مقدمة الترجمة

بينما تدُك قوات الاحتلال الإسرائيلي قطاع غزة، وتقطع الخدمات الأساسية عن أهالي القطاع من كهرباء وماء وغذاء، يبدو أن خدمات الإنترنت التي تنقطع بين الحين والآخر ولا تتوافر إلا في أماكن بعينها، ما زالت تتيح تواصل بعض أهل القطاع مع العالم الخارجي. في هذا المقال، تنقلنا “كلير روبينز”، الكاتبة الكندية والعاملة بمجال الإغاثة، إلى قلب كنيسة كاثوليكية، هي الأخيرة من نوعها في غزة، حيث يعاني مسيحيُّوها الأمرَّيْن مثلهم مثل بقية الغزاويين. وقد نشرت كلير مقالها في موقع أتلانتيك الأميركي بفضل التواصل الذي بقي حيًّا حتى وقت قريب مع أحد المُنتسِبين للكنيسة.

نص الترجمة

إنها الساعة الواحدة بعد منتصف الليل من يوم 12 أكتوبر/تشرين الأول، اليوم الرابع لهجوم إسرائيل على قطاع غزة، وصديقي رامي لا يزال مُستَيقظا ويُرسل إليّ الرسائل النصية من مقعده داخل كنيسة العائلة المُقدَّسة (دير اللاتين) في مدينة غزة، حيث يختبئ هو وعائلته من الضربات الجوية الإسرائيلية.

يحادثني رامي عن المبنى السكني لأهله الذي ضُرِب يوم 11 أكتوبر/تشرين الأول ودُمِّر بالكامل. الآن ينام رامي وزوجته وطفلاهما على مراتب داخل باحة الكنيسة، جنبا إلى جنب مع نحو 200 من أهل غزة النازحين أو المُهجَّرين من بيوتهم. ولأن رامي يخشى على أمنه الشخصي، فإنني أستخدم هنا اسمه الأول فقط.

يوجد نحو 40 طفلا في الكنيسة، كما أبلغني رامي، في حين يحاول الكِبار إلهاء الصغار في الوقت نفسه الذي تتعالى فيه أصوات القذائف وتهُز المبنى. يلعب الأطفال كرة القدم داخل باحة الكنيسة لأن اللعب في الخارج لم يعُد خيارا مُمكِنا، أما الكِبار فيُصلُّون ويطالعون هواتفهم المحمولة بين الحين والآخر لمتابعة آخر الأخبار.

حتى الآن نَجَت كنيسة العائلة المقدسة من الحروب التي طالت غزة، والمسلمون والكاثوليك على حدٍّ سواء يرون فيها الخيار الأفضل للاحتماء من الحرب. (الصورة: شترستوك)

يريد رامي أن يبتكر نشاطا جديدا للغد كي يُرفِّه عن الأطفال دون استخدام الطاقة، لكنه مُتعَب وقلِق إلى درجة تعوقه عن التفكير. المزيد من كرة القدم إذن، هكذا يُقرر رامي. هناك 500 شخص بالغ وطفل لاجئين داخل دار الأيتام التابع للكنيسة والمدرسة الكاثوليكية التي لا تبعُد هي الأخرى مسافة كبيرة عنها، لكن الحركة بينهما تُشكِّل خطورة.

تُعَدُّ كنيسة العائلة المقدسة المعروفة أيضا بدير اللاتين آخر كنيسة كاثوليكية في غزة، كما أن رامي واحد من 137 كاثوليكيا في المدينة، ومن تعداد القطاع المسيحي الآخذ في الانكماش. صغيرة هي الكنيسة، فهي مكوَّنة من بناء من الحجر الجيري بُني في ستينيات القرن الماضي، وأمكن أن تكتظ بسهولة إن توافدت عليها بضع عائلات في ليلة عيد الميلاد، ناهيك بعدد أكبر من النازحين.

حتى الآن نَجَت الكنيسة من الحروب التي طالت غزة، ولأن الكثير من المباني السكنية قد سُوِّيَت بالأرض، فإن المسلمين والكاثوليك على حدٍّ سواء يرون فيها الخيار الأفضل للاحتماء من الحرب. تفتح الكنيسة أبوابها لكل مَن استطاع أن يصِل إليها سالما، كما يُؤكد الأب “غابرييل رومانيللي”.

