الضجّة التي أثارتها الولايات المتحدة حول المنطاد الصيني الذي عبر أجواءها الأسبوع الماضي قادما من الصين مرورا بكندا، تعتبر مثيرة للانتباه، وتطرح العديد من التساؤلات حول أسباب ودوافع هذا السلوك الهجومي الاستعراضي المتضخم، الذي يزيد العلاقات الصينية تأزيما فوق التأزيم الذي تعانيه منذ بضع سنوات.

إذ لم يكن المنطاد هو الأول من نوعه الذي يمر عبر الولايات المتحدة، ولم تكن الصين أول ولا آخر الدول التي تستخدم المناطيد لأغراض متعددة، علمية أو تنافسية أو تجسسية. فهل كانت هذه الضجة محاولة من الرئيس الأميركي جو بايدن للتراجع قليلا عن التزاماته للرئيس الصيني شي جين بينغ منتصف نوفمبر/تشرين الثاني الماضي؟ أم أنها ضغوط المنافسة الانتخابية القادمة التي تدفعه للتصرف كزعيم أميركي ديمقراطي قوي قادر على حماية الولايات المتحدة وشعبها، ورعاية مصالحها، بما يؤكد أهليته للحصول على دورة رئاسية ثانية؟ أم أن الرئيس بايدن أراد استغلال الحدث ليبعث برسائل خاصة لكل من الصين وروسيا والاتحاد الأوروبي، مع اقتراب موعد انتهاء السنة الأولى من الحرب الروسية على أوكرانيا؟!

كان من الممكن -في ضوء تفاهمات بالي- أن تتوصل الولايات المتحدة والصين إلى حلّ أزمة المنطاد بصورة مختلفة، ولكنّ الطرفين، رغم أنهما يدركان خطورة المواجهة العسكرية بينهما، يدركان أن الأسس التي ينطلقان منها يستحيل التقاؤها

التزامات متضاربة

قبيل قمة العشرين في مدينة بالي الإندونيسية، عقد الرئيسان الأميركي والصيني يوم 14 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي اجتماعا هو الأول بينهما وجها لوجه. استمرّ الاجتماع 3 ساعات، دعا فيها الجانبان إلى زيادة التعاون والعمل معا بشأن القضايا الرئيسية العالمية، كتغير المناخ، واستقرار الاقتصاد العالمي، والأمن الصحي، والأمن الغذائي. وصرّح الرئيس بايدن أن البلدين يتشاركان المسؤولية ويمكنهما إدارة خلافاتهما ومنع المنافسة من أن تتحول إلى صراع، وقدم للصين خمسة التزامات، عرفت بـ”اللاءات الخمس”، تتلخص فيما يأتي:

  • لا لتغيير نظام الصين.
  • لا لبدء حرب باردة مع الصين.
  • لا لتعزيز تحالفات ضد الصين.
  • لا تأييد لاستقلال تايوان.
  • لا نية لقطع العلاقات مع الصين أو إعاقة تنميتها الاقتصادية أو احتوائها.

وفي المقابل، شدد الرئيس الصيني على خمس مسائل رئيسية تتلخص فيما يأتي:

  • أخْذ “اللاءات الخمس” على محمل الجد.
  • عدم السعي لتغيير النظام الدولي الحالي، أو التدخل في الشؤون الداخلية للولايات المتحدة.
  • لا نية لتحدي الولايات المتحدة أو إزاحتها.
  • الاحترام المتبادل والتعايش السلمي والتعاون المربح للجانبين.
  • مراعاة القواعد الأساسية للعلاقات الدولية لإدارة الخلافات ومنع المواجهة والصراع.

واتفق الرئيسان على أن يقوم وزير الخارجية أنطوني بلينكن بزيارة الصين، أوائل العام الجاري.

ورغم الروح الدبلوماسية العالية التي سادت هذا اللقاء، فإنها تقوم على تنافسية حادّة في كافة المجالات، باتت تؤرق الولايات المتحدة منذ أكثر من 20 عاما. وإلا، فما الذي كان يمنع الولايات المتحدة من التعامل بصورة مختلفة مع أزمة “المنطاد” تطبيقا لهذه التأكيدات والالتزامات؟!

