمية، حيث أصبحت الثقافة نظيرا لاستهلاك السِّلَع الحصرية والباهظة”. في خضم تلك العملية، تخلَّى الليبراليون عن كل شخص لم يكن جزءا من “المدرسة الإلكترونية”، تاركين القلب الجغرافي للولايات المتحدة مُحبَطا ومُفرَّغا من معناه.

بحسب دِنين، فإن صُناع هذا الخراب الأميركي ليسوا أولئك الواقفين على اليسار فحسب، بل نخبة البلاد الثقافية والتجارية والسياسية بأكملها. “إن ما تم تمريره في الولايات المتحدة بوصفه اتجاها مُحافظا طيلة نصف القرن الماضي ينكشف اليوم بوصفه حركة لم تملك القدرة ولا الالتزام كي تحافظ على شيء بالمعنى الجذري للكلمة”. ونتيجة لذلك، فإن مشكلة السياسة الأميركية اليوم هي الهُوَّة التي تفصل أصحاب القوة عن الجماهير، وهو موضوع يقتفي دِنين جذوره عند مفكرين مثل أرسطو والكاهن الإيطالي “توماس الأكويني” والمُفكر الفرنسي “ألِكس دي توكفيل”. ويقول دِنين إن المجتمعات تزدهر بالحفاظ على “دستور مُختلط” مع مؤسسات ذات مستويات وسلطات متباينة، من المستوى الوطني إلى المحلي، لتنسج معا الأشخاص ذوي الخلفيات الاقتصادية والاجتماعية المختلفة في نسيج وطني واحد.

من أجل استعادة هذا النظام المثالي، يحتاج المحافظون إلى استعادة القوة عبر ما يسميه دِنين “الوسائل الميكافيلية لتحقيق الغايات الأرسطية” (أي تطويع البراغماتية التي اشتهر بها ميكافيلي من أجل هدف المجتمع المثالي كما تصوَّره أرسطو). لقد انصاع المحافظون طويلا أكثر من اللازم للنظام الليبرالي وفقا لدِنين، وهو ما أدى إلى تحالفهم مع الأشخاص الذين يسعون إلى “سيادة الفرد” ويعارضون “الأسرة الطبيعية”. بيد أن الأغلبية التي يتحدَّث عنها دِنين اليوم بدأت تتنبَّه لمظالمها الطبقية وتظهر بوصفها “شعبوية ذات اتجاه يساري-اقتصادي اجتماعي-محافظ”، رغبة منها في اقتصاد تحصُل فيه إعادة توزيع واسعة، وفي مجتمع يتأسس على الفضيلة والمسؤولية والقابلية للتنبُّؤ.

يرى دِنين أن الولايات المتحدة تحتاج إلى مجلس نوَّاب أكبر، وتعليم فني أفضل، ومدارس حكومية متجددة، وتعيين مسؤول برُتبة وزير يحُض الناس على الزواج والإنجاب، وهو اتجاه تعبر عنه سياسات فيكتور أوربان في المجر.(مواقع التواصل)

في عصر الثورة الذي سيأتي بعد “الحرب الأهلية الباردة” الجارية حاليا في المجتمع الأميركي على حد قول دِنين، سيُعاد تأسيس البلاد بشكل يحتاج إلى “شعبوية أرسطية”، وإلى نظام سياسي تتزعمه نخبة جديدة مُدرَّبة من “خيرة الناس (كما يصفهم) الذين يعون أن هدفهم الأساسي وغايتهم في النظام الاجتماعي هو حماية الخيرات التأسيسية التي تجعل رخاء الإنسان متاحا للناس العاديين، مثل الأسرة، والروابط المحلية، والعمل الدؤوب الصالح، والثقافة التي تحُض على النظام والاستمرارية، ودعم المؤسسات والمعتقدات الدينية”. وسيصبح هذا النظام الجديد منحازا لما سمّاه دِنين والصحافي البريطاني ديفيد جودهارت “شعوب المكان” على حساب “شعوب اللا مكان”، أي الأميركيين المندمجين في مجتمعات راسخة لها غايات واضحة على عكس المتعَولِمين أصحاب الهواتف المحمولة الذين يحكمون الآن.

