كشفت الإدارة الأميركية أواخر الشهر الماضي عن إستراتيجيتها لمنع الصراع وتعزيز الاستقرار للسنوات العشر القادمة في مجموعة مختارة من دول العالم التي تعاني من الهشاشة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية والإنسانية والبيئية، وهذه الدول هي: ليبيا وموزمبيق وهاييتي وبابوا غينيا الجديدة، ومجموعة من دول الساحل الغربي لقارة أفريقيا تضم كلا من: غينيا وساحل العاج وغانا وتوغو وبنين، وذلك عملًا بإستراتيجية الولايات المتحدة التي أطلقتها عام 2020م تحت عنوان “إستراتيجية منع الصراع وتعزيز الاستقرار”.

فما هذه الخطة؟ وما أهدافها؟ ولماذا تم اختيار هذه الدول تحديدا؟ وهل هي خطة إنسانية أم مصالح قومية؟ وهل ستنجح الولايات المتحدة في هذه الإستراتيجية في الوقت الذي فشلت فيه حتى الآن في كافة تجاربها السابقة، وآخرها أوكرانيا؟ وهل هناك علاقة لهذه الخطة بخطة تحويل العالم المعروفة بأهداف التنمية المستدامة 2030م؟

أسئلة كثيرة تطرح نفسها ونحن أمام هذه الإستراتيجية التي تعدّ مثالًا حيًّا على منهجية العمل التي تقوم بها الولايات المتحدة في تحقيق مصالحها الخارجية، وتفسّر لنا كثيرا من الأحداث والتطورات التي تدور حولنا ونتابع جزئياتها في وسائل الإعلام من دون أن نستطيع نظمها في مشهد متكامل.

الإستراتيجية تشير إلى أن الولايات المتحدة لا تنطلق في إستراتيجيتها الجديدة من دوافع إنسانية محضة، وإنما لحماية مصالحها القومية ومصالح حلفائها وشركائها

دوافع إنسانية أم مصالح قومية؟

ما الذي يدفع الولايات المتحدة إلى القيام بإعداد مثل هذه الإستراتيجية والاهتمام بالدول التي تعاني من الهشاشة؟ وما الذي يجعل تركيزها الخارجي ينصب على منع الصراعات وتعزيز الاستقرار؟ وهل هي دوافع إنسانية، انطلاقًا من شعاراتها المتكررة حول حماية الإنسان، ورفاهية الشعوب، وتطوير المجتمعات وتحديثها، ونشر قيم التعايش والتكامل، وهي الدولة الإمبراطورية الوحيدة التي تنفرد بقيادة العالم؟ أم أنها المصالح القومية الإستراتيجية للولايات المتحدة وحلفائها وشركائها؟

تشير الإستراتيجية بكل وضوح إلى أن الولايات المتحدة تنطلق في إستراتيجيتها هذه لحماية مصالحها القومية ومصالح حلفائها وشركائها؛ فالعالم “يواجه مخاطر متزايدة من الصراع والعنف وعدم الاستقرار، ويشكل النزاع المسلح الدولي وعدم استقرار الدولة -على وجه الخصوص- تهديدات للشعب الأميركي، ولمصالح الولايات المتحدة في الداخل والخارج، ولحلفاء الولايات المتحدة وشركائها. ووسط حالة عدم الاستقرار هذه يمكن للخصوم والجهات الفاعلة الخبيثة أن يفترسوا الحكومات الضعيفة، ويستغلوا شعوبهم، ويبنوا نفوذهم، ويعززوا مصالحهم الضيقة أو أيديولوجياتهم المتطرفة”.

وتذكر الإستراتيجية أن الدول التي تعاني من الهشاشة تشكّل تهديدات لمصالح الولايات المتحدة وحلفائها وشركائها، خاصة في الجوانب التالية:

