هل قال لك أحدٌ ما بعد محادثة طويلة بينكما: “أنا لم أخبر أحدًا بذلك من قبل” أو “أنا لم أعرف هذا الشعور حتى قلته لك”، هذا التعبير قد يمثل ارتياح القائل لك ولأسلوب استماعك، أي إنك كنت في ذلك الحوار مستمعًا جيدًا، لكن في الوقت نفسه هل أزعجك يومًا ما انشغال صديقك بهاتفه وأنت تتحدث معه، أو نظره في الغرفة من حوله، أو مقاطعته لك قبل أن تنتهي فكرتك، أو إسداؤه نصائح من هنا وهناك تشعر أنها لا تناسب موضوعك؟ هل شعرت بأنك لا تحظى باستماع يناسب أهمية ما تقول وما تعنيه؟

 

يبدو أننا نصادف مستمعين غير جيدين كثيرًا في حياتنا، لكن المستمع غير الجيد ليس شخصًا سيئًا بالضرورة، فربما يكون أحد أصدقائنا أو من عائلتنا أو حتى نحن، بل لا أحد منا مستمع جيد طول الوقت، فمن طبيعتنا البشرية أنها تتشتت مع ما يأتي للذهن.

 

فما الأشياء التي تجعل من استماعنا سيئًا؟ وما الذي ينبغي علينا فعله لنكون مستمعين جيدين؟ هذا المقال سيوضح بعض الإستراتيجيات النفسية والمهاراتية المناسبة.

 

ما ينبغي أن تعرفه عن الإنصات والاستماع الجيّد

بداية، هناك فرق بين القدرة على السمع والقدرة على الاستماع أو الإنصات، القدرة على السمع قدرة فطرية يمتلكها معظم الناس، لكن مهارة الاستماع لا يتقنها كل الناس، نحن نسمع الأصوات والحروف المنطوقة، وهذا لا يحتاج منا إلى بذل جهد، بينما مهارة الاستماع تحتاج منا إلى انتباه وبذل جهد يشبه جهد فهم القراءة، ونجد أن القرآن الكريم استعمل لفظ “أنصتوا” وقرنها بالاستماع “وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا”، فالاستماع والإنصات هو سماع القلب والعقل، وهو يحتاج إلى جهد مختلف عن مجرد السماع.

 

هل أنا مستمع جيد أو غير جيد؟

في الحقيقة يمكن لنا أن نميّز سلوكيات الاستماع السيئ بشكل أسهل بكثير من تمييز سلوكيات الاستماع الجيد، فالشخص الذي لا يجيد الاستماع عادة ما:

  1. يتململ بالأشياء، مثل اللعب بالقلم أو بالعقد أو بالأظافر، وقد ينقر على الطاولة أو يتلهّى بما عليها، وهو ليس بالضرورة أن يكون سلوكًا مقصودًا، لكنه يشير إلى أن المستمع قد فقد تركيزه أو قربه من أحاديث المتكلم.
  2. يتشتت بالأفكار التي تأتيه، وقد يعبّر عن ذلك بالنظر إلى الهاتف أو لما حوله في الغرفة.
  3. لا يتصل بالعين نحو المتحدث، وعادة ما يقترن الهروب من الاتصال بالعين إلى اللمس الذاتي، أي لمس المستمع أذنه، أو حكه رقبته، وأحيانًا قد يصدر صوت نفخة خفيفة أو ضوضاء أسنان(1).

