لن تكون مبالغة إذا قيل إن مدينة جدة التاريخية “متحف مفتوح” بكل ما تحمله العبارة من معنى.

فمع أولى خطوات الزائر في المدينة التي تعرف محليا في السعودية باسم “البلد”، يشعر بأنه قطع رحلة عبر الزمن، ليجد نفسه بين أزقة ومساجد وبيوت وخانات يرجع تاريخها إلى مئات السنين.

ومع أن بعض المؤرخين يدافعون عن أن تاريخ المدينة يمتد إلى حقبة ما قبل الإسلام، إلا أن الجميع يتفقون على أن جدة شهدت نقطة تحول مع بزوغ الإسلام، وتحديدا في عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان.

وشيدت المباني في مدينة جدة القديمة في شوارع ضيقة تربط بين الشمال والجنوب وبين الشرق والغرب لاستغلال رياح البحر، وهي مصممة لتلقي الظلال على بعضها بعضا من أجل تقليل أثر درجة الحرارة والرطوبة الشديدة.

ونظرا لكونها الميناء الأول بالجزيرة العربية المطل على البحر الأحمر، ضمت المدينة عديدا من المعالم الأثرية والحوانيت التراثية والحارات التاريخية.

تاريخ ممتد

وفق بيانات وزارة السياحة السعودية، تشير الدراسات الأثرية إلى وجود سكان في المنطقة المعروفة الآن بجدة منذ أيام العصور الحجرية، إذ وجدت بعض الآثار والكتابات الثمودية بمواقع شرقي المدينة.

وتعود نشأة جدة إلى نحو 3 آلاف سنة على أيدي مجموعة من الصيادين كانت تستقر فيها بعد الانتهاء من رحلات الصيد بالبحر الأحمر.

أما كمدينة، فيرجع بعض المؤرخين تأسيسها لقبيلة بني قضاعة العربية الذين سكنوها بعد انهيار سد مأرب باليمن عام 115 قبل الميلاد.

بيوت قديمة بمشربيات خشبية في مدينة جدة التاريخية العريقة (الأناضول)

وعن سبب تسميتها بجُدة، يذكر ياقوت بن عبد الله الحموي في كتابه “معجم البلدان” أن جدة بن جرم بن قضاعة، أحد مشاهير العرب قبل الإسلام ولد في جدة فسماه أهله باسمها، ثم أخذت المدينة اسمه.

بينما يدافع آخرون عن اسمها جَدة، أي والدة الأب أو الأم، في إشارة إلى أم البشر حواء التي يُقال إنها دفنت في المدينة التي نزلت إليها من الجنة بينما نزل آدم في الهند والتقيا عند جبل عرفة.

أما جِدة فهو النطق الشائع للمدينة على ألسنة أهلها حاليا.

نهضة إسلامية

ومع ظهور الإسلام في الجزيرة العربية، تطورت جدة بشكل كبير لكونها بوابة الحرمين الشريفين من اتجاه البحر وتضاعفت مكانتها عندما قام الخليفة عثمان بن عفان باختيارها عام 647م لتصبح ميناء رئيسيا لمكة المكرمة.

وجدة تسير على هذه السنّة إلى اليوم، إذ ما زالت تعد المعبر الرئيسي للحجاج القادمين عبر البحر والجو والبر أيضا في أحيان كثيرة.

ووصف الرحالة المقدسي البشاري في كتابه “أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم” جدة بأنها “مدينة آمنة، بيوتها مبنية على الطراز الفارسي، ومكتظة بالأثرياء والتجار، وأزقتها مستقيمة”.

أزقة ومساجد وبيوت وخانات جدة يرجع تاريخها إلى مئات السنين (الأناضول)

وحافظت جدة على مكانتها كواحدة من أهم مدن العالم الإسلامي، طوال حكم الأمويين، والعباسيين، والأيوبيين، والمماليك، ثم العثمانيين.

وشهدت المدينة تطورا لافتا في عهد المماليك الذين حرصوا على تشييد سور يحيط بها، لحمايتها والحجاج المسلمين من هجمات البرتغاليين.

أهمية كبيرة

وازدادت أهمية جدة مع مرور الزمن حتى أصبحت واحدة من أكبر المدن في الجزيرة العربية على الصعيد الاقتصادي والسياسي والاجتماعي.

وعام 1869، تمّ افتتاح قناة السويس في مصر، وهو ما مثّل بداية مرحلة جديدة لنمو جدة والمناطق المحيطة بها، خاصة مع ظهور السفن البخارية.

وفي العقود التالية، تطورت جدة ومرافقها لتصبح “البلد” أشبه بالمزار السياحي داخلها، وبقي الإقبال عليها كبيرا، لا سيما مع حرص السلطات على ترميم أزقتها ومساجدها وحوانيتها.

تراث معماري عريق في مدينة جدة التاريخية القديمة (الأناضول)
تراث معماري عريق في مدينة جدة التاريخية القديمة (الأناضول)

ويلفت الأنظار حرص عمليات الترميم أو إعادة البناء على عدم المساس بالجوانب الثقافية والتراثية والبيئية للمدينة، لتقديمها كـ”وجهة سياحية عالمية”.

ويوم 21 يونيو/حزيران 2014، أدرجت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو) منطقة جدة التاريخية في قائمة التراث العالمي.

ويزور جدة سنويا ملايين الأشخاص من داخل المملكة وخارجها لأهداف متنوعة، مثل الحج والعمرة، أو العمل، أو السياحة والترفيه.

وتبعد جدة نحو 949 كيلومترا عن العاصمة الرياض، و79 كيلومترا عن مكة المكرمة، و420 كيلومترا عن المدينة المنورة.

وسط مدينة جدة التاريخية حيث تقع أزقة ومساجد وبيوت وخانات يرجع تاريخها إلى مئات السنين (الأناضول)

آثار جدة

تقسم جدة التاريخية داخل الأسوار إلى 7 مناطق، هي: حارة المظلوم، وحارة الشام، وحارة اليمن، وحارة البحر، والبلد (أقدم أحياء جدة)، وحارة الرويس، وحارة الكرنتينه.

ومن خانات جدة التاريخية الشهيرة: خان الهنود، وخان القصبة، وخان الدلالين، وخان العطارين.

سور جدة، الذي بُني في عهد السلطان المملوكي قنصوه الغوري، أيضا من أبرز معالم جدة البارزة، وكان يتخلله عدة أبراج وأبواب، لكن أزيلت أجزاء كبيرة منه خلال العقود الماضية، وبقي منه جزء مرمم يرحب بالزائرين في مدخل المدينة.

مدينة جدة التاريخية “متحف مفتوح” ويشعر زائرها بأنه قطع رحلة عبر الزمن (الأناضول)

ويعد “بيت نصيف” من أهم القصور التاريخية في جدة ويرجع تاريخ بنائه إلى عام 1872، ويعد من أبرز الشواهد على النمط المعماري للمدينة.

أما “السوق الكبير” فيعد الأبرز من نوعه في جدة، ويتخصص ببيع الأقمشة المختلفة، في محلاته المميزة بأبوابها الخشبية الكبيرة والصغيرة.

وعلى صعيد المساجد، يعد مسجد الشافعي في “حارة المظلوم” الأقدم بالمدينة ويتميز بطراز معماري فريد، ويعتقد أن منارته قد بنيت في القرن الثالث عشر الميلادي، ويتميز بوسطه المكشوف.

المصدر: وكالات + الجزيرة نت

Share.

صحفية عراقية من اربيل خريجة وزارة الاعلام في اربيل سنة 2004

Comments are closed.