ألم يكن حريّا بالولايات المتحدة التعجيل بزيارة وزير خارجيتها -المجدولة أصلا- لبحث خلفيات هذه الأزمة والوقوف على حقيقتها، وبحث سبل وآليات حلها، بدلا من تعليقها، وتبادل الاتهامات، والتصرف بأحادية؟ ألم يكن حريا بالصين أن تبعث بتطمينات عاجلة للولايات المتحدة، وتعمل على وجه السرعة لتشكيل لجنة مشتركة معها للتعامل مع المنطاد، وإزالة شكوكها، والحد من المواقف التصعيدية المتتابعة، السياسية والإعلامية والشعبية؟

كل ذلك كان ممكنا، وأكثر منه أيضا، في ضوء تفاهمات “بالي”، ولكن كلا الطرفين، رغم أنهما يدركان خطورة المواجهة العسكرية بينهما، فإنهما يدركان أيضا أن الأسس التي ينطلق منها كل منهما يستحيل التقاؤها، فلا الولايات المتحدة تقبل التنازل عن قيادتها للعالم، ولا الصين تقبل بأن تستمر في نظام دولي تقوده الولايات المتحدة.

فالولايات المتحدة ماضية في حربها ضد “روسيا بوتين” في أوكرانيا، وتنتظر بفارغ الصبر إلحاق الهزيمة بها، بما يعيد هيبة الولايات المتحدة، ويعزز موقعها في قيادة العالم، ويرسل رسالة قوية للصين بأن معارضتها للنظام الدولي بقيادة الولايات المتحدة ستنتهي بها إلى ما انتهت إليه روسيا بوتين.

الصين في الوقت نفسه، ماضية في خطتها الإستراتيجية، وتعزيز قدراتها العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية، مع إصرار راسخ على ضرورة تغيير النظام العالمي. ففي كلمته بالأكاديمية الوطنية للحوكمة التابعة للجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني، يوم الثلاثاء الماضي، قبل ثلاثة أيام من قيام القوات الجوية الأميركية بإسقاط المنطاد في السواحل الأميركية بأمر من الرئيس بايدن؛ أكد الرئيس الصيني شي جين بينغ على الدور الصيني القيادي العالمي القادم، وشدد على أن التحديث الصيني المستدام يمثل نموذجا جديدا لتقدّم البشرية، ويبدّد الخرافة التي تقول إن “التحديث يعني محاكاة الغرب”، كما يقدم حلا صينيا للمساعدة على استكشاف نظام اشتراكي أفضل للبشرية.

وأوضح الرئيس شي أن التحديث الصيني المستدام يتميز بخمس سمات فريدة، فهو: تحديث يستهدف عددا هائلا من السكان، ويهدف إلى تحقيق ازدهار مشترك للجميع، وتحقيق تقدم مادي وثقافي وأخلاقي، وتحقيق تناغم بين الإنسانية والطبيعة، ويتسم بالتنمية السلمية.

من أجل ذلك، شدد الرئيس الصيني على ضرورة وضع الابتكار في موقع مهم من التنمية الوطنية الشاملة، وبذل الجهود لتحقيق كفاءة أعلى من تلك التي تحققها الرأسمالية، مشيرا إلى أن قضية تعزيز التحديث الصيني المستدام، ستواجه بالتأكيد جميع أنواع المخاطر والتحديات والصعوبات، وحتى العواصف الخطيرة، المتوقعة وغير المتوقعة، قائلا: “دعونا نستغل روحنا القتالية التي لا تقهر في فتح آفاق جديدة لقضيتنا”.

فالصين ماضية في مشروعها، ومصرّة على تحقيق إستراتيجيتها التي جعلتها في مرمى الأهداف الإستراتيجية الأميركية، كأخطر قوة تهدد مصالح السيادة الأميركية في النظام العالمي وهيمنتها العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية والأخلاقية.

يزيد من سعي الولايات المتحدة لتطوير قدراتها العسكرية في مجال صناعة المناطيد، حرصُها على مواجهة تقدم الصين في مجال الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع، التي أصبحت تحتل المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة في هذا المجال

حرب المناطيد

اعتبرت الإدارة الأميركية وجود المنطاد الصيني في أجوائها انتهاكا واضحا لسيادتها، وللقانون الدولي، وأن أي دولة تتعرض لمثل ذلك، سترد بالطريقة نفسها التي قامت بها الولايات المتحدة. من المعروف أن الولايات المتحدة تعتبر واحدة من أوائل الدول التي استخدمت المناطيد لأغراض تجسسية، مثل مشروع “موغول” الذي أطلقته بعد الحرب العالمية الثانية للتجسس على الاتحاد السوفياتي في الفترة 1947-1949، ومشروع “جينيتريكس” الذي أطلق عام 1956، 516 منطادا تحلق على ارتفاع 50 ألف-100 ألف قدم فوق الاتحاد السوفياتي والصين ودول أوروبا الشرقية، بحجة إجراء أبحاث لأحوال الطقس، وكانت مزودة بكاميرات في أسفلها، وقد عاد منها 53 منطادا فقط، والبقية تم إسقاطها أو خرجت عن مسارها.

