مقدمة الترجمة

تشهد بلدان آسيا الوسطى ازديادا ملحوظا في أعداد المدن الجديدة، في ظل ميل الحكومات إلى تحقيق طفرات إنشائية واتجاه أعداد متزايدة من السكان إلى المدن، تاركين وراءهم الحياة الريفية والبدوية التقليدية التي طالما عُرِفَت بها شعوب المنطقة. تُنفق الحكومات مليارات الدولارات على هذه المدن الجديدة، وتزودها بالتقنيات الجديدة المُبهرة، ورغم ذلك لا تزال معظمها أشبه بمدن أشباح مخيفة في ظل عزوف الناس عن الانتقال إليها.

نص الترجمة

شهدت تركمانستان افتتاحا صاخبا يليق بتدشين مدينتها الأحدث “أركاداغ” يوم 29 يونيو/حزيران الماضي، وهي مدينة جديدة “ذكية” تكلَّفت نحو 5 مليارات دولار كما تشير وسائل الإعلام الرسمية التركمانية باستمرار، وستُنظَّم فيها الحياة اليومية بواسطة التقنيات الرقمية والخضراء. وقد اختير يوم 29 يونيو/حزيران لافتتاحها نظرا لتزامنه مع عيد ميلاد “قُربانقُلي بِردي محمدوف”، الرئيس السابق وأبو الرئيس الحالي “سردار بِردي محمدوف”. أما الاسم “أركاداغ” فليس سوى اللقب الذي يشتهر به الرئيس السابق ويعني بالتُركمانية الحارس والراعي. بيد أن بِردي محمدوف الأب لم يكن حاضرا في ذلك اليوم، فبعد أن دفع من أجل تأسيس المدينة وتوفير تكاليفها الضخمة قبيل رحيله عن منصبه، قرَّر الرئيس السابق أن يسافر إلى مكة لأداء مناسك الحج وسط تغطية إعلامية كبيرة، وفي أثناء رحلته إلى المملكة العربية السعودية تطلَّع بناظريه من نافذة الطائرة نحو مدينة “أركاداغ” والترتيبات الجارية فيها استعدادا للاحتفال بها.

يبدو أن منطقة آسيا الوسطى كلها تعيش لحظة خاصة مع فكرة المُدن الجديدة. فبعد يوم واحد من احتفالية تركمانستان، وضع الرئيس القرغزستاني “صدر جباروف” حجر الأساس لمدينة “أسْمان” الجديدة على ضفاف بحيرة “إيسيك كول”، حيث تقول الحكومة إن 700 ألف شخص سينتقلون إلى العيش فيها بعد الانتهاء منها. ولم تتخلَّف الدول الثلاثة الأخرى المجاورة عن الركب، فقد كان لكازاخستان وطاجيكستان وأوزبكستان نصيب من هذا الهَوَس بالإنشاءات. وتعكِس هذه المشاريع العملاقة لبناء المدن اتجاها صلبا لدى دول المنطقة، حيث يتجه عدد متزايد من سكانها إلى العيش في معاقل سُكانية كثيفة، تاركين وراءهم الحياة الريفية والبدوية التقليدية التي طالما عُرِفَت بها شعوب آسيا الوسطى، وباحثين عن وسائل الراحة والوظائف الأسهل منالا في المُدُن.

أركاداغ.. مدينة الأب الراعي

ظهرت فكرة تأسيس مدينة جديدة في أركاداغ عام 2018، حين تقرَّر في أكتوبر/تشرين الأول البحث عن موقع مناسب على بُعد 30 كيلومترا من العاصمة التركمانية عشق آباد، بحيث تستضيف بين جنباتها مركزا عُمرانيا ضخما وفي القلب منه مُجمَّع للبنايات الحكومية، علاوة على مبانٍ سكنية ومدارس ومراكز تجارية وبنوك ومستشفيات ومسرح ومكتبة ومتحف وحديقة كبيرة وملعب لكرة القدم ومدرسة فروسية، بالإضافة إلى ساري علم شاهق الارتفاع.

بعد خمس سنوات وبضعة ملايين من الدولارات، باتت المدينة الآن حقيقة مادية، لكنها خالية من السكان إلى حدٍّ كبير. وتبذل السلطات التركمانية الغالي والنفيس من أجل إثبات مدى حداثة مدينة أركاداغ، فهناك منظومة مواصلات ذكية ستُنظِّم المرور، وستجري مراقبة السكان بنظام فيديو مُنتشر في كل أرجاء المدينة. كما أن الشقق والبيوت السكنية مُزوَّدة بتكنولوجيا ذكية تتيح لساكنيها متابعة استهلاك الكهرباء والمياه والغاز بواسطة أجهزة التابلت الخاصة بهم. وحين زار الرئيس الحالي أحد المنازل يوم الافتتاح، شاهد بنفسه مكنسة كهربائية آلية يُمكن تشغيلها بلوح التحكُّم عن بُعد (الريموت). هذا وتحُث الحكومة الناس على الاستخدام الاقتصادي لتلك المرافق.

