في الأسابيع الماضية، أشعلت الأوساط العلمية أخبار نتائج إحدى الدراسات التي أجراها باحثون في جامعة بوسطن الأميركية، إذ قاموا بتصنيع نسخة هجينة من فيروس “سارس-كوف-2” الذي سبّب جائحة “كوفيد-19″، نتج الفيروس الهجين عن إضافة بروتين “إس” (S) أو البروتين الشوكي الخاص بمتحور أوميكرون إلى سلالة من الفيروس عزلت في بداية الجائحة عقب انتشار الفيروس إلى الولايات المتحدة في بداية عام 2020، وذلك في محاولة لفهم الفيروس بشكل أفضل والبحث وراء الأسباب التي تجعل أوميكرون أقل حدة من الفيروس الأصلي.

وقد نشرت مسودة الورقة البحثية التي أثارت نتائجها الجدل في منصة “بيو أركايف” (bioRxiv) للنشر المباشر بتاريخ 14 أكتوبر/تشرين الأول 2022.

وتداولت الأخبار أن الفيروس الهجين قتل 80% من فئران التجارب، ليثور الرعب والتساؤلات حول جدوى هذا النوع من الأبحاث وإذا كان يستحق المخاطرة.

فما أهمية نتائج هذه الدراسة؟ ولماذا قد يحتاج العلماء إلى تخليق الفيروسات في المعمل؟ هذا ما نحاول الإجابة عنه هنا.

إجراء التعديلات الوراثية على الفيروسات لاكتشاف وظيفة بعض مكوناتها ودورها في المرض (بيكسابي)

كيف أصبح فيروس “سارس-كوف-2” أقل ضراوة؟

عُرف متحور أوميكرون بأنه قابل للانتشار بشكل كبير، حتى بين الأفراد الذين حصلوا على عدة جرعات من اللقاح، ولكن لحسن الحظ يسبب أوميكرون أعراضا أقل حدة مقارنة بالمتحورات الفيروسية الأخرى، فما السبب وراء ذلك؟ أراد الباحثون من جامعة بوسطن أن يعرفوا إذا كانت الطفرات في بروتين (S) أو البروتين الشوكي -المكون للنتوءات التي تمنح فيروسات كورونا شكلها التاجي المميز- هي السبب وراء تغير طبيعة الفيروس وجعله أقل ضراوة.

يقول عالم الفيروسات الجزيئية وكبير العلماء في شركة “مايكروبيتكس”، إسلام حسين، “يلعب بروتين (S) دورا كبيرا في تعامل الفيروس مع الجهاز المناعي الخاص بنا، وقد أراد الباحثون أن يعرفوا إذا كانت قلة حدة متحور أوميكرون ناتجة عن التغيرات التي طرأت على هذا البروتين أم إن السبب هو اختلافات في مناطق أخرى من المادة الوراثية للفيروس، وهو سؤال منطقي يحتاج إلى تجارب تمكن العلماء من قياس هذه الاختلافات”.

قارن الباحثون بين الفيروس الأصلي، ومتحور أوميكرون، والفيروس الهجين باستخدام نموذج من فئران التجارب المُعدلة وراثيا كي يصبح لديها المُستقبل نفسه الذي يرتبط من خلاله فيروس “سارس-كوف-2” بخلايا البشر ويسبب العدوى.

وأفادت النتائج بأنه بينما يتسبب متحور أوميكرون في عدوى خفيفة وغير مميتة، تسبب الفيروس الهجين الحامل لبروتين (S) الخاص بأوميكرون (S) في حدوث أعراض شديدة تسببت في وفاة 80% من فئران التجارب. ويشير ذلك إلى أن ضراوة الفيروس وشدة المرض لا تتعلقان بطفرات بروتين (S)، على الرغم من أن تلك الطفرات هي السبب في هروب متحور أوميكرون من المناعة الخلطية التي تسببها اللقاحات.

