بعيدا عن تلك الصورة الوردية لباريس، حيث تعلق أقفال العاشقين تعهدا بحب أبدي، ويبحث السياح عن الموضة والنور والعطور، تعيش العاصمة الفرنسية اليوم وضعا مختلفا للغاية، حيث المظاهرات والاحتجاجات والنيران والإضرابات والقمامة، في الحقيقة نحن نعني الكثير من القمامة.

 

تنتشر القمامة في كل مكان في عاصمة الأنوار اليوم، تغص بها الشوارع، والسبب إضراب عمال النظافة الذين خرجوا كغيرهم لإعلان رفضهم لما يجري في الساحة السياسية في البلاد، ولأن عمال النظافة غابوا، حضرت الجرذان التي استولت على المدينة، كيف لا وهي التي يصل تعدادها إلى ضِعْف تعداد سكان باريس. ظهر الخوف من انتشار الجرذان وانتقال الأمراض، وبدأت الأخبار وبرامج “التوك شو” تنقل هذه المخاوف، لكن على الجهة المقابلة، خرجت بعض جمعيات الدفاع عن حقوق الحيوان للتظاهر دفاعا عن حق الجرذان بوصفها كائنات لطيفة في الحياة.

 

لكن هذه الجرذان والإضرابات والمظاهرات ليست إلا عرضا لحدث مهم تعيشه فرنسا، والأسئلة أدناه تعطينا تصورا عن أسباب النيران المشتعلة في باريس اليوم.

 

بداية.. لماذا يتظاهر الفرنسيون؟

متظاهرون يحتجون على قرار الحكومة الفرنسية برفع سن التقاعد القانوني في باريس. (الأناضول)

بدأت القصة عام 2017 خلال الحملة الانتخابية الأولى لإيمانويل ماكرون، حيث ألمح المرشح الرئاسي الفرنسي حينها إلى إعادة النظر في نظام التقاعد وفي كونه غير عادل، وذلك عبر اقتراح قانون جديد يسير بنظام النقاط مقابل اليورو، حتى لا يُعمَّم المقابل نفسه على جميع العاملين بدون وجه حق. وبعد انتخابه رئيسا، حاول ماكرون المُضي قُدُما في هذا المشروع، لكن سرعان ما تراجع بسبب موجة “السترات الصفراء” التي اندلعت احتجاجا على الأوضاع المعيشية في البلاد، وكذلك بسبب المعارضة الكبيرة التي لاقتها الفكرة من طرف مختلف النقابات المهنية. ورغم تلقي ماكرون اقتراحا من الهيئة العليا لتنظيم التقاعد برفع سن التقاعد من 62 إلى 64 سنة، فإن الفكرة دُفِنَت في مهدها بعد تحفظ مجلس الدولة عليها، ودخول فرنسا والعالم في أزمة “كوفيد-19”.

 

بعد إنهاء ولايته الأولى وبدء ولايته الثانية، أدرج إيمانويل ماكرون هذه النقطة في برنامجه الانتخابي، بدون الدخول في تفاصيل كثيرة. وتضمَّن المشروع العديد من البنود، أهمها على الإطلاق رفع سن التقاعد من 62 إلى 64 سنة، وفي بعض الأحيان 65 سنة؛ بحيث لا يحظى العامل أو الموظف بالتقاعد إلا بعد أن يكون قد ساهم بالعمل طيلة 43 سنة وليس 41.5 سنة كما هو الوضع حاليا، على أن يُطبَّق هذا التغيير بطريقة تدريجية. ويقترح هذا التعديل أن يتحصل المتقاعدون على 1200 يورو (صافي 1000 يورو تقريبا بعد الضرائب) كحد أدنى.

 

تبرر الحكومة الفرنسية هذا التغيير في نظام التقاعد بضرورة الوصول إلى صيغة متوازنة بين مساهمات العاملين وأجور المتقاعدين، وذلك لأن نظام التقاعد في البلاد، كما هو الحال في معظم البلدان، يعتمد على أن يدفع العاملون رسوما وضرائب، بحيث تأخذها الدولة وتمنحها للمتقاعدين. لكن بسبب شيخوخة المجتمع، بدأت فئة العاملين تقل مقارنة بفئة المتقاعدين، ما يعني ضرورة مد سنوات العمل، إذ إن مد سنوات العمل إلى 64 عاما يمكن أن يتيح للدولة موارد إضافية بقيمة 22 مليار يورو، وهو ما يساعدها على سد العجز في نظام المعاشات التقاعدية المقدَّر بـ12 مليار يورو.