بيد أن الموقف الحقيقي للسلطات التركمانية تجاه تكنولوجيا المعلومات ظهر بجلاء حين شهدت سرعات الإنترنت تباطؤا شديدا قبل افتتاح المدينة بأيام، حيث أفادت إحدى المنصات الصحافية التركمانية على الإنترنت بأن الاتصالات كانت بطيئة جدا إلى حدٍّ يصعُب معه استخدام خدمات تجاوز الحجب (VPN)، وقالت لعل الأمر أتى مُتعمَّدا من الحكومة لتقييد الوصول إلى أي محتوى سلبي إبَّان الاحتفالية. كما تواصلت مشكلات الإنترنت بعد الافتتاح، حيث نشر موقع تركماني مُعارض من هولندا تقريرا عن استمرار انخفاض نشاط الإنترنت في البلاد عند 12% فقط من نشاطه السابق بعد مرور خمسة أيام على الاحتفالية. وتساءل ساخرا موقع “أخال تِكِه” التركماني المعارض عن مصير الأنظمة الذكية في المدينة الجديدة حال قرَّرت السلطات مجددا إبطاء سرعة الإنترنت.

حين تنتهي المرحلة الثانية من البناء، سيكون البلد الغني بالغاز الطبيعي قد أنفق نحو 5 مليارات دولار، وستكون مساحة المدينة قد بلغت عشرة كيلومترات مُربَّعة، أي خمسة أضعاف مساحة مقاطعة موناكو الشهيرة، وسيكون بوسعها استضافة 73 ألف مواطن. غير أنها حتى اللحظة ليست سوى مدينة أشباح مُخيفة، وقد أشار موقع “كرونيكِلز أوف تركمانستان” المعارض من فيينا إلى أن سُكان العاصمة عشق آباد الذين منحتهم الدولة وحدات سكنية في أركاداغ ليسوا مُتحمِّسين للانتقال إلى المدينة الجديدة بسبب القيود المفروضة على سكانها، وأبرزها عدم السماح للسيارات الخاصة بدخول المدينة أصلا، حيث يجب أن يوقفوا سياراتهم على حدودها، وألا يستخدموا سوى المواصلات العامة المتاحة داخلها فقط.

أسْمان.. على ضفاف البحيرة الدافئة

في قرغزستان المجاورة، وعلى ضفاف بحيرة “إيسيك كول” (وتعني بالقرغزية البحيرة الدافئة)*، يمتلك الرئيس صدر جباروف طموحات مستقبلية مشابهة لنظيره التركماني. فقد قرَّرت السلطات بناء مدينة أسْمان بتكلفة نحو 20 مليار دولار، وقالت إنها ستتدفق حصرا من مستثمري القطاع الخاص. ويحاكي تصميم المدينة آلة “القوموز” الموسيقية بحيث تبدو المدينة من الجو وكأنها نُسخة من الآلة الوطنية للموسيقى القرغزية. (وتشمل مشاريع أسْمان، وفقا لموقعها الرسمي، مدينة رياضية ومدينة أكاديمية ومدينة طبية، وبرجا بارتفاع 210 متر، وشارع “أسْمان غورميه” لتقاليد الطهي المختلفة، وناديا لليخوت، و”زيپلاين” الأطول والأسرع من نوعه في العالم لمُحبي الانزلاق الحُر، وحلبة لسباق السيارات “فورمولا 1″، بالإضافة إلى مركز لتجارة الذهب، ومُجمَّع تجاري وترفيهي ضخم)*.

مثلها مثل أركاداغ، ستُزوَّد أسْمان بأحدث تكنولوجيا الاتصالات الرقمية المتطورة، وحرصا على احتواء المُدافعين عن البيئة الذين يخشون من منظرها المُطِل على بحيرة “إيسيك كول”، يقول المسؤولون إن المدينة ستكون صديقة للبيئة، كما أكَّد الرئيس جباروف بنفسه: “في أثناء التخطيط والتطوير والتفكير في كل جزء من تفاصيل البنية التحتية، نراقب عن كثب الالتزام بمعايير الاستدامة وحماية البيئة. إننا بصدد تبنِّي أفضل الإجراءات المتاحة على مستوى العالم في إدارتنا الرشيدة للموارد المائية ومعالجة النفايات وأنظمة التدفئة”. أما عن ماهية النشاط الذي سيعمل فيه السكان بعد الانتقال إلى المدينة، فقد قال الرئيس القرغزي إن أسْمان ستُصبح “مركزا ماليا يربط الشرق والغرب، والشمال والجنوب”.