ويقول حسين إن “الجدير بالذكر والأمر الذي لم تركز عليه وسائل الإعلام هو أن نتائج الدراسة تشير إلى أن الفيروس الهجين أقل ضراوة من الفيروس الأصلي، إذ قتل الفيروس الأصلي جميع فئران التجارب. وأود التشديد على أن هذه الفئران هي نظام تجريبي غير طبيعي ولا يمثل حقيقة المرض بالكامل، حيث تراوح نسبة الوفيات الناتجة عن فيروس كورونا الذي خرج من مدينة ووهان الصينية بين 2-3%، ولم تتجاوز نسبة 10% حتى في أحلك الظروف، مثل التي مرت بها دولة إيطاليا نتيجة للضغط الشديد على النظام الصحي”.

الباحثون لا “يضربون الودع”

وقد صمّمت فئران التجارب المستخدمة في الدراسة خصيصا لتكون أكثر عرضة من الفئران الطبيعية للإصابة بمرض “كوفيد-19”. وبينما لا تعدّ حيوانات التجارب المعدلة وراثيا الحل الأمثل ولا تحاكي الواقع محاكاة تامة، أوضح حسين أنها تعدّ من أفضل الوسائل المتاحة لإيجاد الإجابات التي يحتاج إليها الباحثون حول العدوى الفيروسية. كذلك أشار عالم الفيروسات الجزيئية إلى أن تخليق الفيروسات الهجينة أمر ليس بجديد، وأن هذا النوع من الأبحاث ينفّذ على نحو روتيني منذ عشرات السنين، وهو ضروري لفهم طبيعة الفيروسات بشكل أعمق.

قد تندرج بعض هذه الأبحاث تحت توصيف “أبحاث اكتساب الوظيفة” (gain of function research). وتُعرف أبحاث اكتساب الوظيفة بأنها تجارب طبية تتضمن إحداث تغيير جيني في كائن ما بطريقة قد تعزز بعض الوظائف الحيوية، مثل التسبب في المرض أو قابلية الانتقال أو نوع العائل الذي يمكن أن يصاب بالعدوى.

يقول حسين إن “الباحثين لا يضربون الودع، ولا بد من تجارب ذات نتائج قابلة للقياس، ومن دون مثل هذه الأبحاث سنكون في ظلام دامس وبلا بيانات علمية نستند إليها لإجراء مزيد من الأبحاث التي من شأنها أن تؤدي إلى تطوير علاجات ولقاحات أكثر فعالية”.

ويعتقد البعض أن تعديل الفيروسات وتخليق نسخ هجينة منها أمر خطير للغاية، لكن عالم الفيروسات الجزيئية يقول إنه “كلما توفرت للباحثين أدوات تمكنهم من فهم الفيروسات تمكنوا من الإجابة عن الأسئلة الضرورية حول العدوى. وفي تلك الأبحاث، يلجأ العلماء إلى تغيير المادة الوراثية للفيروس وقياس تأثير هذا التغيير داخل نظام معملي بيولوجي تحت ظروف عالية للغاية من الأمان الحيوي، وليست معامل تقليدية، وهذا الجزء الذي تتجاهله الأخبار المتداولة حول هذه الأبحاث”.

بينما قتل الفيروس 100% من فئران التجارب، كانت نسبة الوفيات الحقيقية تتراوح بين 2-3% فقط (الفرنسية)
بينما قتل الفيروس 100% من فئران التجارب كانت نسبة الوفيات الحقيقية تراوح بين 2-3% فقط (الفرنسية)

معايير الأمن والسلامة

ويوضح حسين أن “التجارب التي أثارت الجدل أخيرا أجريت في معامل تطبق مستوى السلامة البيولوجية الثالث (BSL3)، وهي درجة متعارف عليها في المعامل التي تعمل على الميكروبات بشكل عام وبها عدة صمامات أمان، وقد تحتوي معامل الفيروسات على ما هو أسوأ من ذلك الفيروس الهجين، إذ يوجد فيروسات طبيعية أكثر خطورة بآلاف المرات محفوظة في معامل محصنة جيدا”.

