تارودانت- أن يضرب الزلزال منطقة وتميد الأرض تحت أقدام سكانها، ويقتل الآلاف منهم ويخلف مثلهم من الجرحى فتلك مصيبة وكارثة، لكن الكارثة تعظم وتزداد إيلاما عندما تكون أكثر المناطق المتضررة هي قرى جبلية نائية يصعب الوصول إليها في الظروف العادية، فما بالك بعد أن نفضت الأرض في هذه المنطقة كل ما كان على ظهرها.

يبعد إقليم تارودانت عن مركز الزلزال الذي ضرب منطقة الحوز (جنوب غرب المغرب) ليل الجمعة الماضية بنحو 300 كيلومتر، وعلى الرغم من ذلك فقد محت هذه الكارثة قرى بكاملها في هذا الإقليم المترامي الأطراف، الذي تبلغ مساحته نحو 16 ألفا و500 كيلومتر مربع، أغلبها مناطق جبلية وعرة.

أغلب المناطق التي تعرضت للزلزال جبلية ووعرة (الجزيرة)

مآس بعضها فوق بعض

الجزيرة نت شدت الرحال إلى بعض هذه المناطق النائية للوقوف على مأساة أهلها، وكان علينا أن نبدأ مشوارنا نحو بعض هذه القرى من مدينة تارودانت مباشرة بعد الفجر، فبالإضافة إلى بعد المسافة ووعورة المسالك، فقد أغلق الزلزال بعضها أو ضيّق مساحتها بحيث أصبح المرور منها صعبا جدا.

وما أن وصلنا إلى قرية تاجكالت، التي تبعد عن مدينة تارودانت -مركز الإقليم وكبرى مدنه- بنحو 100 كيلومتر، حتى تقاطر علينا المتضررون، كل منهم يحكي معاناته، التي هي في النهاية معاناة جماعية فصولها وأحزانها متشابهة.

تقول فاضمة (تحوير أمازيغي لاسم فاطمة) بلهجة عربية مغربية مكسرة ومتواضعة “لقد ضاع كل شيء منا، أعادنا هذا الزلزال عقودا إلى الوراء، انظر إلى ما نحن فيه، لم يعد لدينا غير هذه الملابس التي على أجسادنا”.

ولما عرفت أننا نتحدث الأمازيغية ويمكن أن نحاورها بها، انفرجت أساريرها وانطلق لسانها أكثر واصفا المعاناة، فمضت تقول “لم يسلم ولا بيت واحد من بيوت قريتنا، أنتم ترون كل شيء أمامكم، كيف سيعيش من لم يجد مأوى إلا تحت شجرة، ولا يملك قوت يومه، وينتظر كل يوم ما سيصله من مساعدات”.

استيعاب متأخر

محمد متضرر في الـ60 من عمره ولا يزال يسيطر عليه الذهول وهول الكارثة، ولا يزال رأسه وأذنه اليمنى ملفوفين بضماد أبيض عليه بقايا دواء مطهر للجروح، يستذكر في حديث للجزيرة نت ما حدث ليل الجمعة عندما زلزلت الأرض زلزالها، ويقول “تناولت وجبة العشاء أنا وأبي وأمي، وأعطيت أبي دواءه، وهيأت لهما فراش النوم، وبعد لحظات اهتزت الأرض ووقع علينا البيت بكامله”.

ويتابع محمد -في حديثه للجزيرة نت- وهو يتحسس بعض مواضع الجروح والرضوض في جسده “أخرجني أخي من تحت الأنقاض، وحاولنا أن ننقذ أمي وأبي بمساعدة أحد أعضاء المجلس القروي وإمام مسجد القرية، لكني تعبت ولم أستطع مواصلة المساعدة”.

ويؤكد محمد أنه لم يستوعب ما حصل إلا بعد أن وجد نفسه في سيارة إسعاف نقلته إلى المستشفى الإقليمي في تارودانت، حيث أمضى هناك 24 ساعة تقريبا، وبعدما تحسنت حالته قليلا، كان عليه أن يخلي مكانه لمريض آخر.

