“الأمر قد يبدو سخيفا، ولكن حقيقة هو غاية في الأهمية، ببساطة لأن سرعة المباراة معتمدة على طول العشب”.

صدِّق أو لا تصدِّق، المقولة السابقة ليست منسوبة لتشافي هرنانديز، الرجل الذي قد يكون أكثر مَن اشتكى من عشب الملاعب عبر التاريخ، بل إلى أرسين فينغر، الرجل الذي يعُدها قضية مهمة في كرة القدم، ويصارع منذ عقود -من قبل إطلاق تشافي تصريحه الشهير في 2011- في مواجهة اتهامات التفاهة والسخافة والتهافت.(1)(2)

أرتيتا له باع طويل في انتقاد عشب ملاعب إنجلترا بدوره، ولكن صدِّق أو لا تصدِّق أيضا، لاعبو الوسط التقنيون ليسوا الوحيدين الذين يشتكون من رطوبة العشب وطوله في بعض الملاعب، في الواقع الأمر نسبي للغاية، ومرتبط بالأسلوب التكتيكي الذي يستخدمه المدرب في أثناء المباراة.(3)

أساطير شعبية

أنطونيو كونتي، وهو لاعب وسط سابق بدوره على درجة من المهارة التقنية وإن لم تكن بذات درجة تشافي أو حتى أرتيتا، كانت له واقعتان متناقضتان في ذات القضية، عندما واجه برشلونة في ستامفورد بريدج، في فبراير/ شباط 2018، منح تعليماته لعمال الملعب بإبقاء العشب في أعلى طول ممكن، وتقليل جرعة المياه في أثناء الرش، وفي يونيو/ حزيران 2016 انتقد الرجل نفسه -الذي كان يدرب إيطاليا آنذاك- حالة ملعب بيير موروي في أثناء يورو 2016، قبل مواجهة أيرلندا، واصفا العشب بأنه “غير صالح لاستضافة مباراة في بطولة أوروبية كبرى”.(4)

الفارق في الحالة الثانية أن أيرلندا كانت هي الطرف الأضعف، وهي التي انتهجت نهج كونتي ضد برشلونة، وبالتالي كانت حالة العشب السيئة من حيث الطول والرطوبة تلعب لصالحها.

هل من الممكن أن يلعب العشب لصالح فريق دون الآخر؟ بالطبع، في حال كان الفريقان متناقضين في الأسلوب كما حدث مع كونتي، القصة تعتمد على قوانين الفيزياء البسيطة، والغرض من إطالة العشب أو تركه جافّا هو التأثير على الحدث الأكثر تكرارا في المباراة بالنسبة للفريق المستحوذ المبادر، التمريرات الأرضية.

عشب طويل جاف يعني مقاومة أكبر لحركة الكرة في أثناء التمرير الأرضي، وفي الوقت ذاته امتصاص أعلى لصدمة الكرات الطولية العالية عند هبوطها، مثل تلك التي اعتمدت عليها أيرلندا ضد إيطاليا، واعتمد عليها كونتي نفسه ضد برشلونة، ما يعني تمريرات بينية أبطأ في أثناء محاولات اختراق التكتل الدفاعي، وترويض أسهل للكرات الطولية في المساحات الهائلة خلف دفاع الخصم.(5)

طبقا للائحة البريميرليغ، وكذلك لائحة الاتحاد الأوروبي، فإن أقصى طول مسموح للعشب هو 30 ملم، ولكن توم وورفيل، عالم البيانات الذي ينشط حاليّا مع نادي “آر بي لايبزيغ الألماني” (RB Leipzig)، ومحرر “ذي أثلتيك” (The Athletic) السابق، كان قد أجرى حوارا لصالح مدونته “Training Ground Guru” مع مالك إحدى الشركات المتعاونة مع أندية البريميرليغ لصيانة عشب الملاعب، وفيه أكد أن أغلب الأندية تقصه على ارتفاع 22 ملم فقط، وباستثناءات قليلة.(6)

المشكلة في تلك الاستثناءات القليلة أنها انتقائية، بالضبط كما حدث مع كونتي، في 2011 مثلا، وبعد انتقاد تشافي لحالة عشب الميستايا، ملعب فالنسيا، خرج أوناي إيمري، مدرب الخفافيش آنذاك، مصرحا أن كل فِرق الليغا تمارس الأسلوب ذاته، وتعدِّل مواصفات العشب طبقا لمصلحتها، الشاهد هنا أن إيمري قد يتعمد إطالة العشب وتجفيفه قبل مواجهة دفاعية ضد برشلونة، ولكنه لن يفعل الشيء ذاته في مباراة يتوقع فيها أن تتبدل المواقع، ضد فريق يصارع الهبوط مثلا.(2)