للوصول إلى هذا الهدف، يقول دِنين إن الولايات المتحدة تحتاج إلى مجلس نوَّاب أكبر، وتعليم فني أفضل، ومدارس حكومية متجددة، وإجازة أُسرية مدفوعة، وشركات خاضعة لدرجة أكبر من السيطرة -وهي أهداف يُمكن لليبراليين أيضا أن يدعموهاجنبا إلى جنب مع الاحتفاء الشعبي بالجذور المسيحية للأمة الأميركية-، وتعيين مسؤول برُتبة وزير يحُض الناس على الزواج والإنجاب، وهو اتجاه تعبر عنه سياسات فيكتور أوربان في المجر كما أشار دِنين.

ڤيرميول: سيادة الثقافة الشعبية

كتاب “الدستورِيَّة المبنية على الصالح العام” للكاتب أدريان فِرميول، الأستاذ بكلية هارفارد للقانون. (مواقع التواصل)

في مجال القانون والسياسات العملية، لم يبذل أحد جُهدا لتعريف “الصالح العام” المُحافِظ مثل فرميول، الأستاذ بكلية هارفارد للقانون، إذ إن كتابه “الدستورِيَّة المبنية على الصالح العام” يُعَدُّ عملا في التأويل القانوني أكثر منه تنظيرا سياسيا، لكن هدفه هو استعادة نمط من التفكير يعتقد أنه يعود إلى ما قبل التنوير الأوروبي، وهو هدف يشترك فيه مع دِنين. إن قيمة القانون ليست في حمايته لحقوق الأفراد، التي يعتقد فرميول أنها ليست مركزية لتأسيس النظام القانوني، بل هي في “إتاحته لأقصى درجات السعادة والرفاه للمجتمع السياسي بأكمله، التي تنطوي أيضا على الصالح الأفضل للأفراد الذين يُشكِّلون هذا المجتمع”. إن الصالح العام “كلي لا يتجزأ، ولا يمكن أن يكون مُركَّبا من جمع منفعة الأفراد كل على حِدة”، وهو تعريف من فرميول يقضي بترجيح كفة التشريعات التي تُعزز التضامن والتكافل؛ لتنحاز إلى الأسرة والجماعة، وتُمكِّن لمستويات السلطة الأدنى مثل الولايات والبلدات، وتحمي ما يعتقد فرميول أنه القانون الطبيعي والتراث العتيق لروما القديمة وبريطانيا الحديثة.

إن لم تكن ضليعا في النظرية القانونية، فإن كتابات فرميول ستبدو ثقيلة نوعا ما، لكن مآلاتها يسهُل فهمها في الأخير. إن مفهوم حقوق الإنسان مجرد أداة قانونية مريحة مُقيَّدة بقدر ما تخدم الصالح العام، والدولة الإدارية بمؤسساتها التي تطبق القوانين ليست شريرة بحد ذاتها كما يقول بعض المحافظين، بل يمكن إعادة توجيهها نحو تحقيق الصالح العام، وهي نقطة مشابهة لمفهوم دِنين عن نُخبة “خيرة الناس”. فالنُّخبة المتعلمة جيدا والمتمرسة في التراث الغربي بوسعها أن تعرف الصالح العام حين تراه على حد قول فرميول.

المحافظين الحريصين على الحرية الفردية يُمثلون مشكلة في نظر فرميول، فالحكومة تستطيع أن تحكُم على “قيمة وأخلاقية” حرية التعبير، وعليها أن تفعل ذلك، فليس هناك حق مُطلق مثلا في رفض التطعيمات إذا كانت ضرورية فعلا للصحة العامة. (مواقع التواصل)

إن قرارات المحكمة العُليا الأميركية السابقة انبثقت من مفهوم شديد الاتساع لحقوق الأفراد بحسب فرميول، ومن ثم كان لزاما أن تفشل، و”تشريعات المحكمة العُليا بخصوص حرية التعبير والإجهاض والحريات الجنسية وغيرها ستثبت هشاشتها في ظل نظام دستوري قائم على الصالح العام”. غير أن المحافظين الحريصين على الحرية الفردية يُمثلون مشكلة أيضا في نظر فرميول، فالحكومة تستطيع أن تحكُم على “قيمة وأخلاقية” حرية التعبير، وعليها أن تفعل ذلك، فليس هناك حق مُطلق مثلا في رفض التطعيمات إذا كانت ضرورية فعلا للصحة العامة. إن التصور التحرُّري عن “حقوق الملكية والحقوق الاقتصادية يجب أن يُقلَّص هو الآخر بقدر ما يعوق الدولة عن تنفيذ واجباتها تجاه الأمة والتضامن فيما يخص استخدام الموارد وإعادة توزيعها”.