علاوة على المدينة الجديدة، أعلن صدر جباروف يوم 16 أبريل/نيسان الماضي البدء في بناء مُجمَّع مبانٍ إدارية ورئاسية جديد إلى الجنوب من العاصمة القرغزية “بيشكَك”، حيث يجري العمل الآن في الموقع الذي حوى سابقا فندق “إيسيك كول” بعد أن رُفِعت عنه صفة الحماية بوصفه مبنى تراثي عام 2021 (رغم احتجاجات بعض السكان حينها)*. ووفقا لتصريحات جباروف، سيساعد المُجمَّع الجديد في تخفيف الزحام عن قلب العاصمة، إذ إن مقر عمل الرئيس الحالي الكائن في مبنى دار الحكومة الرمادي الرتيب يبعُد 12 كيلومترا عن مقر إقامته الرئاسي، ولذا في كل مرة يذهب إمام علي رحمان إلى عمله، تُضطَر السلطات إلى إغلاق العديد من الطرق الرئيسية في بيشكَك لأسباب أمنية. أما المُجمَّع الجديد فيبعُد كيلومترَين ونصف فقط عن مقر إقامة الرئيس المعروف بـ”ألا أرتشا”. علاوة على ذلك، تروِّج الحكومة القرغزية إلى أن المُجمَّع الجديد البالغة مساحته 21 ألف متر مُربَّع سيُحقِّق طفرة في كفاءة البيروقراطية في البلاد.

تشي صور تصميمات المشروع ومنظره النهائي بطبيعته الحديثة جدا، حيث تكتسي المباني بالزجاج، وتتسِم بخطوط ملساء على غرار التصميمات الحداثية، وقد خصَّصت السلطات مساحات خضراء واسعة ونوافير للمُجمَّع بالإضافة إلى مهبط طائرات مروحية. بيد أن أكثر ما يلفت النظر في ثورية المشروع، على حد قول جباروف، هو أن الدولة لن تتكلَّف قرشا واحد لبنائه، إذ ستضطلع الشركات الخاصة بتوفير العمال والمال مقابل حصولها على نحو كيلومتر ونصف مُربَّع من الأرض المُطِلة على أحد الأنهار. “إننا نعطيهم أرضا، وفي المقابل سيُشيِّدون لنا مبنى”، هكذا وصفها الرئيس باختصار. ولكن الكثير بخصوص تفاصيل العقود يظل مجهولا للرأي العام، فلم يظهر للنور سوى اسم شركة واحدة اسمها “تي إس جروب” تأسست عام 2014 ويعمل نموذجها التجاري على بناء الوحدات السكنية مقابل بيعها أو استبدالها بعقارات أقدم.

قونايف ودَنْغَرَه

لقد سبقت كازاخستان دول آسيا الوسطى في سباق المُدن الجديدة منذ زمن طويل حين افتتحت عاصمتها “أستانا” في نهاية التسعينيات (وقد سُميَت المدينة “نور سلطان” على اسم الرئيس السابق “نورسلطان نظربايف” عام 2019، قبل أن تُعاد إلى اسمها الأصلي العام الماضي)*. غير أن الأنظار اتجهت مؤخرا إلى فكرة إعادة تأهيل بلدة “قونايف”، التي كانت حتى مارس/أذار 2022 مجرد بلدة ريفية اسمها “قَبشاغاي”.

وقد نشأت فكرة تطوير قونايف وإعلانها عاصمة لمنطقة “ألماتي” لتخفيف الضغط عن مدينة “ألماتي” الأكبر في البلاد وعاصمتها السوفيتية القديمة، التي تقع على بُعد 75 كيلومترا إلى الجنوب من قونايف، ولاجتذاب السكان الراغبين في ترك المباني السكنية العشوائية في المنطقة. بدوره، دعا الرئيس الكازاخستاني “قاسم جومارت-توقايف” في أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي إلى تحويل قونايف إلى مدينة ذكية وبيئية على أعلى مستوى. وطبقا للخطة العامة المنشورة للمدينة، ستبلغ مساحتها 190 كيلومترا مُربَّعا وتستضيف 200 ألف ساكن تقريبا بحلول عام 2050، هذا وأظهرت الاقتراحات الأوليَّة للمشروع مزيجا من ناطحات السحاب ذات الواجهات الزجاجية والحدائق العامة وبيوت الضواحي ذات الطوابق المحدودة.