أعذار تافهة

براد هيرز، حارس المرمى والمدرب والحكم السابق بالاتحاد الأميركي لكرة القدم، يعتقد أن المشكلة الأساسية في تغيير طول العشب أو درجة رطوبته، بالإضافة إلى التأثير على ميكانيكية حركة الكرة، هي حقيقة أن العشب الطويل لا يسمح للاعب برؤية الكرة بكامل استدارتها أساسا، وحينها تكون احتمالية الخطأ في التمرير أعلى بداهة.(7)

تاريخيا كان من المعتاد عند لحظة ما أن يقص الفريق العشب على طول 22 ملم في كل الملعب ويتركه عند 30 ملم على الأطراف، بالطبع نتحدث هنا عن الفِرق التي تركن عادة للدفاع، والهدف هو تعطيل حركة الكرة في أقدام الأجنحة المهارية في أثناء المراوغة وسباقات الركض القصيرة، كانت تلك ممارسة معتادة حتى أصدر الاتحاد الإنجليزي قانونا ينص على تساوي طول العشب عبر كامل مساحة الملعب، بالإضافة لإجبار صاحب الأرض على أن يكون طول العشب موحدا بين وقت تدريب الضيوف ولحظة بدء المباراة الفعلية، منعا لطريقة أخرى من التلاعب لا بد أنك قد خمنتها.

طبعا لم تكن تلك هي الحيل الوحيدة التي تملكها الأندية، في 1987 مثلا، عندما كان غرايم سونيس مدربا لرينجرز الأسكتلندي، تعمد التلاعب بأبعاد الملعب ذاتها قبل مواجهة مهمة في دوري الأبطال ضد دينامو كييف، لرغبته في التأثير على قدرات أجنحة الفريق الأوكراني، التي تدربت على أقصى أبعاد مسموحة للملعب عشية المباراة، ثم فوجئت بتقلصها لحظة إطلاق الصافرة!(8)

“ما دامت أبعاد الملعب تفوق الحد الأدنى، فلم يكن هناك قانون ينص على ثبات تلك الأبعاد، لذا فكرت في تركهم يتدربون على الملعب بأبعاده العادية، ثم رأيتهم يُصعقون بعد بداية المباراة عندما اكتشفت أجنحتهم أنها تصل لخط المرمى بعد 15 خطوة فقط، لم يكن الأمر صحيحا 100%، ولكنه كان قانونيا!”.

(غرايم سونيس عن الواقعة (8))

كل ذلك لا يُقارن بالخطر الحقيقي الذي يهدد اللاعبين على العشب الجاف الطويل، الاتحاد الأوروبي مثلا يفرض على صاحب الأرض رش الملعب بالمياه قبل المباراة وبعد الإحماء وبين الشوطين، الاتحاد الإنجليزي يكتفي بالأولى، وتلك كانت مشكلة أرتيتا الثانية مع ملعب تيرف مور، بالإضافة لطول العشب ذاته، وهناك عديد الدراسات والتجارب التي تؤكد أن جفاف العشب وطوله يزيدان من احتمالات إصابات المفاصل والغضاريف، نتيجة لتغير مقاومة العشب لأحذية اللاعبين، ودرجة امتصاصه للصدمات في أثناء القفز أو العرقلة.(9)

في الواقع إحدى تلك الدراسات تفسر تراجع معدلات الإصابة في العقدين الأخيرين مقارنة بمعدلات القرن الماضي بهذه التفصيلة تحديدا، سابقا كان عشب الملعب يُزرع في الطين، وكانت صيانته شديدة الصعوبة، كما تصريف المياه في الأيام الممطرة، وكل ذلك كان يؤدي للكثير من العضلات المتمزقة والعظام المكسورة، نتيجة التزحلق وصعوبة الارتكاز والركض مقارنة بالعصر الحالي الذي يُزرع فيه العشب على طبقة رملية، ومن أسفلها طبقة أخرى من الحصى هدفها الأساسي تصريف المياه بمجرد زيادتها على حاجة العشب.(10)

كل ذلك بالإضافة لكثافة العشب ذاته عوامل شديدة التأثير على حركة الكرة ودورانها، الهدف الأصلي من تطوير أرضيات الملاعب بهذه التقنيات هو نزع تأثير عامل التربة من المعادلة، ببساطة لأنه صعب التوقع والتحكم فيه شبه مستحيل، الهدف هو أن يكون العشب الرطب هو السطح الوحيد الذي يلامس أقدام اللاعبين والكرة، لأن مرونته تقيهم شر الإصابات، وبطبيعة الحال تزيد من سرعة اللعب وإثارته.

مغالطات منطقية

هل اقتنعت؟ بالطبع لا، من الصعب الاقتناع بأن 8 ملم وطنين من المياه قد تكون الفارق بين الهزيمة والانتصار، لو كنا مكانك لما اقتنعنا كذلك، ولكن الخبر السعيد أن تلك المليمترات الثمانية وتلك الأطنان الإضافية من المياه لا تحتاج إلى أن تكون الفارق بين الهزيمة والانتصار لتؤثر على نتيجة المباراة.