معاناة ومطالب واحدة

قصص أخرى كثيرة ومماثلة تحكي المعاناة نفسها، فلكل فرد في هذه الجبال قصص يشيب لها الولدان، وكما توحدوا في المعاناة توحدوا في مطالبهم من السلطات والجمعيات والمنظمات الناشطة في الإغاثة.

فهم وإن كانوا يحتاجون المواد الغذائية والأفرشة والأغطية، فإنهم يطالبون أيضا بخيام ومآوٍ تسترهم، ويعبرون عن قلقهم وهلعهم من أي تغير في الأحوال الجوية، لأنه سيفاقم آلامهم ويزيد الطين بلة.

يصف عبد الله للجزيرة نت حاله وحال جيرانه من سكان القرية بعد الزلزال، فيقول “بعد أن هدأت الأرض من تحت أقدامنا، وقضى منا من قضى وبقي تحت الأنقاض من بقي، تجمع الناجون منا في ساحات عارية بعيدا عن ركام المنازل، وتكتلت الأسر والعائلات، وكذا الجيران فيما بينهم في مساحات صغيرة وضيقة، فبعضنا لجأ إلى بيادر، وبعضنا يقضي يومه وليله تحت الأشجار”.

عبد العزيز أمجان، ناشط مع جمعيات إنسانية كثيرة، وأحد الشخصيات السياسية في المنطقة، ورئيس سابق لبلدية أولاد برحيل -أقرب مدينة في الإقليم إلى كثير من المناطق الجبلية- رافق فريق الجزيرة نت في جولة على بعض هذه القرى المتضررة، ويعرف جيدا حاجات سكانها وظروفهم بحكم تردده الكثير عليها ومرافقته المستمرة للجمعيات الإنسانية التي تحمل مساعدات إلى المنكوبين.

يقول أمجان للجزيرة نت إن “الظروف لا تزال الآن متحملة، لكن -لا قدر الله- إذا تساقطت الأمطار في هذه الأيام فإنها ستضاعف الكارثة والمأساة، لذلك نناشد الدولة والمنظمات الإنسانية أن تركز جزءا من جهودها لتوفير الخيام والأغطية البلاستيكية، فهذه أولى الأولويات الآن إذا أردنا أن نستبق أي سوء محتمل في الأحوال الجوية”.

زلزال المغرب - منطقة أسيف نونزال تضم34 قرية دمرت كلها تقريبا
كارثة الزلزال لا نظير لها وفاجأت الجميع (الجزيرة)

كارثة لا نظير لها

ويعتبر عبد العزيز أن ما حل بهذه القرى كارثة لا نظير لها ولا سابقة في المنطقة، وفاجأت الجميع. ويؤكد أن النصف الشمالي من الإقليم (يعرف في المنطقة بتارودانت الشمالية) “هو الأكثر تضررا، وقال إن جل تجمعاته السكنية هي قرى نائية ومتباعدة، وتشكل أكثر من 77% من مساحة الإقليم كله المترامية أطرافه، والتي تفوق مساحة دولة لبنان”.

ويضيف في حديثه للجزيرة نت “تضررت على الأقل 24 جماعة قروية (مصطلح محلي يطلق على منطقة جغرافية وإدارية تجمع عدة قرى وبوادي)، وإذا علمنا أن كل جماعة فيها تقريبا 40 قرية صغيرة، فإن عدد القرى المتضررة تقريبا أكثر من 600″، مؤكدا أن ما يزيد على 170 ألف نسمة تضرروا من الزلزال في الإقليم كله.

ويقول عبد العزيز إن أكثر المناطق والقرى المتضررة توجد في جماعة تيزي نتاست، وجماعة تفنكولت، وجماعة تيكوكة، وجماعة تيسراس، وجماعة سيدي عبد الله أسعيد، وجماعة أوناين، وجماعة سيدي واعزيز، وكثير من القرى أيضا في منطقة أساكي.