في طاجيكستان، وبرعاية رئيسها “إمام علي رحمان”، تعمل الدولة على مشروع مشابه في “دَنْغَرَه”، التي لم تكُن سوى قرية ريفية مجهولة في جنوب البلاد حتى وقت قريب. وقد حالفها الحظ بالنظر إلى أنها عاصمة الإقليم الذي وُلِد فيه الرئيس. فعلى مدار السنوات العشر الماضية، شهدت المدينة حركة إنشاءات متسارعة، حيث ظهرت مئات المباني، بما في ذلك عدد من الأبراج الإدارية، علاوة على المراكز التجارية والمصانع والمنشآت الطبية.

وتقضي إحدى الخُطط المُقترحة ببناء مطار جديد في دَنْغَرَه، رغم وجود واحد بالفعل في مدينة “كولاب” التي تبعُد عنها نحو 90 كيلومترا (وهي واحدة من أكبر مدن طاجيكستان ويسكنها نحو 200 ألف مواطن)*. علاوة على ذلك، يبدو رُوَّاد الأعمال متحمِّسين لنقل أعمالهم إلى المنطقة الاقتصادية الحُرة في المدينة الجديدة بالنظر إلى أن حملات التفتيش على الأنشطة التجارية في دَنْغَرَه نادرة للغاية مقارنة بالعاصمة “دوشَنبِه”. بيد أن تلك الخطط العملاقة لا تبدو متناسبة حتى الآن مع سكان إقليم “ختلان” الجنوبي بالكامل، الذين يقف تعدادهم عند 160 ألف مواطن.

ثمَّة هَوَس بالمدن الجديدة في أوزبكستان، فبطول البلاد وعرضها، تظهر مقاطعات مالية ينتهي اسمها بـ”سيتي” وتضُم مباني شاهقة وحديثة، وأشهرها “طشقند سيتي” في قلب العاصمة. (شترستوك)

أخيرا، ثمَّة هَوَس بالمدن الجديدة في أوزبكستان أيضا، لكنه اتخذ شكلا مختلفا عن أخواتها. بطول البلاد وعرضها، تظهر مقاطعات مالية ينتهي اسمها بـ”سيتي” وتضُم مباني شاهقة وحديثة، وأشهرها “طشقند سيتي” في قلب العاصمة، (والمدينة الأكبر في آسيا الوسطى بتعداد يتجاوز مليونيْ نسمة)*. لقد أوكلت السلطات الأوزبكية إلى مجموعة “أروب”، شركة الخدمات الهندسية الكائنة في لندن، مهمة وضع المُخطَّط العام للمدينة، الذي وصفته الشركة في حملاتها الدعائية بأنه يجعل “طشقند سيتي مقاطعة طموحة متعددة الاستخدامات ذات مركز أخضر، وبها مساحة للأعمال ومناطق سكنية ومنشآت تجارية وترفيهية”. (ستُبنى المدينة على أنقاض العديد من الأحياء القديمة الصغيرة الشهير بـ”محلَّة”، وفقا لتقرير لصحيفة الغارديان البريطانية نشرته بالتعاون مع أوراسيا نِت، في حين يظل مصير سُكَّانها الذين توارثوا بيوتهم أبا عن جد مجهولا وفقا لخُطَط الدولة لنقلِهم)*.

لكن ليست كل المقاطعات الأوزبكية التي تنتهي بـ”سيتي” باهرة على الورق بالقدر نفسه. ففي مطلع العام نشر الصحافي “أوميد كافوروف” مقطع فيديو على الإنترنت يُظهِر حصيلة أربعة أعوام من العمل فيما يُسمَّى “بُخارى سيتي”، وهي مقاطعة تجارية قُرب المركز التاريخي لمدينة بُخارى الشهيرة. في التسجيل، يظهر ما تمَّ إنجازه في المدينة الذكية: فندق واحد وعدد من هياكل البنايات السكنية غير المُكتملة.

_____________________________________________

* ملاحظة المترجمة

ترجمة: ماجدة معروف

هذا التقرير مترجم عن Eurasianet ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.


المصدر: وكالات + الجزيرة نت

Share.

صحفية عراقية من اربيل خريجة وزارة الاعلام في اربيل سنة 2004

Comments are closed.