منذ صدر الجزء الأول من سلسلة “المعادل” (The Equalizer)، يحاول المخرج أنطونيو فوكوا مبدع الثلاثية الشهيرة أن يرضي هواة الجمال، وعشاق أفلام الحركة والتشويق، بالإضافة إلى محبي الأفلام الدموية العنيفة أيضا، لكن محاولات إرضاء الجميع امتدت إلى بطل العمل دينزل واشنطن (الحاصل على جائزتي أوسكار) لإرضاء الأغلبية في الولايات المتحدة والعالم.

تحوّل دينزل واشنطن إلى وريث للأبطال الشعبيين الذين يحاولون الاقتصاص من المجرمين الأقوياء الظالمين لصالح الضحايا العاجزين عن حماية أنفسهم، واستحضر التراث الخاص بهؤلاء بدءا من روبين هود، ومرورا بإنديانا جونز، وحتى النماذج العصرية منهم، مثل باتمان ومورغان ديكستر وغيرهم، ممن يجسدون الشرير الطيب الذي يطبق العدالة من دون أن يأبه بالقانون، ويتحول إلى ما يشبه “الفتوة” الدموي الذي يحمي محيطه من المافيا الإيطالية في الجزء الثالث، ومن المافيا الروسية في الجزء الثاني ومن ضباط الشرطة الفاسدين.

الجزء الأخير

“المعادل 3” هو الجزء الأخير من السلسلة التي قدمها المخرج أنطونيو فوكوا، لتشكل امتدادا لأدب “الخيال البوليسي” الذي أبدع شخصيات تجلى وجودها سينمائيا وتلفزيونيا، وأصبحت سمات أساسية في الثقافة الغربية مثل المفتش كولومبو وهركيول بوارو ومورغان ديكستر، الذين يدركون عجز النظام القانوني عن حماية الضعفاء من المجرمين، ويقررون القيام بهذا الدور بأنفسهم.

الشرير الطيب أو الطيب الشرير القادم من صراع مع النفس لدى أبطال الأدب والسينما القديمة يختلف كثيرا لدى أنطونيو فوكوا، إذ يصبح من أصول أفريقية، وصاحب تاريخ من القتل بلا رحمة لصالح جهاز المخابرات الأميركية، يعتزل بعد موت زوجته، وقد وعدها في لحظاتها الأخيرة بأنه لن يكون الشخص الذي كان، وهكذا بدلا من أن يقتل لصالح مؤسسة الدولة الأميركية، ينشئ مؤسسته الخيرية الخاصة، ويعمل لحماية الفقراء من المجرمين من دون أجر.

يخوض كل من الأدب والإبداع السينمائي والتليفزيوني صراعهم الأخلاقي إلى جانب الضعفاء ضد الأقوياء المجرمين منذ زمن غير قليل، لكن سلسلة “المعادل” -التي تحاول الاشتباك عبر بطل صالح- قد تكون هي نفسها الشرير مع كل هذه الدماء.

في الجزء الثالث والأخير من السلسلة، يجد العميل السابق للمخابرات الأميركية ماك كول (دينزل واشنطن) نفسه بشكل مفاجئ في منزله بجنوب إيطاليا، ويكتشف أن أصدقاءه الجدد في القرية الصغيرة تحت سيطرة زعماء الجريمة المحليين، فيقوم بالدور الذي نذر نفسه له وهو حماية أصدقائه في مواجهة المافيا.

شوهد من قبل

تجمع شخصية العميل ماك كول صفات عظيمة، فهو رجل صالح لدرجة مبالغ فيها، ودافئ وحنون على الأطفال، وهو قوي وشرس بهدوء، وهو أيضا يتمتع بذوق راق في تذوق الفنون، وهو قارئ دائم، ورغم كل ذلك، هو قاتل دموي سريع بشكل مستحيل، والواقع أن كل هذه الصفات تجعل منه بطلا لواحد من الأفلام الهندية من نوع “المسالا” التجارية بامتياز، حيث يتلقى البطل 100 رصاصة في جسده ثم ينتفض ليقتل أعداءه بمجرد النظر إليهم! ومعارك ماك كول أقرب إلى حالة كاريكاتيرية، ويكاد يكون الفارق بينها وبين “المسالا” تلك الوجوه ذات الملامح الهندية، والألوان الفاقعة التي تميز الفيلم الهندي.

وتمثل السلسلة بكاملها -ومن بينها الجزء الثالث- حالة استعادة لتراث أبطال أفلام الحركة والتشويق بدءا من جيمس بوند الذي قدم آخر أفلامه عام 2021 في جنوب إيطاليا، وخاض معارك شبيهة مع المافيا، إلى تراث توم كروز في فيلم “الساموراي الأخير” للمخرج إدوارد زويك، حين ذهب إلى اليابان محاربا، وأسره التراث الياباني، فقرر أن ينضم للمظلومين ويصبح واحدا منهم ومن ثم أضحى زعيما لهم.

بالمثل، حدث أن ذهب ماك كول إلى إحدى القرى التي يسكنها أناس ضعفاء تسيطر عليهم المافيا، تقهرهم وتقتلهم وتبتزهم، وهو تكرار للقصة التي حدثت على الأرض الأميركية في الجزء الثاني من السلسلة، حيث تبتز المافيا الروسية الملونين من أصحاب المطاعم والمتاجر بمعاونة ضباط فاسدين من شرطة نيويورك، فيقوم ماك كول بمواجهة الجميع في نيويورك، ومن ثم ينهي عمله في موسكو، حيث يقضي على رأس الأفعى أو زعيم المافيا.