 

لكن خطط ماكرون لرفع سن التقاعد لم تمر مرور الكرام، خصوصا أن عددا من المرشحين الرئاسيين والأحزاب، مثل مرشح حزب “فرنسا الأبية” (يساري راديكالي)، كانوا قد وعدوا بتخفيض سن التقاعد إلى 60 سنة. ومن ثمَّ اشتعلت التظاهرات في البلاد مع وصول مشروع القانون إلى البرلمان الفرنسي، وتأكيد الحكومة استعدادها الكامل لدفع أي ثمن سياسي مقابل فرض هذا الإجراء الذي تعتبره ضروريا للحد من تدهور الوضع الاقتصادي. وقد قُدر عدد المشاركين في هذه التظاهرات بأكثر من 1.3 مليون شخص في مختلف المدن والولايات الفرنسية.

 

كيف تفاعلت الأطراف السياسية مع مشروع القانون؟

Garbage piles up in Paris following strikes- - PARIS, FRANCE - MARCH 21: Garbage cans overflowing with trash on the streets as workers go on strike in Paris, France on March 21, 2023. Sanitation workers have been on strike since March 6, contesting the French government's bill to raise the legal retirement age from 62 to 64.
إلى جانب المظاهرات، شهدت فرنسا موجات من الإضرابات بلا انقطاع؛ أشهرها إعلاميا إضراب عمال النظافة في باريس. (الأناضول)

كما هو متوقع، وقف اليسار ضد المشروع، ناظرا له على أنه اعتداء على الطبقة العاملة، ومُعتبرا مقاومته “أُمًّا للمعارك”. وقد اجتمعت أحزاب اليسار بتدرُّجها من الاشتراكية الاجتماعية إلى اليسار الراديكالي من أجل الوقوف يدا واحدة، تماما كما حدث في الانتخابات البرلمانية الأخيرة حين واجهوا معا إيمانويل ماكرون. ومن جانبه، اعتبر “الاتحاد الشعبي للبيئة والمجتمع الجديد” (اسم التجمع اليساري الذي يضم أحزابا مختلفة) أن موضوع المعاشات شكَّل فرصة لإعادة توحيد الصفوف وإظهار ذلك على الساحة السياسية، وبالأخص بعد الخلافات التي ظهرت في الفترة الماضية. علاوة على ذلك، أظهرت الأزمة تنسيقا جيدا بين اليسار وعدد من النقابات التي قادت الحراك المجتمعي.

 

على الجهة المقابلة، لم يفوت اليمين المتطرف، وعلى رأسه حزب “التجمع الوطني”، الفرصة من أجل الظهور على الساحة السياسية عبر معارضة مشروع القانون. وهو ما أكَّده “جوردان بارديلا”، الرئيس الجديد للحزب خلفا للسياسية الشهيرة “مارين لوبين”، إذ أكد الرجل وقوف حزبه وراء المتظاهرين، مضيفا أنه سيذهب إلى أبعد نقطة ممكنة، بالتصويت على إسقاط الحكومة نفسها.

 

على المستوى الجماهيري، تسيَّدت النقابات الوضع بشكل كامل. ففي الثامن من مارس/آذار، وجَّهت النقابات رسالة لاذعة للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بعد دعوته لاستقبالهم. كما اعتبرت الكونفدرالية العامة للشغل أن الوضع الاجتماعي والسياسي في البلاد يُنذر بتهديد الحريات النقابية إذا ما تمَّ تجريم التحركات النقابية من جانب الحكومة، وحينها ستجد السلطة نفسها في مأزق كبير. يأتي ذلك بعد اعتقال 6 نقابيين يعملون في مجال الطاقة في مدينة مرسيليا إثر اتهامهم بالضلوع في السرقة والتخريب.

 

بذلت الحكومة محاولات عديدة للترهيب والترغيب، لكن محاولاتها لم تنقص من عزيمة النقابات التي لم تتوانَ في إظهار هيمنتها الكاملة على الحركة الاقتصادية للبلاد. فإلى جانب المظاهرات، شهدت فرنسا موجات من الإضرابات بلا انقطاع؛ أشهرها إعلاميا إضراب عمال النظافة في باريس، الذي جعل العاصمة الفرنسية تغرق في القمامة، علما بأن مشكلة النظافة كانت ولا تزال مشكلة أساسية أمام إدارة المدينة، لا سيما وهي واحدة من أهم الوجهات السياحية في العالم.