في كتاب “الدستوريَّة المبنية على الصالح العام” نرى أن ما طرحه فرميول على أنه نظرية قانونية هو في الحقيقة إعادة تفكير شاملة في أسس الشرعية، حيث أساس السلطة المُستحقة ليس العادات أو الكاريزما أو العقلانية، كما قال عالم الاجتماع الألماني الشهير “ماكس فيبر”، بل هو “النظام الأخلاقي والقانوني الموضوعي” الذي يعتقد دستوريّو الصالح العام أنهم الأقدر على تعريفه. وبخصوص الديمقراطية والانتخابات، يقول فرميول إنها لا تنطوي على تصوُّر محدد لكيفية تحقيق الصالح العام. لقد أسس الليبراليون نظاما دستوريا تنبني فيه الشرعية على الأفراد وحقوقهم، ومن ثم على اختيارهم الدوري لمُمثلين عنهم يكتبون القوانين ويحلون النزاعات ويحفظون السلم العام. بيد أن تلك المؤسسات نفسها أفرزت نتائج مخالفة للصالح العام، ومن ثم يجب تفكيكها، وهو تصوُّر يعترف فرميول بأنه “صعب الفهم على العقلية الليبرالية”.

هازوني: صوت إسرائيلي وصدى أميركي

كتاب “المُحافظِيَّة: إعادة اكتشاف” للكاتب هازوني، الأستاذ الأميركي-الإسرائيلي ورئيس معهد هرتزل في القدس المُحتلة. (مواقع التواصل)

إن وضع خارطة طريق يستطيع عبرها المحافظون استعادة التراث الذي يستلهم منه دِنين وفرميول نظرياتهم هو أحد أهداف كتاب “المُحافظِيَّة: إعادة اكتشاف” الذي كتبه هازوني، الأستاذ الأميركي-الإسرائيلي ورئيس معهد هرتزل في القدس المُحتلة. على غرار دِنين، يصف هازوني الجحيم الذي أنتجه النظام الليبرالي ويتنبَّأ بسقوطه القريب، لكنه ينفتح على إمكانية التحالف مع الليبراليين المُعادين للماركسية إنْ فُهِم الاتجاه المحافظ على وجهه الصحيح، وهو “إحياء واستعادة وتوضيح وإصلاح التقاليد الدينية والوطنية بوصفها مفتاح حماية الأمم وتعزيزها”.

يعتقد هازوني أن الخطوة الأهم هي إلغاء فصل الدين والدولة و”استعادة المسيحية بوصفها الإطار المعياري الذي يُعرِّف الحياة العامة في كل المناحي التي يُمكن فيها تحقيق هذا الهدف، جنبا إلى جنب مع تشكيل مجالات مناسبة تصبح مساحة لعدم الانصياع المشروع (للنظام القائم)”. وإذا كان الليبراليون قد احتكروا المجال العام بخصخصة القيم المحافظة، مثلا بتشجيع مجموعة من الطلبة على الاحتفاء بالتعددية الجنسية في “مسيرات الفخر” المثلية، ومنع أخرى من استخدام الأدوات المدرسية من أجل تنظيم حلقات لدراسة الإنجيل؛ فإن تجديد الاتجاه المحافظ يقلب الطاولة، ويعيد الحياة العامة إلى ارتكازها الوطني والديني المحلي دون هوادة.

يرى هازوني أنه يمكن للصالح العام أن يُستَلَهم من النظرة الفاحصة للتاريخ والطبيعة. وبما أن الناس يولدون في وحدات قائمة على الولاء مثل العائلات والأمم، فإن ذلك يُنتج بالضرورة التزامات تجاه تلك الروابط الجماعية. إن الأسرة تمرر نفسها بيولوجيًّا بطبيعة الحال، في حين تُطوِّر الأمة لغتها الفريدة ودينها وقوانينها لضمان بقائها جيلا بعد جيل. يتَّبِع هازوني تلك المبادئ في قراءته لتاريخ القانون الدستوري الإنجليزي ولتاريخ صعود الفيدراليين الأميركيين، الذين يرى فيهم مؤسسي الأمة الأميركية الأصليين، ثم ينتقل إلى التخلِّي الكارثي عن “الديمقراطية المسيحية” مقابل “الديمقراطية الليبرالية” بعد الحرب العالمية الثانية.

