لطالما كانت مراكز البحث المحافظة الشهيرة مثل مؤسسة هيريتيج أو معهد أميركا إنتربرايز أو معهد هادسون لاعبا أساسيا في المشهد السياسي الجمهوري في واشنطن، ولعقود ساهمت هذه المراكز في تشكيل خطاب الحزب الجمهوري تجاه القضايا الداخلية والخارجية وصياغة جدول أعماله السياسية.

وقد تبنى البيت الأبيض في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب بعضا من مقترحاتها، إلا أن نصيب الأسد في صياغة فكر ونظريات ترامب في الحكم وحتى بعد خروجه من البيت الأبيض يوجد خارج العاصمة واشنطن.

وعند ظهور دونالد ترامب على مسرح السياسة الأميركية عام 2015 مرشحا للرئاسة هاجمته نخبة المراكز البحثية الجمهورية المحافظة في واشنطن وخارجها، واصطف أغلب خبراء وباحثو تلك المراكز وراء المرشحين التقليديين مثل السيناتور تيد كروز أو حاكم ولاية فلوريدا السابق جيب بوش، وشارك الكثير من هؤلاء الخبراء في التوقيع على عرائض تؤكد على أن المرشح ترامب لا يملك مقومات أساسية ليصبح رئيسا وقائدا أعلى للقوات المسلحة الأميركية.

ينشغل المسؤولون السابقون في إدارة ترامب ومن تقربوا له ولدائرته على مدار السنوات الست الماضية ببناء مراكز أبحاث فكرية لتوفير السياسات والبدائل، والأهم من ذلك توفير كبار الموظفين للخدمة في الإدارات الجمهورية مستقبلا

ومع انتصار ترامب في انتخابات 2016 ضاعت فرصة كبيرة على هؤلاء الخبراء والباحثين في شغل مناصب في إدارة جمهورية بعد بقائهم بعيدا عن البيت الأبيض والوزارات المختلفة أثناء سنوات حكم الرئيس الديمقراطي باراك أوباما الثماني.

يذكر أن هناك ما يقارب 4 آلاف وظيفة في الحكومة الفدرالية يتم شغلها من قبل المعينين السياسيين، وتكون المراكز البحثية على رأس مصادر توظيف هؤلاء الذين يشاركون الرئيس الفائز نفس الخلفية الأيديولوجية والفكرية.

ودفعت سياسات ترامب اليمينية الشعبوية وتبنيه مبدأ “أميركا أولا” في زيادة الهوة بينه وبين نخبة واشنطن الجمهورية التقليدية مع بعض الاستثناءات القليلة، ودفع ذلك بقوى اليمين الشعبوي الأميركي لمحاولة ملء هذا الفراغ وبناء مؤسسات بحثية جديدة تُخدّم على تصرفات ومواقف ترامب وتُنظّر وتضع إطارا فكريا وتاريخيا لما نادى به، وينادى به، وتعمل هذه المؤسسات الجديدة على بناء هوية مميزة لها وسط مئات المراكز البحثية المنتشرة والمؤثرة في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية الأميركية.

وبعد أكثر من 7 سنوات على ظهور ترامب ممثلا لتيار شعبوي يميني برزت عدة مؤسسات بحثية فاعلة ومؤثرة لأفكار هذا التيار، وتكرر هذه المراكز الجديدة أو المراكز القديمة -التي منحها ترامب قبلة جديدة للحياة- مقولات على شاكلة إن “النخب الأميركية ليست متجددة وغير ذات كفاءة وغير مؤهلة”، كما يقول مايكل أنطون أحد أهم مساعدي الرئيس السابق ترامب لشؤون الأمن القومي.

يعد أنطون من أبرز وجوه مركز كليرمونت، وينتظر أن يكون له دور سياسي كبير مع استمرار صعود التيار اليميني، ومع توقع الحزب الجمهوري استعادة أحد مجلسي الكونغرس في انتخابات نوفمبر/تشرين الثاني القادمة أو كليهما يأمل أنصار ترامب من المرشحين اليمينيين ترجمة طاقة حركتهم الناشئة إلى حصة من تلك السلطة، ولأنهم متحمسون لانتخاب ترامب يريدون لعب دور مستقبلي في إدارته الثانية أو الإدارات المستقبلية للمرشحين القريبين من سياسات ترامب مثل حاكم ولاية فلوريدا رون دي سانتيس أو السيناتور تيد كروز أو غيرهما.

ينشغل المسؤولون السابقون في إدارة ترامب ومن تقربوا له ولدائرته على مدار السنوات الست الماضية ببناء مراكز أبحاث فكرية لتوفير السياسات والبدائل، والأهم من ذلك توفير كبار الموظفين للخدمة في الإدارات الجمهورية مستقبلا.

