يصعب تقديم وصف محدد لأعمال المقاومة المتجددة والمتصاعدة في شمال الضفة المحتلة خلال العام الجاري، مترافقة مع أشكال انتفاضية في جنين ونابلس تحديدا، فيما تتراجع فيها مشاركة التنظيمات المقاومة بالفعالية المطلوبة، على عكس انتفاضتي 1987 و2000 اللتين شملتا كل أنحاء الضفة وقطاع غزة، وقادتهما الفصائل الفلسطينية.

مرحلة جديدة في الصراع

يلاحظ أنه بالإضافة إلى توسع أشكال الانتفاضة التقليدية من رمي الحجارة والزجاجات الحارقة والألعاب النارية والطعن بالسكاكين وغيرها، فإن أشكال المقاومة تنوعت وتطورت، فيما شهدنا جرأة غير مسبوقة على الاحتلال، كما حصل في عملية شعفاط الأخيرة.

ويمكن القول إن ما يجري في شمال الضفة المحتلة، إضافة لهبات المقدسيين في الدفاع عن المسجد الأقصى، هو بداية مرحلة جديدة في الصراع مع الاحتلال، تتميز بانخراط فئة الشباب غير المؤطر ضمن فصائل المقاومة لملء الفراغ الذي أحدثه ضعف فعل المقاومة المنظمة، الأمر الذي يعني إضافة نوعية جديدة ستساهم قطعا في ردم الفجوة الحاصلة، وستعزز القاعدة الشعبية للمقاومة وتبقي معادلة الصراع قائمة، ويمكن أن تتطور في حال تمكنت تنظيمات المقاومة من التقاط أنفاسها بعد جولة الاستهداف الإسرائيلي والسلطوي المركب طوال السنين الماضية.

هؤلاء الشباب الذين يعملون في جنين ونابلس أساسا ضمن مجموعات لا تعتبر نفسها تابعة للفصائل، حتى إن انتمى بعض أفرادها لهذا الفصيل أو ذاك، أصبحت معضلة كبيرة للاحتلال الذي يجد صعوبة في القضاء عليها. وحتى لو تمكن من تصفية بعض أفرادها، فإنه لا يستطيع التنبؤ بأعضائها الجدد الذين ينضمون لها، لأن مدادها أصبح شعبيا وليس فصائليا.

تحاول حكومة الاحتلال تحميل السلطة الفلسطينية المسؤولية عن فشلها في وضع حد للمقاومة، وذلك لغرضين أساسيين: أولهما تبرئة ساحتها أمام الجمهور على أبواب انتخابات الكنيست، وفي مواجهة منافسها نتنياهو أمام قطبيها لبيد وغانتس.

تتعزز دافعية الشباب للانضمام لهذه المجموعات مع النجاحات التي تحققها في إيقاع الخسائر بصفوف جيش الاحتلال ومستوطنيه، والنماذج البطولية للمقاومين، فيما تشهد وسائل التواصل -وعلى رأسها تيك توك- احتفالا وإشادة بمن يستشهدون في مقارعة الاحتلال، وتحفيزا لغيرهم لنيل شرف مواجهة الاحتلال في ظل بيئة تزداد دعما لهم وتفاعلا معهم.

ويعزز من ذلك أيضا، الدعم الذي تلقاه هذه المجموعات من فصائل المقاومة مثل حماس والجهاد، والذي يتمثل بالدعم المادي وتزويد السلاح، فضلا عن التحفيز والإشادة. فيما قدّمت حركة الجهاد نماذج بطولية لشبابها، جعلها تتصدر المشهد في جنين دون غيرها، وإن سيطرت الصورة غير الفصائلية على الفعل المقاوم.

ولئن تمكن الاحتلال من استهداف عدد من أفراد كتيبة جنين عبر الاقتحامات شبه اليومية التي ينفذها في المدينة، فإن التحدي الجديد له تمثل في مجموعة عرين الأسود في نابلس التي تعمل على استهداف المستوطنين والجنود الذين يحمونهم في منطقة تشهد كثافة استيطانية عالية بالقرب من تجمعات سكانية فلسطينية كبيرة!