يقول هازوني “البشر يرغبون دوما ويسعون حثيثا وراء صحة ورخاء الأسرة والعشيرة والقبيلة والأمة التي تربطهم بها روابط الولاء المُتبادل”، وهو افتراض سرعان ما يؤدي إلى التساؤل حيال السبب الذي جعل الليبراليين ينقلبون على تلك الروابط بسهولة. (مواقع التواصل)

تبدو معالجة هازوني للتاريخ السياسي والقانوني جدية وإن كانت منحازة، لكن حين نصل إلى جانبها الفلسفي نجد أنها أقرب لبرنامج عمل أو مانيفِستو، فهي نص مكتوب يسعى إلى تعزيز الاعتقاد الموجود بالفعل لدى المؤمنين بالفكرة وليس إلى إقناع مخالفيها، ومن ثمَّ فهي سلسلة من الافتراضات دون حُجة دامغة. ويكتب هازوني قائلا إن “البشر يرغبون دوما ويسعون حثيثا وراء صحة ورخاء الأسرة والعشيرة والقبيلة والأمة التي تربطهم بها روابط الولاء المُتبادل”، وهو افتراض سرعان ما يؤدي إلى التساؤل حيال السبب الذي جعل الليبراليين ينقلبون على تلك الروابط بسهولة (هنا يُمرِّر هازوني افتراضه دون مناقشة حقيقية للاتجاه الليبرالي أو الرد على مقولته الأساسية بوجاهة التحرُّر من تلك الروابط، التي أحيانا ما تكون لها جوانب سلبية بطبيعة الحال)*.

في العموم تبدو رؤى هازوني قومية، ومنبثقة من الفلسفة التحليلية الأنغلو-الأميركية، وذات نزوع نحو تطبيق برنامج ومنهج مُحدَّد من أجل التغيير، حيث يعتقد الرجل بأن هناك استمرارية ثقافية لم تتبدَّل شكَّلت الأمم عبر الزمن، وأسبقية وجود الأمة بوصفها الصورة الأولى للتنظيم الاجتماعي، ودورها في تأسيس دول ذات شرعية، رغم أنها حُجة أثبتت عقود طويلة من البحوث المنهجية في التاريخ والعلوم الاجتماعية بأنها غير صحيحة. علاوة على ذلك، هنالك ليبراليون كُثُر يعتنقون الفكرة الوطنية، ويستلهمون الروابط الجماعية والمحلية، ويلتزمون بالشعائر الدينية، لكن الفرق هو أنهم لا يعتقدون بالحاجة إلى تعبئة الماضي بأسره لإثبات التزاماتهم الوطنية والدينية والمحلية.

أزمة المجتمع الأميركي.. اليمين مُضلِّل أيضا

يُمكن للكثيرين أن يُقِرّوا بطبيعة الأزمة الأميركية التي تؤلم دِنين وفرميول وهازوني، ولعلهم يشاركونهم التوق إلى سياسيين شرفاء يهدفون إلى تحسين الواقع بالفعل. بيد أن المرض شيء والأزمة شيء آخر، إذ يوجد للمرض سبب واضح لا لبس فيه، لكن الأمر نفسه لا ينطبق على الأزمات. إن منبع المشكلات المعاصرة على حد قول المفكرين الثلاثة هو النظام الليبرالي بأكمله، الذي سرعان ما يتحوَّل إلى وعاء يلقون فيه بكل ما يكرهونه. وبما أن هؤلاء الكُتّاب مشغولون بالنظريات الكُبرى، فإن حُجَجهم تتجاوز الحقائق الاجتماعية بطريقة مخادعة، دون غوص في الأسباب المتعددة لأزمات مثل انخفاض متوسط الأعمار، وتفريغ التعليم الحكومي من قيمته، وحوادث إطلاق النار التي باتت مُسبِّب الموت الأول للأطفال الأميركيين، ووجود العشرات من المواطنين الأميركيين بلا مأوى في مُخيَّمات من واشنطن إلى لوس أنجلوس، وهي كلها نتيجة سياسات بعينها اتُّخِذَت بواسطة مستويات حكومية مختلفة، وأفرزتها أجندات سياسية متباينة، وليس الليبرالية جُملة واحدة.

