تسبَّبت مواجهات قبلية في مدينتَيْ “الروصيرص” و”الدمازين” في ولاية النيل الأزرق، جنوب شرق السودان، في الفترة ما بين 14-17 يوليو/تموز 2022 المُنقضي، في وقوع عشرات القتلى والجرحى (105 قتلى و291 جريحا)، ما أعاد العنف القبلي إلى واجهة الصراع في البلاد مُجددا.

 

بدأت النزاعات بين قبيلتَيْ الهوسا والبرتا في ولاية النيل الأزرق، وسرعان ما امتدت آثارها إلى عدة مناطق في الإقليم، حيث تردَّد صداها في ولاية كسلا مؤدية إلى حرق وتدمير مقرات إدارية لحكومة الولاية، وتطورت إلى مسيرات هادرة في ولاية الخرطوم، وفي القضارف والجزيرة أمكن احتواؤها عبر المصالحات الميدانية التي توسَّط فيها حكماء القبائل بالتعاون مع الولاة وقيادات القطاعات العسكرية والأمنية، وبعض القوى الحزبية النافذة، وقيادات الطرق الصوفية، والمشايخ المحليين.

 

بيد أن نشوب تلك الموجة الأخيرة من العنف القبلي لم يكن مفاجئا على كل حال. كانت المواجهات ذات الطابع القبلي قد تجدَّدت في عدة مناطق داخل السودان منذ مطلع العام الجاري، حيث شهدت ولايتَا غرب وجنوب دارفور نزاعات قبلية على الأراضي الخصبة بين الرعاة والمزارعين في مارس/آذار الماضي، تسبَّبت في مقتل ما يزيد على مئتي شخص. وتبقى هذه النزاعات مرشَّحة للتجدُّد مرة بعد مرة في ظل الانفلات الأمني والضبابية التي تفرض نفسها على الأفق السياسي في الخرطوم.

الجذور البعيدة للنزاعات القبلية في السودان

يمتلك هذا الفصل من النزاع القبلي جذورا تاريخية ضاربة بعمق، وهي تعود بالأساس إلى اعتراض القبائل الأصلية في منطقة النيل الأزرق وعلى رأسها البرتا على إدماج الهوسا في الإدارة الأهلية للإقليم وتشكيلها إمارة خاصة حظيت باعتراف حكومي. تنحدر أصول قبائل الهوسا من نيجيريا، حيث يكثر أبناؤها في أقاليم دارفور وكردفان، كما أنهم موجودون في القضارف وسنار وكسلا والنيل الأزرق، فضلا عن الحضور الكبير في ولاية الخرطوم، ونظرا إلى خبرتهم المتوارثة في الزراعة، ترتبط تجمعاتهم بالمناطق الخصيبة على امتداد الشريط النيلي، كما يشتغلون في القطاعات القريبة من الزراعة ولا سيما صيد السمك.

 

وقد أصبح الهوسا جزءا من تاريخ السودان الحديث، وأحد مصادر هويته؛ حيث يمتد وجودهم في السودان لبضع مئات من السنين، امتزجت خلالها جيناتهم القبلية بقبائل سودانية كبيرة نتيجة المصاهرة، ولأنهم مشهورون بالتعدد والتكاثر فقد ازدادت أعدادهم وأصبحوا قوة لا يُستهان بها في صعيد الأعمال والتجارة، إضافة إلى وزنهم السياسي؛ حيث كانوا رديفا قويا للمهدية على مستوى القيادة والجندية، كما مَثَّلوا قوة تصويتية مهمة في أي استحقاق انتخابي.

 

بيد أن جذور الصراع القبلي في إقليم النيل الأزرق تتخطى حوادث الخلافات القبلية بين أفراد قبيلتَيْ الهوسا والبرتا، حيث عانت منطقة جنوب السودان من تاريخ طويل من القتال الأهلي امتدّ لعقدين من الزمان (1983-2005) بين الحكومة المركزية والحركة الشعبية لتحرير السودان المطالبة باستقلال جنوب السودان، وانتهت الحرب بين الجانبين مع توقيع اتفاقية السلام الشاملة في عام 2005 التي منحت جنوب السودان الاستقلال. لم يتضمَّن الاتفاق حلا للنزاع في إقليمَيْ النيل الأزرق وجنوب كردفان؛ لذا تجدَّد الصراع في إقليم النيل الأزرق عام 2011 بين الحكومة السودانية و”الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال” التي تشكَّلت نتيجة لاستقلال الجنوب.