ويهدف هؤلاء لتوفير مئات الوجوه من الخبراء والباحثين ممن يتبنون سياسة “أميركا أولا” ومن لا يعارضون التشدد في موضوع الهجرة والتضييق على بقية الأقليات ومن لا يدعمون دورا أميركا واسعا في الخارج -خاصة في القارة الأوروبية أو الشرق الأوسط- ومن لا يرفضون فرض قيود واسعة على حركة التجارة العالمية والوقوف بحزم في وجه الصعود الصيني المستمر.

على رأس تلك المراكز البحثية يجيء معهد كليرمونت، وهو مركز أبحاث يميني مركزه الرئيسي في ولاية كاليفورنيا، واستطاع المركز فرض نفسه بقوة في السنوات الأخيرة في الأوساط الجمهورية اليمينية، ونجح في إضفاء شرعية فكرية على المرشح ترامب عام 2016، ويبدو أنه نجح وبشدة في مسعاه.

لم يقدم المعهد الحجج الفكرية للترامبية فقط، بل عمل نقطة انطلاق لمحاربة السياسات الليبرالية باعتبارها معادية لأميركا وإرثها الثقافي والتاريخي التقليدي.

ومن معهد كليرمونت خرج المحامي جون إيستمان المنظّر القانوني وراء محاولة ترامب التشبث بالسلطة بعد انتخابات عام 2020، ولدى المعهد دورية قوية ومؤثرة تسمى “عرض كليرمونت للكتب” (Claremont Review of Books)، وعلى صفحاتها تم تمجيد الأفكار والسياسات الترامبية وصولا إلى دعم محاولات قلب نتائج انتخابات 2020.

ويروج “كليرمونت” لسياسات يمينية محافظة داعمة لشكل الأسرة التقليدي ومؤيدة بشكل كامل لاستكمال حظر الإجهاض، ويرفض المعهد دعم واشنطن الكبير لأوكرانيا، ويعتبرها قضية أوروبية لا تمس مصالح واشنطن المباشرة.

ويعمل معهد كليرمونت على منح الفرصة للمفكرين اليمينيين الجدد لتلميع سمعتهم بعد الضرر الذي لحق بهم بسبب توفير الدعم الفكري والنظري لأنصار ترامب ممن حاولوا اقتحام مبنى الكابيتول يوم 6 يناير/كانون الثاني 2021.

لم يتم الاكتفاء بمعهد كليرمونت الذي أسس منذ عام 1979، وجدد نفسه مع ظهور ترامب، بل ظهرت العديد من المراكز الأخرى لترجمة أفكار ترامب العشوائية إلى سياسات، نشأت مراكز فكر جديدة، ومن بين أكثر هذه المؤسسات تطورا مركز “البوصلة الأميركية” (American Compass) الذي تأسس عام 2020.

ومن أهم المراكز كذلك “معهد أميركا أولا للسياسة” و”مركز تجديد أميركا”، وهما يركزان في أعمالهما على قضايا الهوية الوطنية والهجرة والتنوع العرقي والديني في الولايات المتحدة، في حين تتبنى منظمة “أميركا أولا القانونية” -التي أسسها ستيفن ميلر المساعد السابق لترامب- قضايا الهجرة، إذ ترفع العديد من القضايا ضد إدارة جو بايدن بسبب سياساته لتخفيف قواعد الهجرة.

ولا تتوقف جهود تلك المؤسسات على توفير الإطار النظري فقط للأفكار اليمينية، بل تعمل على اجتذاب الكوادر وتطويرها، ولا سيما الشباب، ومن أبرز هذه الجهود “المؤتمر الوطني للمحافظين” الذي بدأ خلال إدارة ترامب ويعقد سنويا، ولا يجذب المؤتمر كبار المفكرين في اليمين الجديد فحسب، بل وأيضا العديد من الساسة الطموحين، مثل سيناتور ولاية ميسوري جوش هاولي.

لا يمكن لهذه المراكز والمؤسسات النجاح دون توافر الموارد المالية التي يأتي معظمها من مؤسسات وشركات وتبرعات من جهات داعمة لسياسات ترامب، ولا تعاني هذه المراكز من أي ضوائق مالية، خاصة مع تبنيها خطابا اقتصاديا قوميا، وهو ما يدر عليها الملايين من جهات تصب هذه السياسات في لب مصالحها المباشرة، والمالية في الوقت ذاته.

المصدر: وكالات + الجزيرة نت

Share.

صحفية عراقية من اربيل خريجة وزارة الاعلام في اربيل سنة 2004

Comments are closed.