يعتبِر الاحتلال أن سطوة السلطة الفلسطينية في جنين معدومة، ويطلق سراح جيشه في التصدي للمقاومين فيها، ولكنه يعتبر أن هذه السلطة ما زالت متمكنة في نابلس، لكن ذلك لم ينجح في حفظ أمن الاحتلال من مجموعة جديدة، تعمل بصورة سرية وتهاجم الاحتلال والمستوطنين في محيط المدينة، ومن دون أي غطاء تنظيمي مما يصعب ملاحقتها.

وللدلالة على حجم التطور في المقاومة خلال الفترة الحالية، فقد رصد مركز المعلومات الفلسطيني “معطى” في تقريره الدوري لأعمال المقاومة 832 عملا مقاوما خلال شهر أغسطس/آب الماضي وحده، أصيب خلالها 28 إسرائيليا بعضهم بجراحٍ خطرة. وقد استشهد 9 فلسطينيين برصاص قوات الاحتلال في 5 محافظات مختلفة، منهم 5 شهداء في محافظة نابلس، بينما أصيب 621 آخرون.

وأشار التقرير إلى أن عمليات الاشتباك المسلح مع قوات الاحتلال شهدت تصاعدا ملحوظا مقارنة بشهر يوليو/تموز الماضي، حيث بلغت عمليات إطلاق النار على أهداف الاحتلال 73 عملية، منها 24 و28 عملية في نابلس وجنين على التوالي، بحسب التقرير.

تصاعدت الأرقام خلال سبتمبر/أيلول، فيما أسفرت عمليات المقاومة -بما فيها تلك التي وقعت في أراضي 48 (بئر السبع والخضيرة وبني براك وتل أبيب)- حتى الآن عن سقوط 20 قتيلا إسرائيليا، كمؤشر على فشل ما أطلق عليه الاحتلال عملية “كاسر الأمواج” في الضفة الغربية في مارس/آذار الماضي.

يأتي ذلك على الرغم من استشهاد أكثر من 100 فلسطيني منذ بداية العام على يد جيش الاحتلال ومستوطنيه، وهو أعلى معدل منذ عام 2015، مما يؤكد أن عدوان الاحتلال لا ينجح في كسر إرادة الفلسطينيين، بل إنه يحدث أثرا عكسيا، ويؤجج الرغبة في التصدي للاحتلال. ويزيد من ذلك تواصل الانتهاكات الإسرائيلية في القدس والمسجد الأقصى والعدوان على المقدسيين والمرابطين.

ويضاف لذلك عجز السلطة الفلسطينية، بل تعاونها عبر التنسيق الأمني مع الاحتلال، في ظل فشل مشروعها السياسي في تحقيق أي إنجاز على الأرض، إضافة إلى فسادها الذي تبدّى للفلسطينيين.

إن هذه العوامل مقرونة بضعف أداء منظمات المقاومة على الأرض، يحفز الفلسطينيين على المبادرة للدفاع عن أنفسهم أمام التغول الإسرائيلي على الإنسان والأرض والمقدسات والحقوق والهوية الوطنية.

الاحتلال والانتخابات

وتحاول حكومة الاحتلال تحميل السلطة الفلسطينية المسؤولية عن فشلها في وضع حدٍّ للمقاومة، وذلك لغرضين أساسيين:

  • أولهما: تبرئة ساحتها أمام الجمهور على أبواب انتخابات الكنيست، وفي مواجهة منافسها نتنياهو أمام قطبيها لبيد وغانتس.
  • ثانيهما: محاولة الدفع بالسلطة الفلسطينية لممارسة أدوار أمنية وعسكرية متقدمة أكثر في التنسيق الأمني، عبر ممارسة الاعتقالات -والتصفيات ربما- نيابة عن جيش الاحتلال، وهو الدور الذي يطمح قادة الاحتلال له تمهيدا لمرحلة ما بعد عباس التي تتهيأ لها الساحة الفلسطينية!