تلك هي المغالطة الأولى التي عانى منها أرسين فينغر وتشافي وأرتيتا وكل مَن سبقوهم وكذلك كل مَن سينتقدون حالة العشب في المستقبل، أن السؤال الأول غالبا ما يكون خطأ، السؤال الصحيح هو: هل هناك عنصر واحد من عناصر اللعبة يمكنه حسم نتيجة أي مباراة بمفرده؟ هل يمكن للجمهور وحده جلب الانتصار لفريقه؟ الحارس؟ أسلوب لعب المدرب؟ الطقس؟ حتى هدف احتُسب بالخطأ في بداية المباراة لا يزال عاجزا عن تقرير كل ما سيحدث لاحقا بطريقة نهائية، لكنه في الوقت ذاته شديد التأثير عليه.

فكِّر كم مرة مرت الكرة بجانب يدَي الحارس أو حذاء المدافع بمليمترات بسيطة كانت كفيلة بمرورها للشباك، وكم عرقلة تحولت عقوبتها من البطاقة الصفراء للحمراء لتقدير خطأ بأجزاء بسيطة من الثانية، وكم ركلة ركنية عكسية أو مخالفة غير صحيحة سُجلت منها أهداف!

المباراة ما هي إلا تراكم للعشرات من تلك الحالات، والافتراض بأن واقعة واحدة منها كفيلة بحسم الأمور هو أشبه بالبحث عن السراب، المنتقدون يطالبون العشب بأن يقرر نتيجة المباراة منفردا حتى يعترفوا بتأثيره، وهذا لن يحدث أبدا، لا مع العشب، ولا حتى مع أي عناصر أخرى مما يعُدها الجميع أهم، وباستثناءات لا تتجاوز نسبتها الواحد في الألف.

المثير للانتباه هنا أن تلك المغالطة مركَّبة، ولا تحتاج إلى إثبات من أي نوع، والسبب واضح جدا، هناك العديد من المدربين الذين يحرصون على تغيير حالة العشب أو أبعاد الملعب في وضعيات محددة، لإيمانهم بأنها تزيد من حظوظهم في الفوز، وبدلا من التساؤل حول ما إذا كان ذلك كافيا لتقرير نتيجة المباراة، فالأوقع هو التساؤل عن السبب الحقيقي لتكبدهم هذا العناء لو لم يكن مؤثرا.

المنطق ذاته قد ينطبق على المقارنات التاريخية كذلك، في واحدة من محاضرات تيد توكس (Ted Talks) الشهيرة يلخص ديفيد إبستين، المحاضر الدولي في علوم الرياضة، فارق التطور التكنولوجي بين عصر يوسين بولت وعصر جيسي أوينز في اختلاف مادة مضمار السباق ذاته، الفارق بين رقم أوينز وبولت حوالي 14 قدما، ولكن هذا الرقم ينخفض لخطوة واحدة إذا وضعت في اعتبارك الفارق بين الرماد الدقيق الذي كان يركض عليه الأميركي، والمطاط الصناعي الذي خاض عليه الجامايكي كل سباقاته.(11)

هل يعني ذلك أن تشافي وأرتيتا وكونتي وفينغر كانوا محقين في كل مرة انتقدوا فيها حالة العشب؟ بالطبع لا، ربما كانت أعذارا تافهة في بعض تلك المرات فعلا، أو محاولة للهروب من المسؤولية، وحتى يقرر فيفا إنهاء الجدل وتقرير مواصفات محددة موحدة لعشب الملاعب سيبقى فينغر وغيره يصارعون اتهامات التفاهة والسخافة والتهافت، عندما يحالفهم الصواب، وفي غير ذلك.

______________________________________________

المصادر

  1. أرسن فنغر: “لماذا يُعَد طول العشب أمرا مهما؟” – Arsenal
  2. لُم العشب! لماذا يطفو عذر برشلونة الأبدي للسطح دائما؟ – Ben Hayward
  3. ميكيل أرتيتا ينتقد عشب ملعب تيرف مور بعد التعادل مع بيرنلي – BR
  4. أنطونيو كونتي ينتقد حالة ملعب ليل قبل مواجهته مع أيرلندا – The Telegraph
  5. كيف يؤثر طول العشب على طريقة اللعب؟ – Info Pawa
  6. معارك ميكيل أرتيتا مع عشب ملاعب البريميرليغ – Training Ground Guru
  7. هل يتأثر ركل الكرة وتمريرها بطول العشب؟ – Quora
  8. هل كل ملاعب كرة القدم بالأبعاد نفسها؟ – Football Stadiums
  9. دراسة، تأثير العشب الطبيعي على الخصائص الحركية للاعبي كرة القدم الشباب
  10. تطور ملاعب العشب الطبيعي في كرة قدم النخبة – Aspetar
  11. هل أصبح الرياضيون أقوى وأسرع وأفضل فعلا؟ – Ted


المصدر: وكالات + الجزيرة نت

Share.

صحفية عراقية من اربيل خريجة وزارة الاعلام في اربيل سنة 2004

Comments are closed.