إيقاع حائر

وفي سياقات محاولاته لإرضاء هواة الجمال على الشاشة، يقدم أنطونيو فوكوا مشاهد بديعة لا تصنع الفارق الحرفي له، والفارق البلاغي في تعبير المشهد عن المحتوى فقط، ولكنها تضع مسافات زمنية بين المشهد وغيره وبين اللقطة وما يليها، وبالتالي يصنع إيقاعا مختلفا عن كافة الأنواع التي يحمل سماتها، سواء كانت أفلام الحركة شديدة السرعة، أو الإثارة والتشويق التي تتميز بالسرعة أيضا أو حتى تلك الأفلام الفنية التي تميل إلى إشباع المشهد عبر استخدام إيقاع بطيء يترك للمشاهد مساحة زمنية يتأمل خلالها أداء الممثل أو تفاصيل المشهد.

ويلتقط فوكوا -عبر الأجزاء الثلاثة- ردود فعل دينزل واشنطن وأداءه بوصفه أرملا فقد زوجته، فتحولت حياته إلى محاولة للخلاص الشخصي والبحث عن غفران لجرائم ارتكبها باسم الدولة عبر جرائم قرر أن يرتكبها باسم الضعفاء.

تلك الدموع التي تشرع في التحرر من العينين يلتقطها فوكوا عبر لقطة مكبرة جدا، وذلك الغضب الظاهر في العينين أيضا، الذي يتأكد المشاهد أن ما يليه معركة دموية، وتلك الابتسامة الأبوية الطيبة حين يصادف طفلا لأحد الفقراء المقهورين .

وفي المقابل، فإن أشرار سلسلة “المعادل” تقليديون تماما من حيث الشكل والأداء، حتى عندما يكونون متنكرين في صورة رجال شرطة، فالأداء منذ اللحظة يؤكد ذلك، وهو ما يستدعي في ذاكرة المشاهد العربي أفلام النصف الأول من القرن العشرين في مصر حين كان اللص يعرف من قميصه ذي الخطوط العرضية بالأبيض والأسود ويعرف الشرير بالتدخين.

ورغم الشكل التقليدي للشرير، فإن بعض مشاهد الجزأين الأول والثاني، ولعلهما الأكثر ميلا لإرضاء هواة البلاغة السينمائية والجمال، تشير إلى مخرج كبير يعكس المعنى الذي يريده ببساطة وجمال، خاصة في مشهد لواحد من كبار قادة المافيا بالجزء الثاني كان قد جاء من روسيا، ليثأر من ماك كول الذي قتل 5 من رجاله.

رجل المافيا ذو الملامح القاسية والمخيفة يجلس ونصف جسده الأعلى بلا ملابس، ولكنه مغطى تماما بوشوم الوحوش، وخلفه نافذة زجاجية تطل على نيويورك، وتقترب الكاميرا منه بينما يتمدد بجسده فوق مقعده، وتصوره الكاميرا من أعلى موازيا للمدينة في الأسفل، فتظهر الوشوم الوحشية أعلى المدينة الظاهرة في الخلفية، وهو يعكس معنى هو أن ثمة شرا ووحشية قرر هذا الرجل أن يغطي بهما وجه المدينة.

العجوز وبحر الحياة

وفي حوار يلخص ما تعنيه الشخصيتان أيضا، يمارس ماك كول روتينه اليومي بالذهاب للقراءة في أحد المقاهي الهادئة ومعه رواية “العجوز والبحر” لأرنست همنغواي، التي يخوض خلالها صياد عجوز صراعه الأخير ضد أسماك القرش التي أكلت صيده في النهاية.

يجلس ماك كول بينما تدخل فتاة جميلة، نعلم أنها تأتي يوميا، ومن ثم يأتي من يقلها، ولكن في تلك الليلة تسأله عن الكتاب، ثم تقول: هل اصطاد العجوز السمكة؟ فيجيبها ماك كول: “ما زال يقاتل”. تسأله عن اسمه، فيجيب: “بوب”، وترد: “لا.. أنت روبرت، لأن بوب يسمع الموسيقى وأنت تقرأ”، ثم تعرف نفسها باسم زائف، فينظر إليها مليا، لتعترف: “اسمي ألينا، ولدي محاولات لتسجيل الأغاني، لكن أنا وأنت نعلم ما هي مهنتي الآن”، ثم تنظر إلى السيارة التي تنتظرها من خلال الجدار الزجاجي للمقهى.

إنها الفتاة التي بدأ من عندها الصراع في الفيلم، فقد كانت ضمن الرقيق الأبيض الذي تتاجر به المافيا الروسية وأرادت التحرر، فتم الاعتداء عليها بوحشية.

قدم المخرج أنطونيو فوكوا مع السيناريست ريتشارد وينك ثلاثية ستبقى لفترة طويلة، لكن إثارتها للجدل ستبقى معها، حيث حولت دينزل واشنطن، الذي قدم من قبل دور الزعيم المسلم مالكوم إكس، والعشرات من الأدوار التي عبرت عن الثقافات الفرعية والمهمشة في المجتمع الأميركي، وطرقها في الخلاص الشخصي، وبحثها عن العدالة، إلى رجل يمثل التيار العام، ويستخدم طرقه المعروفة في حل الأزمات التي صنعها بنفسه قبل إعلانه التوبة وقبل وعده زوجته بالتحول إلى شخص صالح.

المصدر: وكالات + الجزيرة نت

Share.

صحفية عراقية من اربيل خريجة وزارة الاعلام في اربيل سنة 2004

Comments are closed.