  • توفير أرض خصبة للمتطرفين العنيفين والمنظمات الإجرامية التي تهدد أمن الولايات المتحدة وحلفائها؛ حيث يستمر الإرهابيون في العمل والبحث عن ملاذات آمنة في أجزاء من أفريقيا والشرق الأوسط وأماكن أخرى.
  • تقويض الازدهار الاقتصادي والتجارة؛ فالبلدان والمناطق الهشة تمتلك القدرة على أن تصبح أسواقًا مستقبلية كبيرة وشركاء تجاريين في المستقبل للولايات المتحدة، لكن أعمال العنف والفساد تعيق التجارة والاستثمار. وفي عام 2017م، بلغ الأثر الاقتصادي المقدر للعنف 14.76 تريليون دولار؛ أي ما يعادل 12.4% من إجمالي الناتج المحلي العالمي. علاوة على ذلك، هذا يُظهر حجم الفرص الاستثمارية التي تسعى الولايات المتحدة إلى اقتناصها في هذه الدول.
  • تآكل السلام الدولي وزعزعة استقرار البلدان والمناطق الشريكة؛ حيث يعاني عدد متزايد من البلدان من نزاع عنيف مطول يتسبب في إلحاق العنف بالمدنيين والبنية التحتية المدنية. ويترتب غالبًا على عمليات حفظ سلام طويلة الأجل تكاليف باهظة تقدّر بمليارات الدولارات سنويا.
  • تعزيز الاستبداد والاستغلال الخارجي، وزيادة تأثير منافسي الولايات المتحدة في كل من المجالين المادي والرقمي على الدول الضعيفة الهشّة التي تعدّ أكثر عرضة للإكراه الروسي والصيني. وهذا يوضح من جديد قلق الولايات المتحدة من ترك الدول الهشّة لخصومها الإستراتيجيين؛ الصين وروسيا.

هل ستنجح الولايات المتحدة في إستراتيجيتها الجديدة، وتعوّض الخسارة التي مُنيت بها خططها السابقة وسياساتها الفاشلة المدمرة؟ سياق الأحداث التي تجري في أوكرانيا لا يبشّر بهذا النجاح، بل يؤكد أن هذه الخطة ليست سوى بلورة جديدة للنهج السابق

فكرة الإستراتيجية وأهدافها

أكدت إستراتيجية الأمن القومي الأميركي (NSS) لعام 2017م أن الولايات المتحدة ستعمل على تقوية الدول الهشّة، التي يؤدي ضعفها أو فشلها إلى زيادة التهديد للولايات المتحدة، كما أكدت أنها ستعمل على تمكين الحكومات ومؤسسات المجتمع المدني ذات التوجهات الإصلاحية. وأكدّ هذا الالتزام الرئيس السابق دونالد ترامب عندما وقّع على قانون الهشاشة العالمية (GFA) في ديسمبر/كانون الأول 2019م.

وتم إعداد “إستراتيجية الولايات المتحدة لمنع الصراع وتعزيز الاستقرار” للوفاء بمتطلبات القانون للتصدي للعنف العالمي والصراع والتطرف على مدى العقد المقبل حتى عام 2030م؛ موعد تحقيق أهداف خطة التنمية المستدامة، وقد صدرت أوائل عام 2020م لمساعدة البلدان على الانتقال من حالة الهشاشة إلى الاستقرار، ومن الصراع إلى السلام، ودعم الدول السلمية التي تعتمد على نفسها لتصبح شركاء اقتصاديين وأمنيين للولايات المتحدة. وتم إعداد الإستراتيجية اعتمادًا على الإصلاحات التي بادر إليها تقرير مساعدة الاستقرار لعام 2018م، وقانون إيلي ويزل لمنع الإبادة الجماعية لعام 2018م، والإستراتيجية الوطنية لمكافحة الإرهاب لعام 2018م، وإستراتيجية الولايات المتحدة لعام 2019م بشأن المرأة والسلام والأمن. وقد تشاورت حكومة الولايات المتحدة قبل البدء في إعداد الإستراتيجية مع أكثر من 200 من خبراء المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية والشركاء والمنظمات متعددة الأطراف.

وتعدّ الإستراتيجية مسؤولية مشتركة لكل من وزارات: الخارجية والدفاع والخزانة، والوكالة الأميركية للتنمية الدولية.