لقد بات البروتستانت الإنجيليون البيض، وهُم قاعدة الدعم الكُبرى للرئيس السابق دونالد ترامب، يُشكِّلون اليوم 14% فقط من التعداد السكاني الأميركي وفقا للمعهد العام لبحوث الدين. (الصحافة الأميركية)

إن أكثر ما يثير القلق في أفكار دِنين وهازوني هو أنهم حوَّلوا مظالم أغلبية من السكان إلى التزامات يمينية وثقافية-عِرقية تعتنقها فعليا أقلية أخرى. ففيما يخص الرعاية الصحية المدعومة من الدولة، ورفع الحد الأدنى للأجور، والإجهاض، وسن قوانين لتقييد حمل السلاح، يبدو الأميركيون منقسمين بالتساوي تقريبا، بل وأحيانا ما تميل أغلبية طفيفة منهم إلى موقف يسار-الوسط. مثلا، في صفوف الكاثوليك، يقول 56% إن الإجهاض يجب أن يكون قانونيا في معظم الحالات أو كلها، وفقا لاستطلاع أجراه مركز “بيو” للبحوث عام 2022.

لقد بات البروتستانت الإنجيليون البيض، وهُم قاعدة الدعم الكُبرى للرئيس السابق دونالد ترامب، يُشكِّلون اليوم 14% فقط من التعداد السكاني الأميركي وفقا للمعهد العام لبحوث الدين. إن النخبة الأميركية نفسها لم تعُد ما يتصوَّره محافظو الصالح العام، فمنذ أكثر من عقد والجماعات الثقافية الأعلى أجرا والأفضل تعليما في البلاد هم الأميركيون الهنود، الهندوس والمسلمون على حدٍّ سواء، وليس أنصار التعددية الثقافية من اللا دينيين وفقا لتصوُّر اليمين الأميركي. وقد أظهر استطلاع أجرته وقفية كارنيغي عام 2020 أن 75% من الأميركيين الهنود يؤكدون أن الدين يلعب دورا محوريا في حياتهم. وفي ظل هذا المناخ، فإن الادعاء بأن “أميركا أمة مسيحية” لا يعدو كونه ضربا من ضروب التمنِّي بأن تبقى كذلك.

إن مكمن القلق الحقيقي هو أن هناك أقلية سياسية استنتجت بالفعل أن طريقها الوحيد إلى قلب كل تلك التحوُّلات هو التنازل بالكامل عن مفهوم المشاركة السياسية واستقلال القضاء وحقوق الإنسان. ولذا فإن دِنين وفرميول وهازوني يقدمون فِكرا يمنح تلك الإستراتيجية مضمونا، حيث يضع المفكرون الثلاثة أنفسهم داخل تقليد يعتقدون بأنه ممتد إلى العصور القديمة، بيد أن كتاباتهم في الحقيقة تعيد إلى الأذهان تقليدا أحدث بكثير: تيار التباكي على تدهور أميركا وضرورة إنقاذ فرصتها الأخيرة للتجديد الذي ظهر قبل نحو قرن، مثل كتاب “أفول العِرق العظيم” من تأليف “ماديسون جرانت”.

لقد كان جرانت مفكرا عِرقيا وعنصريا وعلميا، بل وتقدُّميا أيضا في بعض الملفات مقارنة بمحافظي الصالح العام الموجودين حاليا (وقد عُرِف بدفاعه عن تفوُّق العِرق الشمالي عالميا، ولعب كتابه دورا غير هيِّن في تمرير قوانين تقييد الهجرة وحظر اختلاط الأعراق بالزواج)*. إن السياسات التي يطرحها اليمين الأميركي اليوم شبيهة بمقترحات جرانت: تقييد الهجرة، وحماية تفوُّق الثقافة الأنغلو-أميركية، والدفاع عن الجوهر المسيحي للبلاد (أو المسيحي واليهودي الأرثوذكسي معا في حالة هازوني)، وتعزيز مفهوم الأمة على حساب “الأفراد المُنحلين” الذين “أمرضوا المجتمع” على حد وصف هازوني.