 

لماذا لستُ مَحبوبًا؟ ولماذا أفشل في أن أكون مُنصتًا جيدًا؟

تخبرنا الدراسات النفسية والاجتماعية أن هناك عدة أسباب قد تكون كامنة:

  • أسباب تعود للمتحدث، كأن تكون لغته غير واضحة، أو أن الموضوع الذي يتحدث فيه موضوع غامض، أو بسبب إطالته في الحديث.
  • أسباب تعود لطبيعة الموقف الذي يجمع بين المتكلم والمخاطب، كالمحادثات المحفوظة والمُعَدّة من قبل، حيث لا يكون فيها تبادل حقيقي للمعرفة، مثل مقابلات العمل، أو أحاديث الطاولات المستديرة في السياسة التي يتم فيها تبادل الابتسامات والكلام غير الحقيقي عن النفس أحيانًا(3).
  • ومنها ما يعود لنا، نحن المستمعين، وهنا يمكن أن نعدد ثلاثة أسباب رئيسية:

 

  • 1- نمط التعلق العاطفي:

أي أسلوب تواصلنا مع الناس ومع أنفسنا وإدارة مشاعرنا وانفعالاتنا. ونمط التعلق يتشكل في الطفولة، فإذا كان الوالدان يهتمان بالطفل ويعتنيان به عناية طبيعية من غير مبالغة أو إهمال، فإن الطفل ينشأ بنمط تعلق آمن (secure attachment style)، ويكون أقرب إلى كونه مستمعًا جيدًا، أما إن كان الوالدان لم يسمعاه بشكل كافٍ في الطفولة أو عانى الطفل من إهمال في الرعاية العاطفية أو عانى من الاهتمام الزائد الذي يخنقه ويجعله تحت سيطرة دائمة، فإن نمط تعلقه قد يكون تجنبيًّا (insecure avoidant attachment style) أو قد يكون قلقًا (insecure anxious attachment style)؛ ما يجعله يُنهي أي تقارب مع الناس بشكل سريع لأنه يتذكر السيطرة أو التحكم اللذين يتبعان العلاقات القريبة، وهذا قد يجعله مستمعًا غير جيد، يخاف من العلاقات القريبة ويتجنبها أو يقلق من تبادل الاهتمام والانتباه ويتوقع خسارة الآخر إذا اقترب منه(4).

 

لكن تاريخ الطفولة ليس تاريخًا أبديًّا، حيث يمكن لنا أن نتغير ونتحول إلى مستمعين جيدين لو تعلمنا بعض الإستراتيجيات المفيدة ولو تعلمنا كيف نتبادل مع من حولنا التعاطف والمشاعر.

 

  • 2- تحيز العلاقات القريبة (Closeness Communication Bias): 

نحن لا نسمع الآخرين بشكل جيد ليس بسبب أننا لا نتفق معهم فقط، لكن بسبب أننا نظن أننا نعرف ما سيقولونه، وهذا يحدث في العلاقات القريبة وغير القريبة، غالبًا ما نقول: “أنا أعرف ما تقصد”، ونقاطع المتحدث قبل إتمام رأيه، لكن هذا التحيّز يكثر في العلاقات القريبة، حيث يظن الزوجان مثلًا أنهما يفهمان بعضهما أكثر من الغرباء، لكن الحقيقة ليست هكذا دائمًا، لأننا مع الاقتراب نفقد الفضول الذي تقوم عليه العلاقات، وعندها سنظن أننا نعرف ما سيقوله الآخر.

 

وقد قام أحد الباحثين من جامعة شيكاغو بتجربة للدلالة على تحيّز العلاقات القريبة بأن أحضر عددًا من الأزواج وأجلس معهم أحد الغرباء وطلب منهم أن يقولوا جملًا معتادة يقولونها كل يوم، كأن يقولوا: “شكلك اليوم مختلف”، وطلب من الأزواج تفسيرها، فكان التفسير عادة ما يكون واحدًا، أما الغريب فكان يعطي احتمالات كثيرة للجملة الواحدة، وهذا يشير إلى أن القرب في العلاقات يحيّد هامش المرونة عند الآخر في ملاحظة أطوار الطرف الآخر أو في إدراك معانيه المتغيرة(4).

