في بقعة منسية غرب أفريقيا يسكنها أغلبية مسلمة تفوق 90%، أدلى الناخبون الماليون بأصواتهم في يونيو/حزيران الماضي على مشروع دستور جديد يعوَّل عليه لتغيير الواقع السياسي الهش الذي تغرق فيه البلاد منذ انقلاب المجلس العسكري على الرئيس “باه نداو” قبل ما يقرب من ثلاث سنوات. ورغم تأكيد العقيد “أسيمي غويتا”، زعيم الانقلاب الذي نصّب نفسه رئيسا مؤقتا، أن الاستفتاء الدستوري الذي نظمته مالي بضغط من المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، وحصل على موافقة 97% من أصوات الشعب، يُعَدُّ خطوة حاسمة نحو إعادة البلاد إلى الحكم المدني، تمهيدا لإجراء انتخابات رئاسية في فبراير/شباط عام 2024، فإن كل هذه الأمور لا تكفي لضمان مستقبل ديمقراطي هادئ للبلاد، فقد لا يحدث التغيير السياسي رغم الوعود الكثيرة التي قد تقطعها المؤسسات العسكرية، لكنَّ شيئا واحدا رغم كل شيء يبدو أنه قد يتغير للأبد، هذا الشيء المحوري هو علاقة “باماكو” بـ”باريس”.

يأتي هذا الاستفتاء الجديد بعد أقل من عام على طرد القوات الفرنسية من البلاد، حاملا وجها جديدا يكرس لقطيعة تامة مع فرنسا، مُستعمِر الأمس الذي فرض على البلاد هوية علمانية، ودس اللغة الفرنسية لتكون اللغة الرسمية لمالي المسلمة التي كانت حتى الأمس القريب رهينة لهذا التوجه الفرنكفوني الذي يسيطر على 29 دولة في فضاء أفريقيا الفسيح. خفضت التعديلات الدستورية درجة اللغة الفرنسية من لغة رسمية إلى لغة عمل، لصالح اللغات الأم التي منها العربية، كما مهدت الطريق لإمكانية إلغائها في المستقبل القريب.

سقط عرش فرنسا في باماكو بين ليلة وضحاها، وأصبح يُنظر إلى مالي على أنها تلك الدولة القادرة على قيادة ربيع أفريقي مناهض لفرنسا تمتد عدواه لبقية دول الساحل والصحراء، خصوصا أن الجيل الجديد لم يعد يرى في الوجود الفرنسي الذي صنع أغلب الماضي القريب لدول شمال وغرب أفريقيا سوى وجهه المُستعمِر، وأمام هذه الحقيقة لم يعد بإمكان باريس أن تظل محتفظة بزمام الحاضر والمستقبل في مربع سيطرتها السابق، ويبدو أن البداية قد تكون من مالي.

حضارةٌ عربية ولسانٌ أعجمي

لم يكن غريبا أن تكون المواد المتعلقة بالهوية في مسودة الدستور، وهي علمانية الدولة، وهيمنة اللغة الفرنسية، أكثر المواد إثارة للجدل في أوساط النخبة التي طالبت بانتزاع الإرث الاستعماري للعهد الفرنسي من أحشاء المواد الدستورية التي تغلغل فيها منذ عقود، فرغم استقلالها منذ عام 1960، ظلت مالي الجديدة منفصلة عن هوية الأجداد، خاصة مع إقرار دستور عام 1992 الذي حافظ على استمرار الإرث الاستعماري من خلال علمنة الدولة، وجعل الفرنسية هي اللغة الأم في بلد مسلم ينطق بالعربية التي تبصم على حضور قوي في جُل حضارته وتاريخه القريب، بصمة ترويها مُخطوطات وشواهد صيغت بلغات محلية كانت العربية تتقدمها في أحيان كثيرة، بحكم الدين الإسلامي الذي يدين به أغلب سُكان مالي منذ أكثر من ألف عام، حين وصل الإسلام إلى غرب أفريقيا عبر التجارة، والرحالة العرب في القرن التاسع الميلادي.