 

كيف رد ماكرون؟

A placard with a portrait of French President Emmanuel Macron and the slogan "49.3, because it's my project" is seen near the railway station as French workers on strike gather to attend a demonstration on the eve of the ninth day of national strike and protests, and after the pension reform was adopted as the French Parliament rejected two motions of no-confidence against the government, in Nice, France, March 22, 2023. REUTERS/Eric Gaillard
لافتة عليها صورة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وشعار “49.3 ، لأنه مشروعي” يرفعها أحد العمال الفرنسيون المضربون. (رويترز)

تعامل ماكرون مع الأزمة بهدوء شديد، فلم يخرج في لقاء إعلامي مطول حتى يوم الأربعاء 22 مارس/آذار، رغم أن المظاهرات قلبت البلاد رأسا على عقب. وقد اكتفى الرئيس الفرنسي في البداية بتصريح نشرته “وكالة فرانس برِس” عبَّر فيه عن رغبته في أن يُناقش نص مشروع القانون بديمقراطية. ثم خرج ماكرون يوم الأربعاء الماضي في لقاء مُتلفَز قصير أعرب فيه عن تفهُّمه لمشاعر الغضب الشعبية، وأكَّد أنه متمسك بالقانون الجديد الذي يُنتظَر أن يُصادِق عليه المجلس الدستوري، ما أجَّج بالطبع من دعوات الإضراب والاحتجاج.

 

وإذا كان الهدوء هو الغالب على الرئيس الفرنسي، فإن مَن حوله من صُناع القرار يشعرون بنوع من القلق، كما أفاد موقع “ميديا بارت”، الذي قال إن التشاؤم يطغى على كواليس الأغلبية الحكومية، وأضاف أن الانتصار الحقيقي الذي حققه الرئيس هو تصدير “إليزابيث بورن”، رئيسة الحكومة الفرنسية، إلى الواجهة، فهي الشخصية الرسمية التي تتلقى الضربات من البرلمان والمعارضين والنقابات والشارع، بدلا من الرئيس نفسه.

 

بعد دخول مشروع القانون إلى الجمعية الوطنية الفرنسية للمناقشة ثم التصويت، اختار عدد من الوزراء إلغاء تنقلاتهم وبعض مواعيدهم كما حدث مع وزير الداخلية “جيرارد دارمانان”، الذي ألغى سفره إلى إقليم “لاجيروند” جنوبا بعد أن أُعلِموا بأن مواجهات عنيفة قد تندلع بسبب رغبة الحكومة في تمرير القانون عُنوة. وينطبق الأمر نفسه على البرلمانيين، الذين ألغى بعضهم الظهور في البرامج التلفزيونية التي كان من المفترض أن تتحدث عن موضوع الساعة.

 

بسبب هذا الوضع الحرج، وتحالف اليسار واليسار الراديكالي واليمين المتطرف ضد مشروع الحكومة، أعلنت “إليزابيث بورن” استعانتها بالقانون 49.3 الذي يُخوِّل لها تمرير قانون التقاعد دون الحاجة إلى مروره عبر التصويت البرلماني، وهو أمر اعتبرته القوى السياسية والشارع معا استفزازا كبيرا وسوء استعمال للديمقراطية. وقد جاء هذا التحرك بسبب تخوُّف الحكومة من عدم الحصول على الأصوات الكافية لاعتماد القانون.

 

ليست هذه هي المرة الأولى التي تستعين فيها الحكومة في عهد “بورن” بهذا القانون، فقد استعملته 11 مرة، غير أن استعمال الفقرة الثالثة من القانون 49 وَضَع الحكومة في مرمى نيران المعارضة، لأن هذه الخطوة تتيح للأحزاب الأخرى التقدُّم بمقترحات لإسقاط الحكومة، على أن يتم التصويت عليها في الجمعية العمومية الفرنسية. وعند تلك النقطة تحديدا، يظهر لاعب جديد على الساحة وهو الحزب الجمهوري اليميني الكلاسيكي العريق.

 

هل خان الجمهوريون الجمهورية؟

Member of parliament Eric Ciotti attends a debate on the pension reform plan at the National Assembly in Paris, France February 17, 2023. REUTERS/Sarah Meyssonnier
“إيريك سيوتي” رئيس الحزب الجمهوري. (رويترز)

بعد استعمال القانون 49.3، تقدَّم كلٌّ من حزب “الجبهة الوطنية” وتحالف اليسار بمقترحَيْن لسحب الثقة من الحكومة، ومرَّت الرصاصة قريبة جدا من رأس حكومة ماكرون، بعد أن نجت من الإطاحة بها بفارق 9 أصوات فقط، حيث لعب الجمهوريون دورا محوريا في إنقاذ الحكومة. وقد أكَّد “إيريك سيوتي”، رئيس الحزب الجمهوري، أنه لن يُصوِّت لصالح حجب الثقة عن حكومة بورن، معتبرا أن هذا يعني تسليم البلاد لليسار أو لليمين المتطرف، وهو موقف شاركه إياه عدد من نواب حزبه، ولكن ليس جميعهم.