 

ومن هنا يقترح أحد الباحثين أن الزواج السعيد أو العلاقات الناجحة هي المحادثات الطويلة التي تكون قصيرة عادة، كأن نركز في إجابات “كيف حالك؟”، فنحن غالبًا لا نستمع بالضبط إلى لغة الجسد أو الإشارة التي يمكن أن تشير إليها الإجابة، أو أن نركز في المحادثات والجمل اليومية ونحاول فهمها وتطويلها بشكل يعيد الفضول إلى العلاقة(4).

 

  • 3- الانشغال بالفوز:

غالبًا ما ننسى أن الاتصال هو عملية ذات اتجاهين، وهي ليست مسابقة، خصوصًا عندما نتواصل مع عائلتنا وأصدقائنا، فليس المهم الفوز بفكرة أو بإجابة حاسمة، التواصل الجيد هو قيمة إيجابية في حدّ ذاته، وتحضيرنا للرد والإجابة خلال حديث المتكلم يشتت انتباهنا ويجعلنا مستمعين غير جيدين(3).

 

نحن نحاول دائما أن نغير أسلوب تواصلنا مع الناس من خلال تغيير ما نتحدث به إليهم، لكننا لا نغير أسلوب سماعنا لهم، والسماع هو نصف التواصل، ومهارة التركيز في الاستماع (Mindful listening) ليست مهارة سهلة، إذ تحتاج إلى تدريب.

 

كيف أكون مَحبوبًا بين النّاس عن طريق الاستماع؟

 الإنصات والاستماع الجيّد

  • أولًا: أعطِ لنفسك فرصة أن تتعلّم شيئًا جديدًا

يعتمد الاستماع الذي يجعلنا محبوبين على فكرة بسيطة مفادها: تحدّي معلوماتنا السابقة وتوقعاتنا في المستقبل. الاستماع هو نشاط اجتماعي معرفي يتأثر بتجاربنا السابقة وتوقعاتنا عن المستقبل، فنحن نركز في الاستماع عند مقابلة العمل أكثر من تركيزنا مع صديق يمكن أن نقابله مرة أخرى، ونحن نركز عادة على المعلومات التي نريد أن نعرفها عن العمل الجديد مثل المرونة في ساعات العمل، لأن تجربتنا السابقة في العمل لم تكن كذلك مثلًا، لكن هذا قد يُفقدنا جزءًا كبيرًا من معلومات الاستماع، بل قد يشتتنا؛ لذلك كان الاستماع الفعال حسب عالم النفس “مارشال روزنبرغ” هو استقبال عاطفي للآخرين (Receiving Empathically) يتطلب إفراغ ما في عقولنا ونفوسنا وتصوراتنا القبلية والاستماع فقط(5).

 

  • ثانيًا: استمع أكثر ممّا تتحدّث

عندما نفعل ذلك سيكون المتحدث هو محور اهتمامنا، ولن نحاول البدء في التحضير لردنا دون انتهاء حديث المتكلم. كثير من الناس لا يستمعون بقصد الفهم، بل يستمعون بنية الرد، لذلك طوّر الباحث “فيراري” نسخته الخاصة من قاعدة “80/20” ، وهي أن شريكه في المحادثة يجب أن يتحدث 80% من الوقت، بينما يجب أن يتحدث هو 20% فقط من الوقت، كما أنه يحاول استغلال 20% من وقته في طرح الأسئلة بدلاً من محاولة إبداء رأيه الخاص، على الرغم من أنه يقر بأنه من الصعب قمع رغبتنا في التحدث أكثر من الاستماع، لكنه يمكن بالصبر أن نتعلم التحكم في الدافع وتحسين جودة استماعنا(6).

 

  • ثالثًا: تمهّل قبل أن تقفز للأحكام والاستنتاجات

لا تقفز للإجابات الجاهزة أو الاستنتاجات المتسرّعة، ولا تصحح الأخطاء الواردة في الحديث بشكل متكرّر ومُنفِّر، أو تُسدي النصائح السريعة، بل علينا أن نحاول فهم ما يقوله الآخر وطرح أسئلة تليق بما يقول.