على جانب آخر بعيد عن أروقة السلطة، نشأت أجيال أخرى من الطبقة المتوسطة والفقيرة تشعر بانفصام واضطراب الهوية، وتعاني إلى جانب وضع اقتصادي مُزرٍ من عدم الاعتراف بشهاداتها الجامعية في الكليات والجامعات العربية، في مقابل فتح أبواب الوظائف الحكومية وتعيين الخريجين الذين تلقوا تعليما باللغة الفرنسية. ورغم دمج المدارس العربية التي تربو على الألف مدرسة في النظام التربوي الحكومي، وحصولها على اعتراف رسمي منذ عام 1986، فإنّ اندماج هؤلاء الشباب في سوق العمل يتوارى أمام تفرّد حاملي الثقافة الفرنسية ولسانها ممن حصلوا على دعم مالي وسياسي سخي، وبل وحكومي رسمي منذ عام 2003، مقابل أصحاب اللسان العربي في وطنهم الأم.

دام هذا الوضع لسنوات طويلة، لكن في ظل متغيرات كثيرة جرت على السطح في الداخل والخارج، وفجأة ودون سابق إنذار، بدأ النفوذ الفرنسي يتلاشى في غرب أفريقيا مع وصول الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، خصوصا مع دخول مُنافسين كبار للمنطقة وعلى رأسهم روسيا والصين وتركيا، إلى جانب أخطاء ارتكبتها باريس في شمال وغرب أفريقيا، بدأ برهانها الخاطئ في ليبيا بدعمها لخليفة حفتر، مرورا باضطراب علاقتها مع الجزائر إثر أزمات دبلوماسية متلاحقة، وصولا إلى مالي التي كانت في الماضي ملعبا فرنسيا خالصا، قبل أن يتعرض سفيرها للطرد أواخر يناير/كانون الثاني العام الماضي 2022، في واقعة مثَّلت أوضح هزيمة لبلد الجنرال ديغول منذ خروجها من غرب أفريقيا. لم يقف النزيف الفرنسي عند هذا الحد، فبعد هذه الأزمة الدبلوماسية بأيام، خرج رئيس الحكومة في حوار مع وكالة “الأناضول” التركية للتأكيد أن مالي باتت تعتبر كل ما يحمل صبغة فرنسية بمنزلة العدو المباشر لها، المهدد لأمنها واستقرارها.

ورغم صعود النخبة الجديدة التي قادت الانقلاب في مالي أواخر عام 2021، وأخرجت مالي من الوصاية الفرنسية على الأصعدة الأمنية والعسكرية والسياسية، فإن التغيير الشامل لم يكن سهلا ولا خالصا في معاداته لكل ما هو فرنسي، فرغم أن التعديلات الأخيرة أطاحت باللغة الفرنسية من بين اللغات الرسمية للبلاد، فإن لجنة التعديلات في الوقت نفسه تجاهلت صوت الشارع، وأبقت على علمانية الدولة، في وقت تشهد فيه البلاد من أسفل إلى أعلى عملية تغيير واسعة، وطفرة غير مسبوقة في الإقبال على دراسة اللغة العربية خاصة في المدن الكبرى كالعاصمة باماكو، مقابل عزوف واضح عن تعلم الفرنسية، حيث يُنظر إلى لغة العرب من بين كل اللغات المحلية في مالي على أنها الأشد ارتباطا بالدين الإسلامي، وبالتالي فإن هيمنتها ستقود لتقويض العلمانية الفرنسية ذات يوم.

كيف تكرست القطيعة؟

تنتهي قصة هزيمة فرنسا في أهم معسكراتها في منطقة الساحل الأفريقي، بإعلان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في فبراير/شباط العام الجاري 2023 سحب القوات الفرنسية من مالي، لتنتهي بذلك عملية “برخان” التي انطلقت قبل نحو عقد من الزمان، بطلب من حكومة مالي الانتقالية وقتها حين اجتاح “المسلحون الجهاديون” جنوب البلاد، ولم تفوّت فرنسا الفرصة وقتها ودفعت بالآلاف من قواتها إلى بلدان الساحل، غير أن التدخُّل العسكري الفرنسي الذي نجح في البداية، وأعاد زمام الأمور كما أرادت فرنسا، لم يُثمر بعد أشهر على نجاحه إلا الفشل الذريع.

ففي النهاية، سقطت مالي أكثر فأكثر في مستنقع الإرهاب، وتحولت الأزمة من صراع على الحكم إلى حرب أهلية عِرقية بعدما زادت أعداد الجماعات المتمردة الناقمة على السلطة، ليحصد ماكرون النصيب الأوفر من الغضب من المسؤولين والجماهير على حدٍّ سواء، خاصة بعدما قصفت طائراته حفل زفاف، وقتلت 19 مدنيا في حادثة أدانتها الأمم المتحدة، وفاقمت الغضب الشعبي الداخلي ضد باريس.