 

على سبيل المثال، قال “أوريليان براديي”، النائب عن الجمهوريين في البرلمان، إن رئيسة الحكومة الفرنسية ورئيس الدولة يقومان بـ”كنس الأزبال تحت السجادة”، معتبرا أن مشروع القانون “المسموم” خطر على المجتمع ولعب بالنار من طرف ماكرون. وقد عبَّر عن الرأي نفسه عدد من نواب حزب الجمهوريين، وأعلنوا معارضتهم صراحة لموقف أقرانهم في الحزب الذين صوَّتوا ضد إسقاط الحكومة. ودفع هذا الأمر بالنائب “لويس بويارد”، من حزب فرنسا الأبية اليساري الراديكالي، إلى نشر أسماء النواب الذين صوتوا ضد إسقاط الحكومة مُعلقا: “احتفظوا بهذه الأسماء، الضغط الشعبي سيجعلهم يتراجعون”.

 

 

 

هل مر القانون بسلام بعد فشل إسقاط الحكومة؟

حسنا، بعد فشل المعارضة في إسقاط الحكومة الحالية، يمكننا القول إن القانون أصبح أمرا واقعا، وإن رفع سن التقاعد أصبح شرا لا بد منه، إلا إذا اشتعلت الأوضاع أكثر مما هي عليه الآن. فبعد إعلان نجاح الحكومة في البقاء على قيد الحياة، عاود المُحتَجون الخروج للشوارع، التي شهدت مواجهات عنيفة بينهم وبين قوات حفظ الأمن، ومباشرة بعد ذلك أعلن “جيرارد دارمانان” تعزيز قوات الأمن بـ12 ألفا من رجال الشرطة ورجال الدرك، ووضع 5 آلاف منهم في باريس لمواجهة موجات الغضب. وقد أعلن وزير الداخلية أيضا عن دعمه ودفاعه عن رجاله الذين أُصيبوا ويقترب عددهم من 400 شرطي، بعد اتهام بعضهم بالضلوع في “عنف جنسي” ضد بعض المتظاهِرات.

 

من جهتها أعلنت “مارين لوبين”، المرشحة السابقة للانتخابات الرئاسية، أنها لن تتدخل لتهدئة الشارع المشتعل، وقالت إن ماكرون الوحيد الذي يمكنه فعل ذلك ببساطة إن تراجع عن الإجراءات التي اتخذها. أما “جون لوك ميلانشون”، رئيس حزب فرنسا الأبية، فوصف ماكرون بالرجل الذي أشعل النار وأغلق المخارج، فيما اعتبر “فرانسوا روفان”، العضو بالحزب نفسه، أنه لا يمكن الإبقاء على نظام يحكم فيه رجل واحد من أعلى ويفرض إجراءات ضد إرادة الشعب.

 

بعيدا عن فرنسا، أثارت الأوضاع الداخلية ردود أفعال عدد من الشخصيات ووسائل الإعلام الغربية. فقد علَّق رجل الأعمال الشهير “إيلون ماسك” على فيديو نشره رجل الأعمال “كيم دوت كوم” قائلا: “سِن التقاعد في فرنسا منخفضة جدا، هذه مشكلة حقيقية. فرنسا تحب أن تعيش على وقع المظاهرات وأعمال الشغب من فترة إلى أخرى”. في السياق نفسه، تبنَّت صحيفة “واشنطن بوست” الأميركية موقفا داعما لماكرون أيضا، حيث قالت في عمود لها نُشر يوم 17 مارس/آذار الماضي: “رغم المظاهرات، فإن إصلاحات ماكرون ضرورية”. واعتبرت الصحيفة أنه في فرنسا كما في الولايات المتحدة الأميركية، تُشكِّل الشيخوخة تحديا حقيقيا يجب التعامل معه بطريقة مختلفة حتى لا تدفع الأجيال القادمة الثمن.

 

لم يكن الدعم رد الفعل الخارجي الوحيد الذي حظي به ماكرون. فقد وصفت صحيفة “فاز” الألمانية المحافظة الرئيس الفرنسي بأنه “مُتكبِّر”، وهو الوصف نفسه الذي نعتته به صحيفة “إل باييس” الإسبانية. أما صحيفة “الغارديان” البريطانية فقد تنبَّأت يوم 8 مارس/آذار الماضي بالوضع الحالي في فرنسا، حيث أكدت أن عناد ماكرون سيدفعه لاستعمال قانون 49.3، وأن ذلك سيكون خطيرا على الديمقراطية الفرنسية. هذا ويصُب كل ما يجري حصرا في مصلحة مارين لوبين وأطياف اليمين واليسار المتطرف الفرنسي في العموم، التي ما انفكت تقترب من الإليزيه والأغلبية البرلمانية الانتخابات تلو الأخرى، ولعل الأزمة الاقتصادية تصبح سُلَّمها الأخير إلى تحقيق حلم تبوُّء السلطة في فرنسا.


المصدر: وكالات + الجزيرة نت

Share.

صحفية عراقية من اربيل خريجة وزارة الاعلام في اربيل سنة 2004

Comments are closed.