 

  • رابعًا: عبّر عن اهتمامِك بلُغة الجسد وتعابير وجهك

ينبغي أن نسمع بعقلنا وجسدنا وتعابير وجوهنا، ولغة العيون من أهم لغات الجسد، ووضعية أجسامنا تؤثر بشكل ما على صورة تفكيرنا عند الآخر، فلا يُظهر الحفاظ على التواصل البصري والإيماء ووضعية جسدنا أننا نستمع فحسب، بل يُظهر أيضًا اهتمامنا بما يقوله(1).

 

  • خامسًا: لا تنشغل بهاتفك أثناء تحدّث الآخر إليك

الإنصات والاستماع الجيّد

لا تسمح للمشتتات بإفساد علاقتك بالآخرين. نحن نعيش في زمن يتسم بعوامل تشتيت متعددة، مثل الهواتف المحمولة والإنترنت والتلفزيون وما إلى ذلك، ولذلك من الصعب جدًّا إجراء محادثات هادفة مثل الاستماع الفعّال مع وجودها، لذلك علينا أن نعطي المحادثة حقها ونُبعِد عن أماكن جلوسنا الأجهزةَ الإلكترونية المشتتة أو نغلقها(2).

 

  • سادسًا: عبّر عن مدى تعاطفك مع مشكلات الآخر

لا شيء أدعى لحبّ الآخرين لنا أكثر من أن يعرفوا أنّنا متعاطفون مع ما يقولونه وما يشعرون به، وكوننا متعاطفين يسمح لنا أن نفهم موقف الآخرين وظروفهم بشكل أفضل، أن نتذكر قول “رالف نيكولز”: “إن أبسط احتياجات الإنسان هي الحاجة إلى الفهم، وأفضل طريقة لفهم الناس هي الاستماع إليهم”(2).

 

  • سابعًا: اطلب توضيحًا واستفسر عن التفاصيل

إذا أراد الآخر دليلًا ضمنيًّا لمدى جدّية استماعك وإنصاتك لحديثه، فلا شيء أكثر برهانًا ودلالة من أن نطلب التوضيح عندما تبدأ لغة المتحدث تميل إلى الغموض، أو إذا كنا غير متأكدين من فهمنا للرسالة، وأن نعيد صياغة ما سمعناه أخيرًا حتى يتأكد المتكلم من حصولنا على الفكرة الصحيحة.

 

أخيرًا، يميل الناس إلى الاعتقاد بأن الاستماع هو مسعى سلبي بدلاً من كونه مسعى نشطًا، ومن هذا الافتراض الخاطئ يأتي الافتراض القائل بأن الاستماع يمكن أن يكون مضيعة للوقت، ولكن الاستماع الجيد في حقيقته يكسبنا ثقةَ مَن حولنا واحترامهم، ويكسبنا تواصلًا مفيدًا مع الناس، بل إنه يسهم بشكل كبير في فهم الإنسان نفسه واختلافنا عن بعضنا في طبائعنا وطرائق تفكيرنا، ومَن لا يُحسِن الاستماع فسيتحدث مع نفسه وعن نفسه فقط.

————————————————————————-

المصادر والمراجع:

1- Effective Listening & Aphorisms, Jeff Thompson, Psychology Today Magazine.

2- The Power Of Listening, Lamees A, (2015).

3- Power Listening: Mastering the Most Critical Business Skill of All, Bernard T. Ferrari, (2012).

4- You’re Not Listening, Kate Murphy, (2020).

5- Nonviolent Communication: A Language of Life, Marshall B. Rosenberg, (2003).

6- Simple Keys to Effective Communication, Clifford N. Lazarus, Psychology Today Magazine.

المصدر: وكالات + الجزيرة نت

Share.

صحفية عراقية من اربيل خريجة وزارة الاعلام في اربيل سنة 2004

Comments are closed.