لعبت فرنسا لعبة متخبطة وبراغماتية ساهمت في زيادة الغضب ضدها في مالي، حيث رفضت أي دعوة للحوار بين الأطراف المتناحرة في مالي، مع ترحيبها باستيلاء المجلس العسكري على السلطة في تشاد، رغم رفض المعارضة السياسية والمسلحة لهذا الأمر، ودعوتها للرئيس الفرنسي إلى الحياد. ولم يكن دافع ماكرون الرئيس من تجاهل الديمقراطية والدستور سوى حماية المصالح الفرنسية في دول الساحل الأفريقي ولو على حساب تلك الشعوب التي كانت يوما ما ضمن المستعمرات الفرنسية، ثم أصبحت اليوم تضخ 50% من احتياطاتها الأجنبية إلى باريس، لتُمثِّل بذلك 14 دولة أفريقية مُستقلة على الورق، لكنها تتعرض لاستعمار مالي خفي، لا تستطيع الفِكاك منه تماما حتى اليوم، في الوقت الذي بدأت فيه عدة دول في غرب أفريقيا محاولة السيطرة بشكل أكبر على عُملتها المالية الأفريقية، مع التخطيط لنقل بعض احتياطياتها بعيدا عن فرنسا.

وبعد مرور تسع سنوات من الوجود العسكري الفرنسي في مالي، لم يحقق جيش فرانسوا هولاند ثم إيمانويل ماكرون أيًّا من أهدافه المعلنة، فلا هو حقق السلام المزعوم، ولا هو منع تمدد تنظيمي الدولة والقاعدة في مساحات شاسعة من الوسط والجنوب، وعلى طول الحدود مع النيجر وبوركينا فاسو، ليكون المكسب الحقيقي الوحيد لفرنسا هو إحكام سيطرتها أكثر فأكثر على مقدرات البلاد.

لكن هذا الوضع بدأ بالتغير مع قرار المجلس العسكري خلع عباءة الفرنسيين، وإطلاق شرارة نهاية النفوذ الفرنسي، معلنا فسخ جميع الاتفاقيات الدفاعية، لترد فرنسا باستخدام نفوذها واتهام المجلس العسكري القريب من روسيا بالمماطلة في وضع جدول زمني للعودة السريعة إلى الحكم المدني، لتدفع بعدها المجموعة الاقتصادية لغرب أفريقيا “إيكواس” لفرض عقوبات اقتصادية على مالي، إلى جانب إغلاق حدود الدول الأعضاء معها وتجميد أرصدتها لدى المصارف ومنع التحويلات البنكية، وسحب جميع الدبلوماسيين من باماكو، وإلغاء جميع أشكال التعاون معها خصوصا على المستوى المالي، ليكون الاستثناء الوحيد في هذه العقوبات السارية حتى اليوم هو السماح بدخول الأدوية والمواد الغذائية.

استفادت النخبة في مالي من الغضب المتصاعد ضد فرنسا بسبب وجودها العسكري، لطردها من البلاد بذريعة الاحتلال والفشل مباشرة بعد انقلاب 2020، حيث اتهم قادة الانقلاب فرنسا بالتدخل في شؤون بلادهم، ليطلبوا بعد ذلك المساعدة الأمنية من روسيا ومجموعة “فاغنر”، وفي الوقت نفسه، ضغط قادة الجيش المالي على الأمم المتحدة لإنهاء مهمة بعثة حفظ السلام الموجودة في البلاد، وتقليص القوات الأجنبية حتى يكتمل الانسحاب الكامل في يناير/كانون الثاني العام القادم 2024، أي قبل موعد إجراء الانتخابات الرئاسية في ظل فراغ دستوري وأمني تشهدهما مالي.