منذ نحو عام ونيف، التقيت الأب غابرييل عند معبر بيت حانون المؤدي إلى غزة من إسرائيل، الذي دُمِّر مؤخرا. كان يوما خانقا من أيام أغسطس/آب، وقد وقف في ثوبه الأسود الطويل بين عاملي الإغاثة، ودعاني إلى زيارة الكنيسة. يتحدث القِس الأرجنتيني العربية بطلاقة، ويحاول أن يُحسِّن من طبيعة الحياة في غزة، حيث يُنظِّم وِرَشا للمهارات المختلفة، ويجتذب الشباب للتطوُّع من أجل تلبية حاجات جيران الكنيسة من المسلمين الكبار في السِّن، أما في أجواء الصيف الحارة، فيُنظِّم عملية تأجير الأماكن الخاصة على شاطئ غزة كي تسبح النساء دون خوف من أن يراهن أحد.

كان الأب غابرييل (يسار) في بيت لحم يجلب الدواء غير المُتاح في غزة حين قامت حماس بعمليتها العسكرية في إسرائيل. (الصورة: شترستوك)

لقد عمل الأب غابرييل في عدد من مناطق الحروب في الشرق الأوسط، لكن الحاجة ماسة في غزة بشكل مختلف عن غيرها، كما قال لي ذات مرة. وقد كان الأب غابرييل في بيت لحم يجلب الدواء غير المُتاح في غزة حين قامت حماس بعمليتها العسكرية في إسرائيل. ونحن على تواصل منذئذ، ويقول لي في رسائله اليومية وتسجيلاته الصوتية إنه يشعر بالصدمة والخوف.

أما رامي فيعمل لصالح جمعية خيرية طبية، وقد التقيته عام 2022 حين ترجم لي محادثاتي مع ثلاثة صبيان نجوا من غارة جوية على منزلهم. بعد أن بدَّل الأطباء الضمادات على جراح الصبية، طلبوا من رامي أن يُقِلَّهم بسيارته إلى منزل قريب لهم لأنهم لا يملكون المال الكافي كي يطلبوا سيارة أجرة. في تلك اللحظة بدأت أبكي، وشعرت بالخِزي، وتأثر رامي أيضا. تحدَّث رامي عن ذهابه المُتكرر إلى مخزن الأدوية وبكائه هناك. بعد كل هذه السنوات وكل هؤلاء المرضى الذين داواهم، لا يزال يشعر بأنه في حاجة إلى البكاء.

اليوم، بات رامي في الموضع نفسه لهؤلاء الأولاد، لكن مشاعره لم تتحرَّك هذه المرة. لقد أخبرته بأسفي الشديد حيال منزله الذي تهدَّم، فرَدَّ عليّ في الحال: “كل شيء على ما يُرام.. لا تقلقي”. يقول رامي إن القلق الحقيقي يتعلَّق بإمدادات المياه والوقود من أجل مُولِّدات الكهرباء في الكنيسة.

في صباح يوم 13 أكتوبر/تشرين الأول، سمعت الراهبة نبيلة أن القوات الإسرائيلية أمرت بإخلاء جميع سكان غزة للمنطقة الواقعة شمال وادي غزة، بما في ذلك مركز المدينة حيث تقع كنيسة العائلة المقدسة. (شترستوك)

تعمل هنا أيضا “نبيلة”، راهبة مصرية التقيتها عن طريق الأب غابرييل، وهي تدير ملجأ أُعِد على عَجَل في المدرسة الكاثوليكية القريبة من الكنيسة. أغلقت نبيلة هاتفها، على الأرجح كي تحفظ طاقة البطارية قدر الإمكان، ومن ثمَّ فإن أيًّا من رسائلي إليها لن تصل.

في صباح يوم 13 أكتوبر/تشرين الأول، سمعت أن القوات الإسرائيلية أمرت بإخلاء جميع سكان غزة للمنطقة الواقعة شمال وادي غزة، بما في ذلك مركز المدينة حيث تقع كنيسة العائلة المقدسة، والاتجاه جنوبا. أرسلت رسالة نصية إلى رامي وسألته إن كان قد طُلِب منهم إخلاء الكنيسة. شعر رامي بالذُعر والحيرة، لأن الأنباء لم تكن قد وصلته بعد. “أرجوكِ، نحن مئتا شخص ولا نملك قرارا حتى الآن”.

لقد شعرت بالغثيان لأنني الشخص الذي نقلت إليه الخبر. أبلغني رامي أنه سيراسلني في وقت لاحق حين تتسنَّى له معرفة المزيد عن الوضع. في نهاية المطاف، كان الأب غابرييل هو مَن أبلغني بما يدور: لقد تلقَّى كل المُقيمين في الكنيسة ودار الأيتام والمدرسة أوامر بالرحيل، وبات لِزاما عليهم أن يبحثوا عن ملجأ جديد.

_____________________________

ترجمة: ماجدة معروف

هذا التقرير مترجم عن The Atlantic ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.

المصدر: وكالات + الجزيرة نت

Share.

صحفية عراقية من اربيل خريجة وزارة الاعلام في اربيل سنة 2004

Comments are closed.