مسيرة للمطالبة بإنهاء التوترات العرقية والصراع الأهلي في أعقاب تصاعد العنف في ولاية النيل الأزرق ودارفور ، في الخرطوم ، السودان (رويترز)

لاحقا، اتسعت دائرة القتال داخل الإقليم بعد الانقسام الداخلي الذي شهدته “الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال” في مطلع عام 2017، بعد صراع بين رئيس الحركة “مالك عقار” ونائبه “عبد العزيز الحلو”، ليصبح هناك ثلاثة أطراف متصارعة داخل الولاية، توقَّف القتال في نهاية عام 2020 نسبيا بعد توقيع اتفاق “جوبا لسلام السودان” بين الحكومة الانتقالية في السودان وعدد من الفصائل المسلحة، التي كان من بينها “حركة تحرير السودان – شمال” بقيادة “عقار”، بينما لم ينضم الجزء المنشق من الحركة بقيادة “الحلو” إلى اتفاق جوبا.

 

دفعت الصراعات داخل إقليم النيل الأزرق، الذي يغلب عليه الطابع القبلي، كل طرف من الأطراف إلى إيجاد ظهير شعبي له، من خلال تعزيز علاقاته مع القبائل عبر وعود بمزيد من الحقوق السياسية والامتيازات الاقتصادية، وهو الأمر الذي لجأت إليه القوى السياسية السودانية في إطار الصراع بين المُكوِّن العسكري والمُكوِّن المدني في أعقاب الثورة التي أطاحت بالبشير عام 2019، وانعكس بشكل مباشر على البنية المجتمعية، وعمَّق الاستقطاب بين المُكوِّنات القبلية المختلفة، مما ساهم مع عوامل أخرى في تعزيز بيئة مناسبة لتجدُّد الصراعات القبلية في عدة مناطق داخل السودان.

 

أزمة قديمة جديدة

من هذه الزاوية؛ تُمثِّل الأحداث الأخيرة أحد تجليات أزمات قديمة وحديثة في السودان، الأزمة القديمة هي أزمة الهوية الوطنية مع عمق نفوذ القبيلة وحضور ارتباطاتها في جغرافية انتشارها المتجاوزة للحدود القُطْريّة، أما الأزمة الحديثة فتتمثَّل في انحسار ظل الدولة وتعمُّق الأزمات الاقتصادية والأمنية، مما اضطر الجميع في السودان للبحث عن ملاذ آمن، فحضرت القبيلة بديلا جاهزا لتأمين الحماية وتوفير الأمن ونشر شبكة التكافل الاجتماعي.

 

في هذا السياق جاءت المطالب القبلية، حيث طالبت قبيلة الهوسا بإدراجها في الإدارة الأهلية في إقليم النيل الأزرق، عبر اختيارها أميرا يُمثِّل قيادة أهلية لإدارة شؤون الهوسا في شهر إبريل/نيسان الماضي، وهو الأمر الذي رفضته باقي قبائل النيل الأزرق (الفونج والبرتا والأنقسنا) بزعم أن الهوسا من القبائل الوافدة من غرب أفريقيا، وليست من القبائل الأصلية التي لها حق المشاركة في الحكم الأهلي للإقليم.

عموما، تنخرط القبائل السودانية فيما يُسمى بـ”نظام الإدارة الأهلية”، الذي يتمتع بمزايا مدوَّنة في دواوين الحكم الاتحاديّ مع وجود نظام قضاء عرفيّ معترف به في بعض الحالات بالتوازي مع القضاء الرسميّ، في المقابل؛ تجد مجموعات قبلية مثل الهوسا نفسها بمعزل عن “نظام الإدارة الأهلية” رغم وجود رموز وممثلين لها في كل ولاية. وفي ظل انحسار ظل الدولة وضعف منظومتها الأمنية والشعور باستعداد السلطة لتقديم تنازلات مقابل الحفاظ على الوضع الراهن، وجد قطاع من هذه القبائل الظروف مُهيَّأة لتمكينهم ضمن النظام الأهليّ وإدارته العرفيّة، ومن ثم تصاعدت الدعوة داخل الهوسا لتشكيل نظام تراتبيّة قبلية عندهم يشبه نظام القبائل المتوطّنة قديما.

 

لكنّ القبائل القديمة في النيل الأزرق تتخوَّف من أن تشكيل نظارة قبلية أو عموديات لما تعتبره “مجموعات وافدة” مثل الهوسا سوف يستهدف حضورها ونفوذها وامتيازاتها الاعتبارية وحقوقها في حواكيرها (الأراضي المُخصصة لها)، فضلا عن التخوفات الكبيرة من أي تغيير يمسّ النظام الاجتماعيّ الهشّ في إقليم النيل الأزرق، الذي ظل يعاني من حروب أهلية متصلة، خاصة في ظل حالة الفراغ السياسي والأمني التي يمر بها السودان منذ سقوط نظام البشير.