وإن كانت باربارا ليف وكيلة وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى، حذرت إسرائيل من انهيار وشيك للسلطة الفلسطينية، داعية إياها إلى القيام بخطوات سريعة لمساعدتها، فإن الاقتصاد وحده لا يغني عن تقديم حلول سياسية ترفع من مكانة السلطة المتدهورة، ولا هو يفسّر ظاهرة تنامي المقاومة في الأراضي الفلسطينية، فالوضع يؤشر إلى وعي حقيقي يتعزز لدى الفلسطينيين بجدوى المقاومة وفشل كل عملية التسوية في استعادة الحقوق، أو وضع حدٍّ للاعتداءات الإسرائيلية المتواصلة. كما أن الاعتداءات المتكررة غالبا ما تسفر عن ضحايا فلسطينيين، تعزز فيهم روح التحدي والانتقام.

يشعر الفلسطينيون يوما بعد يوما أنهم يحققون إنجازات وانتصارات بالسلاح والمقاومة، بما يقوي اعتزازهم بالكرامة الوطنية، ويغذي تطلعاتهم بتحقيق إنجاز على العدو، رغم تطوره التكنولوجي وحيازته الدعم الأميركي مع تخاذل المحيط العربي. ولذلك شهدنا في الآونة الأخيرة مشاركة أوسع من شرائح الشعب الفلسطيني في المقاومة، بما يشمل بعض منسوبي فتح وأجهزة الأمن الفلسطيني.

يشير الاحتلال إلى طبيعة المواجهة الجديدة التي يخوضها، إذ يقول المقدم احتياط في جيش الاحتلال الإسرائيلي ألون أبيتار -في حديثه للقناة الـ13 الإسرائيلية- إن “إسرائيل في ورطة”، مضيفا: “منذ نهاية الانتفاضة الثانية عام 2007 حتى اليوم، لم نشهد مثل هذه الأيام، من حيث تفجر الوضع على الأرض”

وفي مواجهة المقاومة المتصاعدة في الضفة، تجد حكومة الاحتلال وأجهزتها الأمنية نفسها في حيرة من أمرها، فلا هي قادرة على اتخاذ قرار بشن عملية شاملة كعملية السور الواقي التي شنتها في 2002، ولا هي راغبة في محاولة نزع فتيل التوتر وتقوية السلطة الفلسطينية عبر التقدم ولو لخطوة سياسية واحدة، بسبب هيمنة التيارات المتطرفة عليها.

كما أن الاحتلال يستبعد حاليا القيام بإجراءات عقابية ضد الفلسطينيين، مثل الإغلاقات والحرمان من تصاريح العمل وما إلى ذلك، لمحاولة جعلهم يفهمون أن تكلفة المقاومة كبيرة، فتجاربهم السابقة أثبتت لهم أن مثل هذه الإجراءات تؤدي في الواقع إلى نتائج عكسية.

إن ما يقوم به الاحتلال حاليا هو استهداف المقاومين بالتصفية أو الاعتقال بالتعاون مع السلطة الفلسطينية، أملا في أن ينجح ذلك في كسر موجة العمليات الفدائية، مع العمل على تقوية السلطة الفلسطينية اقتصاديا وأمنيا.

المقاومة.. إلى ين؟

يبدو أن المقاومة بشكلها الحالي تختلف عن سابقاتها من ناحية إمكانية القضاء عليها، ذلك لأنها تعبر عن بداية تغيرات داخلية في البيئة الفلسطينية، وتتعلق بالسلطة ومشروعها ودورها في مواجهة تطور العدوان الإسرائيلي في مرحلة التطبيع والهزيمة العربية. فضلا عن تعزز الفعل الذاتي للفلسطينيين أمام التغول الإسرائيلي، في مقابل ضمور فعل التنظيمات المقاومة، وعدم استمرار مفاعيل معركة سيف القدس التي كان من الممكن أن تشكل ديمومة للمقاومة وتواصلا جغرافيا بينها، سيؤدي إلى استنزاف الكيان على المدى المنظور.