من المظلومية إلى الجبروت

(AP)

يكمُن في القلب من كل تلك الأطروحات اعتقاد بأن ما يراه البعض تغييرا اجتماعيا أو تقدُّما لا يمكن إلا أن يكون خسارة فادحة. إن الغضب الذي يلُف كتابات هؤلاء المؤلفين يُنتج خطابا يَرْثون فيه الماضي ويهجون الحاضر ويُبشرون بنسختهم من المستقبل، وهُو خطاب ينشرونه بثقة لا تتجاوز ثقة طالب جامعي، ثم ينتقل خطابهم سريعا من الغضب إلى العاطفة حين يتكلمون عن أنفسهم وعائلاتهم وأسرهم. يبدو أمرا مُحزنا أن يستغرق رجال متعلمون في ضرب من القسوة تجاه مَن حولهم، لكن حين ينتهي بهم الأمر إلى تشجيع غيرهم على الاعتقاد نفسه، فإن الأمر يصبح مخيفا.

إن أي محاولة لتعريف غايات الحياة بمعزل عن إرادة الناس الذين يحيونها هو ضرب من ضروب تجبُّر الجماعة على حساب الفرد الذي يؤدي إلى نفي الحرية، بل والأسوأ الانزلاق إلى عالم غير إنساني. كي يستطيع اليمين اليوم طرح فكرته تلك، فإنه في الحقيقة ينفي تقليد المحافظين الطويل الذي أتى منه في الأصل، وهي الأفكار التي أنتجها “أوكشوت” و”باكلي” و”هايَك” و”حَنَّة أرندت” و”جيمس بولدوين”، ووضعت الناس بوجودهم الفعلي -لا اختزالهم في أمم وأعراق وطبقات- في القلب من تعريف المجتمع المُتمدِّن.

هنالك قطاع من المفكرين والسياسيين والرأي العام الأميركي جرت تعبئته اليوم كي يرى نفسه بوصفه عضوا في ائتلاف دولي من الناس المظلومين الذي تتلخَّص رغبتهم في “تغيير النظام” كما يقول دِنين. وقد بات شائعا الإشارة إلى ترامب وأوربان وبوتين وحُكام استبداديين كُثُر على أنهم نُسَخ متشابهة من النموذج السياسي نفسه، أو الحالة النفسية السياسية نفسها. غير أن المُقلِق هنا هو أن الولايات المتحدة تحوَّلت إلى بيئة خصبة لإنتاج هذا النمط من الزعامات السياسية، فهناك حزب ومجال إعلامي وقاعدة مالية، بل ومدرسة فكرية كاملة مضادة للحريات، تسير وفق هذا الاتجاه اليميني الجديد. بهذا المعنى، فإن الولايات المتحدة باتت في موقع غريب عالميا، فهي أبرز قوة تدافع عن النظام الليبرالي العالمي، وفي الوقت نفسه أحد التهديدات المُحتملة له. وكما جرت العادة، فإن ميل واشنطن إلى النهج الأول أو الثاني يعتمد كليا على نتائج الدورات الانتخابية القادمة.

لطالما استمسكت الليبرالية الأميركية التقليدية بمبدأ أن المزيد من المساواة يعني إتاحة تحقيق الذات للجميع، في حين حذَّرت المدرسة المحافظة الأميركية التقليدية بأن سنّ مشاريع ضخمة لتحسين مصير البشر غالبا ما ينتهي بها إلى كارثة. ولا يزال هذا النقاش والجدل بين المدرستين جديرا بالمشاركة فيه. لكن رغم كل الاختلافات بينهما، فإن المدرستيْن شاركتا قدرة على تعريف الطغيان والتعرُّف عليه أينما ظهر، سواء في الاتحاد السوفيتي أو في الجنوب العنصري الأميركي نفسه أو في الفلسفات التي ادَّعت أن اللاهوت أو التاريخ أو الطبيعة يقفون في صفها. أما اليمين الأميركي المُعاصر، فإن الوقت بدأ ينفد أمام فرصته كي يستعيد تلك القدرة على إدراك الواقع.

_______________________

ترجمة: ماجدة معروف

هذا التقرير مترجم عن Foreign Affairs ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.

المصدر: وكالات + الجزيرة نت

Share.

صحفية عراقية من اربيل خريجة وزارة الاعلام في اربيل سنة 2004

Comments are closed.