كما استخدمتها للتجسس على الاتحاد السوفياتي أثناء الحرب الباردة ضمن مشروع “موبي ديك”، وكذلك الحال لمراقبة الأنشطة العسكرية في العراق وأفغانستان.

كان اليابانيون أول من استخدم المناطيد العابرة للقارات لأغراض عسكرية هجومية ضد الولايات المتحدة أثناء الحرب العالمية الثانية، كما استخدمها الاتحاد السوفياتي بكثرة لأغراض تجسسية أثناء الحرب الباردة.

وتعمل وزارة الدفاع الأميركية منذ سنوات على تطوير المناطيد التي خصصت لها في موازنة العام الجاري أكثر من 27 مليون دولار، لما تتميز به من خصائص، وما تقوم به من أدوار لا تستطيع الأقمار الصناعية وطائرات التجسس القيام بها، ومن ذلك:

  • انخفاض تكلفتها بصورة كبيرة مقارنة بغيرها من معدات التجسس العابرة للقارات.
  • قدرتها على السفر مسافات طويلة على ارتفاعات شاهقة، أعلى بكثير من مسارات الطائرات العادية، حيث تصل إلى 80 ألف قدم، وقد تستمر على هذه الارتفاعات لمدة شهر، وقد تصل إلى مدد أطول في المستقبل القريب.
  • قدرتها على نقل معلومات هائلة لا تستطيع الأقمار الصناعية نقلها لأنها ثابتة في الغلاف الجوي، كما لا تستطيع طائرات الاستطلاع المسيرة القيام بها نظرا لمحدودية إمكاناتها.
  • صعوبة اكتشافها عن طريق الرادارات نظرا لبطء سرعتها، مما يساعدها على القيام بمهام لا تستطيع الطائرات الأخرى القيام بها.
  • قدرتها على نقل معلومات دقيقة للصواريخ التي تتجه لضرب أهداف تكتيكية مثل الصواريخ والرادارات الجوية على بعد ألف ميل أو أكثر.
  • تم تزويدها بجهاز استشعار تم تطويره لقياس نوع الرياح وسرعتها، وتغيير وضع الطيران بكفاءة بناءً على ذلك، بحيث يمكنها الحفاظ على موقع معين في حدود 12 ميلا من هدف محدد لمدة 4 أيام.
  • متانتها وقوة تحملها، وقدرتها على حمل الكثير من المعدات اللازمة كالكاميرات الحرارية والرادارات وأجهزة استشعار تردد الراديو والألواح الشمسية.
  •  قدرتها على نقل معلومات صوتية وبصرية أكثر دقة من الأقمار الاصطناعية، نظرا لقرب المناطيد من سطح الأرض مقارنة بالأقمار الصناعية التي يتراوح ارتفاعها عن سطح الأرض بما بين 100 و1200 ميل في الفضاء. وحاليا، يمكن تجهيز هذه المناطيد بمجموعة من الأنظمة التي تسمح لها باكتشاف الصواريخ ومراقبة الأرض وحتى الدفاع عن نفسها.

يعتبر الأدميرال تيد، قائد القيادة الجنوبية الأميركية في أميركا الوسطى وأميركا الجنوبية ومنطقة البحر الكاريبي، أن هذه المناطيد لديها القدرة على تغيير قواعد اللعبة، فهي منصة مراقبة كبيرة وطويلة الأمد.

ويزيد من سعي الولايات المتحدة لتطوير قدراتها العسكرية في مجال صناعة المناطيد، حرصها على مواجهة تقدم الصين في مجال الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع، التي أصبحت تحتل المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة في هذا المجال، حيث بلغ عدد أنظمة الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع لدى الصين عام 2021 أكثر من 260 نظاما، تستخدم فيها الأقمار الاصطناعية والمناطيد وطائرات التجسس المسيّرة، وغيرها من الوسائل.

فهل كان هذا هو الدافع وراء الضجة الأميركية حول المنطاد الصيني؟ وهل هو الدافع الوحيد أم أن هناك دوافع أخرى؟

(… يتبع)

المصدر: وكالات + الجزيرة نت

Share.

صحفية عراقية من اربيل خريجة وزارة الاعلام في اربيل سنة 2004

Comments are closed.