منافسو فرنسا أكثر دهاء

خسرت فرنسا معركة النفوذ في أفريقيا لأسباب عديدة، منها وجود منافسين ولاعبين جدد أكثر دهاء على غرار الصين وروسيا، فموسكو التي خسرت نفوذها القديم في القارة السمراء عقب انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991 أعادت تموضعها من جديد بعد ثلاثة عقود، وذلك عبر المساعدات الأمنية التي قدمتها شركة فاغنر للحكام والجيوش، وزاد من نشاطها الفراغ الداخلي الكبير الذي تسبب فيه الانسحاب الفرنسي من مالي. تسبب هذا الانقلاب في مالي في تزايد المخاوف الخارجية لدول أخرى كانت كـ”باماكو” متعاونة هي الأخرى بشكل كامل مع باريس، التي خشيت على نفسها من المصير ذاته، مخاوف تحققت بالفعل بعد فشل العملية العسكرية الفرنسية في بلدان مجاورة مثل بوركينا فاسو وجمهورية الكونغو الديمقراطية، وكانت صور المتظاهرين وهم يحملون علم روسيا عقب انقلاب بوركينا فاسو دليلا آخر على أن عقد الوجود الفرنسي في المنطقة انقطع، حيث بدأت حباته  تنفرط الواحدة تلو الأخرى.

ورغم المحاولات المستميتة التي يقوم بها إيمانويل ماكرون في مسعى منه لتحويل السياسة الفرنسية في القارة بعيدا عن التدخل العسكري، فإن التدخل العسكري ذاته كان بوابة عبور دول أخرى إلى مناطق النفوذ الروسي، كما حدث في مالي وجمهورية أفريقيا الوسطى، حيث يساعد مقاتلو فاغنر الحكومات في محاربة المسلحين والقوات المتمردة.

تخشى دول أفريقية عدة من أن يؤدي الانسحاب الفرنسي من مالي إلى تراجع عسكري عام، ما يدفعها إلى محاولة ترتيب الأوضاع عبر الدخول تحالفات إقليمية ودولية. ويزيد تصاعد الاعتداءات في الأسابيع والأشهر الأخيرة، خصوصا في مالي أو بوركينا فاسو وجمهورية الكونغو الديمقراطية، من مخاوف دول أفريقية عدة، خصوصا مع وجود مشكلات داخلية عميقة من قبيل ارتفاع الأسعار عالميا بسبب الغزو الروسي لأوكرانيا، وتفشي أوبئة عدة مثل جدري القرود في القارة الأفريقية، فضلا عن انعدام الاستقرار السياسي في بلدان مثل إثيوبيا وكينيا وأفريقيا الوسطى.

لم تعد فرنسا بعد اليوم ذات الكلمة الأولى والأخيرة في أرض السمر، فأينما ولّت وجهها اليوم تجد منافسا يزاحمها ويكاد يُقصيها، في وقت ينفَضُّ فيه حلفاؤها عنها وتتآكل أوراق نفوذها التقليدية، وتنشغل داخليا بمعاركها السياسية الفارغة حول الهجرة والحجاب وأماكن عبادة المسلمين. لذلك، وبغض النظر عن التصريحات والتحركات الدبلوماسية التي تهدف إلى إثبات الذات والتمسك بإرث القوة البائدة، تُدرِك باريس اليوم أن العالم تجاوز اللحظة التي تصرَّفت فيها بوصفها قوة كبرى، فلربما آن الأوان كي يعترف الفرنسيون بأفول زمنهم الأفريقي.

_______________________________________

المصادر:

  1. Mali approves constitutional amendments in constitutional referendum
  2. Mali’s military junta holds referendum on new constitution it calls a step toward new elections
  3. Mali counts votes from referendum expected pave the way to elections
  4. Mali split ahead of referendum vote to pave way for election
  5. French in Africa: 29 Countries Where French is Spoken
  6. Mali – Countries – Office of the Historian
  7. Faith and Commerce: How Did Arabic Come to West Africa?
  8. التعليم العربي بمالي.. تاريخ مشرق وواقع صعب
  9. School in Mali: Studying its implications, role and curriculum through the experiences of five former students
  10. Mali expels French envoy over foreign minister’s remarks
  11. رئيس وزراء مالي: فرنسا تدعم جماعات انفصالية وتسعى للإطاحة بالحكومة (مقابلة)
  12. Mali, a Coup within a Coup
  13. دستور مالي الجديد.. هل يمحو إرث فرنسا؟ | بودكاست بعد أمس
  14. Mali : la France acte son retrait avec la fin de l’opération militaire « Barkhane »
  15. French air attack in Mali killed 19 unarmed civilians, UN says
  16. How the France-backed African CFA franc works as an enabler and barrier to development
  17. Mali junta breaks off from defence accords with France

المصدر: وكالات + الجزيرة نت

Share.

صحفية عراقية من اربيل خريجة وزارة الاعلام في اربيل سنة 2004

Comments are closed.