 

لذلك، لاقت دعوات الهوسا رفضا قبليا قاطعا أدى إلى ردود فعل قاسية خيَّم عليها شبح التمييز والعنصرية وسط الدعوة لتجريد بعض الإثنيات من هويتها الوطنية وإعادتها إلى “ديارها الأولى”، كما أسهمت المشاهد الموثَّقة في شبكات التواصل الاجتماعي في تأجيج مشاعر الغضب، وأسهمت حِدَّة الاستقطاب السياسي في السودان في تفاقم الأزمة، وفتحت المجال لاستثمارها سياسيا وتحويلها إلى أدوات ضغط، مما زاد الأزمة تعقيدا.

 

هذا وتُعَدُّ أزمة الإدارة الأهلية أحد الأسباب الرئيسية للمواجهات القبلية التي تتجدَّد بين الحين والآخر في السودان، ورغم أن تجربة الحكم الأهلي في السودان قد مرَّت بمنعطفات شملت إنهاء وجودها في ثمانينيات القرن المنصرم، إبان عهد الرئيس السوداني السابق “جعفر النميري”، فإنها عادت مرة أخرى للواجهة مع وصول “البشير” إلى الحكم، حيث مَثَّلت ظهيرا شعبيا للسلطة والحركة الإسلامية، وداعما لحرب الحكومة السودانية مع متمردي جنوب السودان، حيث انخرطت قبائل النيل الأزرق في الصراع الدائر بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية لتحرير السودان في فترة حكم “البشير”، مما أدى إلى إضافة جذور استقطاب بين القبائل التي ناصرت “البشير” ضمن “قوات الدفاع الشعبي” التي قاتلت إلى جانب الجيش السوداني، وتلك التي ساندت الحركة الشعبية لتحرير السودان.

 

ماذا ننتظر؟

من الواضح إذن أن المنطقة التي خرجت قريبا من أتون الحرب الأهلية القبلية وعقدت اتفاقية سلام في جوبا لا تزال تعاني تداعيات الحرب، ولا تزال هناك أطراف متضررة من هذا السلام، أو غير راضية عنه بصورته الأخيرة، فضلا عن وجود أطراف تخشى من تغيير بنود الاتفاقية بما يُقلِّل مكاسبها التي انتزعتها، وهذه الأطراف كلها تريد أن تركب موجة الأحداث لتأكيد مواقفها، وربما شاركت بعض مكوناتها في صناعة هذه الأحداث ابتداء.

 

الخلاصة إذن أن هذه الأزمة ليست طارئة أو مستجدة، بل هي أزمة قديمة تختلف مسبباتها وظروف ولادتها مجددا، ولكن عوارضها كانت تختفي في ظروف الاستقرار والأمن، وما تلبث أن تتمدَّد في ظروف الاختلال الأمنيّ والأزمة السياسية، وانسداد أفق الحوار المجتمعي والتوافق السياسي. وتظل هذه الأزمات مرشَّحة لمزيد من الانتشار والعنف ما لم يصل السودانيون إلى مسار توافق سياسي يُلبِّي الحد الأدنى من المطالب المشتركة، وحتى هذه اللحظة فإن ردود الفعل المتوقَّعة، غير استثمار هذا الحدث الخطير وتداعياته سياسيا، ستتركَّز على التهدئة وإطفاء الحريق ومحاولة فرض هيبة السلطة بالقوة والانتشار العسكري، دون القدرة على تقديم حلول نهائية بسبب عمق هذه الأزمة وضعف الحكم المركزي.

 

تُخبرنا الأزمة أيضا أن الفراغ الأمني الذي يشهده السودان، وعدم الاستقرار السياسي، وتعثُّر مسار التحوُّل الديمقراطي، فضلا عن أزمة اقتصادية حادة، مع انحسار لدور الدولة خاصة في مناطق الأطراف؛ كل هذا يسهم في تعزيز دور القبيلة بوصفها ضامنا للأمن المحلي، وحاضنا طبيعيا يوفر التضامن الاجتماعي والاقتصادي، ومن ثم فإن فرص تجدُّد العنف بين المكونات القبلية في عدة مناطق في السودان تظل قائمة ضمن سياق السعي لانتزاع الحقوق السياسية والامتيازات الاقتصادية التي تسعى كل قبيلة للحصول عليها.

——————————————————————-

نُشر هذا المقال بالتعاون مع موقع أسباب. للاطلاع على الرابط الأصلي اضغط هنا.

المصدر: وكالات + الجزيرة نت

Share.

صحفية عراقية من اربيل خريجة وزارة الاعلام في اربيل سنة 2004

Comments are closed.