ويشير الاحتلال إلى طبيعة المواجهة الجديدة التي يخوضها، إذ يقول المقدم احتياط في جيش الاحتلال الإسرائيلي ألون أبيتار -في حديثه للقناة الـ13 الإسرائيلية- إن “إسرائيل في ورطة”، قائلا: “منذ نهاية الانتفاضة الثانية عام 2007 حتى اليوم، لم نشهد مثل هذه الأيام، من حيث تفجر الوضع على الأرض”.

وأضاف: “شهدنا موجة عمليات في عامي 2016 و2017، وعمليات السكاكين، لكن ما يحدث اليوم شيء آخر. نحن نشهد ظاهرة مقلقة، ونرى مليشيات مسلحة ومجموعات صغيرة تحمل سلاحا ناريا، وتريد أن تنفذ عمليات إطلاق نار. هذه ليست مواجهة مع إلقاء زجاجة حارقة، أو عملية طعن بسكين، نحن نتحدث عن استعداد فلسطيني مفرط وغير مخطَّط وغير موجَّه من جانب قيادات ومنظمات”.

ويدرك الاحتلال والسلطة أهمية عزل قوى المقاومة -وخصوصا حماس بامتدادها الشعبي- عن هذه الموجة، ويستهدفان بعنف مفرط المقاومين المنتمين للحركة إما بالاعتقال أو التصفية، مما يعظم التحدي أمام هذه الحركة لاستدراك القصور الحاصل، والذي يرجع في أحد زواياه المهمة إلى أساليب التجنيد والتخفي، فضلا عن صعوبة الحصول على السلاح.

تحديات فلسطينية

وهناك تحديان أساسيان يبرزان في هذا الصعيد:

الأول: تحدي ديمومة الصراع

وهو الذي يتطلب تكريس حالة الصمود، والعمل على بلورة خطط وبرامج للمقاومة تستفيد من هذه الحالة الجديدة في ظل هذه الظروف، وهذا جهد لا تستطيعه إلا تنظيمات المقاومة وعلى رأسها حماس والجهاد.

ويتطلب أيضا تشكيل حالة فعل نضالي مستمر وممتد في مواجهة الاحتلال. ولا شك أن رسوخ فكرة النضال والتحدي فلسطينيا تحتاج إلى مجهودات على مختلف المستويات إعلامية وسياسية وميدانية واقتصادية، تدعم المقاومين والمنتفضين على الأرض.

ويلاحظ أن مجموعة عرين الأسود المشكلة من شباب بدون انتماءات تنظيمية، وآخرين ينتمون لتنظيمات بدون أن يعلنوا عن ذلك، بدأت بالدعوة لفعاليات انتفاضية مثل الإضراب وحرق الإطارات والدعوة للتضامن مع مخيم شعفاط، الأمر الذي يعني تطورا مهما في الفعل النضالي يمكن للتنظيمات أن تستفيد منه وتبني عليه.

كما يحتاج الفلسطينيون إلى توسيع رقعة المقاومة لتشمل شمال ووسط وجنوب الضفة، فلا يعقل مثلا أن تكون مدينة رئيسية مثل الخليل غير مندمجة في هذه الموجة، علما بأن حماس تتمتع فيها بوجود قوي!

الثاني: تحدي الإنجاز السياسي

وهو الذي ينبني على الديمومة والشمولية الجغرافية لحالة المقاومة، ويحاول إنجاز برنامج وطني بديل قائم على المقاومة، بحيث يشكل هذا البرنامج الفلسطيني الشامل قاعدة لديمومة الحالة المقاومة من منطلق التمسك بالحقوق الوطنية ورفض الاعتراف بالاحتلال.

ومن المهم أن يتضافر الفلسطينيون لمنع الاحتلال من تحقيق هدفه بوقف هذه الموجة انتظارا لموجه جديدة كما حصل في السنين الماضية، وهذه المسؤولية تشمل في إطارها الجغرافي الضفة وغزة أيضا، فضلا عن المساهمة المطلوبة من فلسطينيي 48 وفلسطينيي الخارج فيه.

المصدر: وكالات + الجزيرة نت

Share.

صحفية عراقية من اربيل خريجة وزارة الاعلام في اربيل سنة 2004

Comments are closed.