ووفقا له، فإذا لم توجد مثل تلك المعامل والعينات الفيروسية المحفوظة بها، “ما كنا لنتمكن من تحديد عوامل خطورة الفيروس، من ثم لن نتمكن من تطوير أدوات للوقاية والعلاج نحمي بها أنفسنا”، ويسير العمل في هذه المعامل وفقا لبروتوكولات متفق عليها لحماية الباحثين الذين يجرون التجارب كي يتمكنوا من إجرائها في بيئة آمنة ويخرجوا بنتائج تفيد البشر.

ومن أجل القيام بمثل هذه الأبحاث لا بد أن يحصل الباحثون على عدة تصاريح من جهات مختلفة، وللحصول على هذه التصاريح تجتمع لجنة السلامة البيولوجية لتقييم الأمر والتأكد من تفاصيل التجارب وتطبيق معايير السلامة، وفي النهاية قد لا تصرح اللجنة بإجراء التجارب إذا لم تستوف الشروط المحددة التي تضمن السلامة للباحثين الذين يجرون التجارب ولعامة الناس. ويدخل في هذا التقييم فحص دقيق لحجم المنفعة المرجوة من وراء هذه الأبحاث في مقابل درجة الخطورة المتوقعة.

يحتفظ الباحثون بعينات الفيروسات الأكثر خطورة في المعامل التي تطبق مستوى السلامة البيولوجية الرابع (غيتي إيميجز)
الباحثون يحتفظون بعينات الفيروسات الأكثر خطورة في المعامل التي تطبق مستوى السلامة البيولوجية الرابع (غيتي)

جدل في المجتمع العلمي

لطالما كانت مزايا أبحاث اكتساب الوظائف موضوع نقاش وجدل حاد بين العلماء؛ حيث يرى بعض العلماء أن هذا النوع من الأبحاث به مخاطرة كبيرة ولا ينبغي السماح به، بينما يرى آخرون أن إجراء مثل تلك التجارب ضروري كي يسلّحنا بالمعرفة ضد مسببات المرض، مع التشديد على عدم التساهل في معايير الأمن والسلامة.

يقول إسلام حسين “عند حدوث خلاف غالبا ما يعلو صوت الجهة التي لا تؤيد أبحاث اكتساب الوظيفة، ويتعاطف الجمهور مع تلك الجهة نظرًا للأفكار التي يتم تداولها حول أن فيروس كورونا المُستجد قد تم تصنيعه في المعمل، ويساعد الجهل بأهمية هذه الأبحاث ومعايير الأمن والسلامة التي تطبق عليها في انتشار مثل هذه الأفكار”.

في عام 2014 قيدت الولايات المتحدة الأبحاث على مسببات الأمراض خوفا من التسبب في حدوث جوائح عارضة وحرصا على الصحة العامة. آنذاك، رأى بعض الباحثين أن الحظر الذي فرضته معاهد الصحة الوطنية الأميركية على تلك الأبحاث كان واسع النطاق أكثر من اللازم، وبعد مرور قرابة 3 سنوات رفعت الحكومة الأميركية حظرها على تمويل التجارب التي تجعل مُسبِّبات أمراض معينة أكثر فتكًا أو قابلية للانتقال في نهاية عام 2017، وأصبح بإمكان الباحثين استخدام الأموال الفدرالية في إجراء أبحاث “اكتساب الوظائف” على مُسبِّبات الأمراض بشكل قانوني، مع التأكيد أن طلبات الباحثين للحصول على المِنَح ستخضع لمزيد من التدقيق.

وأصدرت جامعة بوسطن بيانا حول التزامها بإرشادات البحث الفدرالية، ينص على أن جامعة بوسطن أوفت بجميع الالتزامات والبروتوكولات التنظيمية، وأنه “لم يكن هناك اكتساب للوظيفة مع هذا البحث”.

وأشارت الجامعة إلى أن البحث تمت مراجعته والموافقة عليه من قبل لجنة السلامة الحيوية المؤسسية (IBC) التي تتكون من العلماء وأعضاء المجتمع المحلي، وأن لجنة بوسطن للصحة العامة قد وافقت على البحث.

المصدر: وكالات + الجزيرة نت

Share.

صحفية عراقية من اربيل خريجة وزارة الاعلام في اربيل سنة 2004

Comments are closed.