وتعترف الإستراتيجية بصورة غير مباشرة بفشل سياسات الولايات المتحدة السابقة في التعامل مع قضايا الدول ذات الهشاشة، فتشدد على أن الولايات المتحدة ستتبع هذه المرة نهجًا مختلفًا عن الجهود السابقة؛ فبدلا من العمل على بناء الأمة من الخارج، ستدعم الولايات المتحدة الحلول السياسية المدفوعة محليا، والتي تتوافق مع مصالح الأمن القومي للولايات المتحدة، وبدلًا من الجهود المجزأة وواسعة النطاق ستستهدف الولايات المتحدة معالجة العوامل السياسية التي تؤدي إلى الهشاشة، وبدلًا من الجهود المنتشرة والمفتوحة ستشترك الولايات المتحدة بشكل انتقائي بناءً على المصالح الوطنية والتقدم السياسي للدولة المضيفة والمقاييس المحددة، وبدلًا من تنفيذ مجموعة متباينة من الأنشطة ستقوم الولايات المتحدة بدمج سياستها واستجابتها الدبلوماسية والبرامجية بشكل إستراتيجي.

وحددت الإستراتيجية الأهداف الأربعة التالية من العمل مع البلدان والمناطق ذات الأولوية:

  1. الوقاية:
    العمل على دعم القدرات للمشاركة في بناء السلام وتوقّع النزاعات العنيفة ومنعها قبل اندلاعها.
  2. الاستقرار:
    دعم العمليات السياسية الشاملة لحل النزاعات العنيفة الجارية، مع التركيز على المشاركة الهادفة للشباب والنساء، وأعضاء المجتمعات الدينية والفئات المهمشة، واحترام حقوق الإنسان، والاستدامة البيئية.
  3. الشراكات:
    تقاسم الأعباء وتشجيع الشركاء والعمل معهم على تهيئة الظروف الملائمة للاستقرار الإقليمي طويل الأمد وتعزيز النمو الذي يقوده القطاع الخاص.
  4. الإدارة:
    زيادة أموال دافعي الضرائب الأميركيين إلى الحد الأقصى، والتأكد من تحقيق نتائج أكثر فاعلية عن طريق تحديد أفضل للأولويات، والتكامل والتركيز على الكفاءة، من خلال حكومة الولايات المتحدة والشركاء.

وتذكر الإستراتيجية أن الولايات المتحدة ستعمل على تحقيق هذه الأهداف من خلال تضافر الجهود، وتحديد أولويات واضحة، ودمج جميع أدوات السياسة الخارجية للولايات المتحدة: الدبلوماسية، والدفاع والتعاون الأمني، والتجارة والاستثمار، والعقوبات، وأدوات الضغط المالي الأخرى، والاستخبارات والتحليل، والاتصالات الإستراتيجية. وتشدّد على أن الولايات المتحدة ستقوم بتعيين وتدريب الموظفين للعمل بشكل أكثر فعالية في البيئات الهشة. مع التأكيد على أن الولايات المتحدة لن تقوم بهذه الجهود وحدها، وإنما بإقامة شراكات جديدة مع المجتمع المدني والقطاع الخاص والشركاء الإقليميين والمساهمين الثنائيين ومتعددي الأطراف الذين يمكنهم تقديم الخبرة وتقاسم العبء المالي.

كما تشدّد الإستراتيجية على أن نجاحها يتطلب الانضباط والالتزام من قبل حكومة الولايات المتحدة بأكملها والحكومات الشريكة لها في هذا المشروع، وإنشاء إستراتيجيات ديناميكية متجهة للأمام، وموارد مرنة في الوقت المناسب لإحداث التغيير. ومن خلال هذا النهج الجديد تسعى الولايات المتحدة إلى تجنب أخطاء الماضي، وتحسين مصالح الأمن القومي الأميركي في البيئات الهشة، كما ستقوم بتعديل أو إنهاء البرامج التي لا تحقق نتائج كافية أو التي لا يفي فيها الشركاء بالتزاماتهم.

فهل ستنجح الولايات المتحدة في إستراتيجيتها الجديدة، وتعوّض الخسارة التي مُنيت بها خططها السابقة وسياساتها الفاشلة المدمرة؟ سياق الأحداث التي تجري في الأزمة الأوكرانية لا يبشّر بهذا النجاح، بل يؤكد أن هذه الخطة ليست سوى بلورة جديدة للنهج السابق.

(يتبع… ما الدول التي تعاني من الهشاشة؟)

المصدر: وكالات + الجزيرة نت

Share.

صحفية عراقية من اربيل خريجة وزارة الاعلام في اربيل سنة 2004

Comments are closed.