ولفهم الطبيعة الجغرافية القاسية لهذا الإقليم أكثر، يكفي معرفة أن الكثافة السكانية فيه أقل من 50 نسمة في الكيلومتر المربع، ولذلك فكثير من هذه المناطق القروية هي عبارة عن تجمعات سكنية متباعدة فيما بينها قد يحتاج التنقل بين بعضها إلى ساعتين، وبعضها الآخر يستحيل أن تصله سيارة، ولا حل لأهلها إلا أقدامهم أو ما سخره الله لهم من بغال وحمير، والمحظوظون منهم قد يملكون دراجات نارية تسلك بهم مسالك وعرة.

أكواخ بالساحات

على طول واد سحيق غير ذي زرع يسمى “أسيف ن أونزال” بالجماعة القروية لتيزي نتاست، يقبع ركام عدة قرى؛ اضطررنا إلى أن نترجل عن سيارتنا في آخر نقطة يمكن الوصول إليها، وأكملنا على أقدامنا لنحو نصف ساعة تقريبا في مرتفعات جبلية وعرة لنصل إلى إحداها وهي قرية “إيخفيس”.

أحصت الجزيرة نت 48 قبرا تضم جثامين قتلى الزلزال في هذه القرية المنكوبة، التي كانت تستند إلى سفح جبل يعصمها من ماء الوادي، لكنه لم يحمها من قوة الزلزال فصارت مساكنها أثرا بعد عين، وردم ركامها ذويهم ومواشيهم وحيواناتهم، فأخرجوا جثث البشر، لكن الحيوانات النافقة ظلت تحت الأنقاض وتملأ رائحة تعفنها المكان.

عاينا مع السكان فور وصولنا دفن آخر جثة، وكانت لفتاة في الـ18 من عمرها، وقال أحد أبناء عمومتها للجزيرة نت إنهم حاولوا أكثر من مرة الوصول إليها لكنهم فشلوا، ولم يتمكن فريق إنقاذ مكون من أفراد الجيش والدرك والدفاع المدني من الوصول إليها إلا مساء أمس الثلاثاء.

سكان هذه القرية بدورهم انتشروا تحت الأشجار وفي بعض الساحات الفارغة، وبعضهم حاول بناء أكواخ بما تيسر لهم من قماش أو ما استنقذوه من أغطية من تحت ركام الزلزال.

تضامن شعبي

ويلخص إبراهيم وزاز، رئيس المجلس القروي لجماعة تيزي نتاست، حجم المعاناة في القرى التابعة لمجلسه قائلا إن كل القرى الصغيرة التي تتكون منها الجماعة تضررت، وكلها دمرت عن آخرها، وعددها 37 قرية، وسكانها يبيتون في العراء منذ ليلة الزلزال.

وأضاف -في تصريح للجزيرة نت- أن عدد القتلى في هذه القرى بلغ 456 قتيلا ومئات الجرحى، وأن العدد الإجمالي لسكان الجماعة يبلغ 5400 نسمة.

وأكد أن هناك تضامنا شعبيا واسعا لمساعدة المتضررين في هذه المناطق، وأن السلطات تبذل جهدها للوصول إلى من لم تصل إليهم بعد.

وقال وزاز “لدينا محطتان لتجميع المساعدات: الأولى في مبنى المجلس القروي، والثانية في منطقة تلبورين، ونعمل على توفير الأفرشة والأغطية والمياه والغذاء والخيام وغيرها”.

وتابع أن “هناك جهودا لإجلاء السكان إلى مناطق آمنة وإبعادهم عن مجرى الوادي تجنبا لكارثة لو سقطت الأمطار لا قدر الله”، وأنه بدأت لقاءات منذ الآن مع المصالح المختصة لدراسة سبل إعادة إعمار هذه القرى.

المصدر: وكالات + الجزيرة نت

Share.

صحفية عراقية من اربيل خريجة وزارة الاعلام في اربيل سنة 2004

Comments are closed.