كقاعدة عامة فإن الأنظمة الاستبدادية وشبه الاستبدادية في الدول ذات الأغلبية المسلمة بمنطقتنا العربية تستخدم بنجاح السياسات تجاه الدين لتقييد المنافسة السياسية وتثبيط التحول الديمقراطي، لذا يصبح السؤال الذي يجب أن ننشغل به هو: كيف يجري ذلك؟

تعمل هذه السياسات بأربع إستراتيجيات:

أولا: السيطرة والهيمنة على المؤسسات الدينية الرسمية

لا يعني هذا أن هذه المؤسسات مجرد أدوات للنظام، بل هي أيضًا ساحات للصراع بين مكونات دينية متعددة داخلها كوزارة الأوقاف الكويتية التي كانت ساحة للصراع على مواردها بين السلفيين والإخوان، وقد تتحول هذه المؤسسات أيضا إلى ساحة للصراع بين النظام وتيارات دينية أخرى، كالأزهر الذي شهد تمددا للسلفيين والإخوان على حساب الفهم التاريخي للمؤسسة.

كما يظهر أن لدى هذه الكيانات إحساسا برسالة ومصالح مؤسسية، تختلف أحيانًا عن بعضها بعضا، وفي حين أنها تتماشى عمومًا مع النظام، إلا أنها لا تزال متميزة عنه. وجهاز الدولة الذي يعارض المؤسسات الدينية ليس هيئة متماسكة كما يبدو عليه، لكنه صوت متخبط للغاية، إذ يمكنه التعبير عن العديد من الاهتمامات والتوجهات والأصوات المختلفة في آن واحد أو في أوقات مختلفة، حتى إنه في بعض الأحيان قد يعبر عن بعض المعارضين للنظام.

عادة ما تخضع المؤسسات الرسمية للسيطرة بالقوانين والتشريعات وعن طريق تعيين قيادتها وتخصيص الموارد لها، ولكنها أيضًا قد تصبح قواعد جماهيرية ومراكز قوة في حد ذاتها. يتحدث البعض عن أن هناك أنظمة قد تسمح بذلك رغبة في استغلال الثقة التي تتمتع بها بعض المؤسسات وبعض القيادات الدينية لتأييد سياساتها أو التعبئة حول بعض القرارات التي تتخذها، كما أن التفاعلات الديناميكية بين المؤسسات الإسلامية والحكومات في المنطقة -وهي تفاعلات بطبيعتها ليست دينية فقط ولكنها أيضا تفاعلات اجتماعية- يترتب عليها آثار سياسية واقتصادية بعيدة المدى.

إن محاولات السيطرة هذه ليست أحادية التوجه، فالشخصيات والمنظمات الإسلامية الموالية للدولة غالبا ما تتمتع بنفوذ وشأنٍ كبير بسبب الدور الذي تلعبه كوسيط بين النظام والمجتمع. تدلنا خبرة معارضة الكنيسة الكاثوليكية للأنظمة العسكرية في أميركا اللاتينية على درسين مهمين وقاعدتين أساسيتين تفسران هذه المعارضة:

  • الأولى هي أن معارضة الاستبداد تتوقف على درجة الاستقلالية المؤسسية التي تمتلكها الكنيسة.
  • الثانية هي أن قوة المعارضة تعتمد على وجود حاملات بنيوية، وهي مؤسسات تربط الكنيسة بالمجتمع.

يظل المقصد الأساسي للأنظمة السلطوية من مأسسة وتنظيم المجال الديني الوصول إلى صورة لإسلام لا يمثل تهديدا لكياناتهم السياسية وبقائها، ولكن هل يمكن لمؤسساتنا الدينية الرسمية أن تكون صوتا للناس بدلا من أن تكون صوتا للسلطتين السياسية والمالية؟

ثانيا: تحدي جهات غير رسمية لسلطة الأصوات الدينية

على نحو متزايد تعرضت سلطة الأصوات الدينية الرسمية لتحدي جهات غير رسمية كثيرة. يقف بعض هؤلاء الفاعلين خارج الهياكل الرسمية بالكامل، لكن قد يجد البعض الآخر مأوى في أجزاء أكثر استقلالية من المؤسسات الدينية الرسمية، من هنا تأتي الإستراتيجية الثانية، وهي التدخل في التنظيم والذي قد يصل إلى القمع أو المنع.

تؤكد عديد الدراسات على تأثر المنافسة السياسية بالقيود المفروضة على تنظيم المجال الديني؛ إذ كلما تدخلت الدولة في التنظيم، زادت مؤشرات السلطوية، ونظرًا لأن العديد من الأنظمة لها دوافع سياسية وليست دينية، فمن المحتمل أن الدوافع وراء عملية التنظيم يمكن العثور عليها في عوامل أخرى تؤثر على المنافسة السياسية، بما في ذلك توزيع الموارد النادرة والوصول إلى مصادر بديلة للمعلومات.

يمكن للديني أن يعزز مجتمعًا مدنيًّا صحيًا، لا سيما في الأنظمة الديمقراطية، إلا أن النظم التسلطية عادة ما تدركه باعتباره تهديدا. الجماعات الدينية، بوصفها جزءا من المجتمع المدني، قد تكون مهددة بشكل خاص للقادة السلطويين بسبب قدرتهم المتصورة على التعبئة؛ خاصة على مستوى القاعدة الشعبية.

الدين ليس مجرد مجموعة من المعتقدات ولكنه أيضًا مجتمع من المؤمنين. تميل المجتمعات الدينية إلى تمثيل أكثر أشكال الحياة المؤسسية تنوعًا وقوة خارج الدولة. إنها منظمات تطوعية تتقاطع مع الانقسامات. لقد وُهِبوا الموارد والداعمين المخلصين، وقادة يتمتعون بالكاريزما، ومرتبطون بشبكات محلية وعبر وطنية أكبر. بعبارة أخرى، تمتلك المجتمعات الدينية مجموعة متميزة من الموارد التي تجعلها جيدة بشكل خاص في التعبئة -وهي مجموعة أدوات توظفها النخب الاستبدادية في أحيان- وقد يعتبرونها خطرًا كبيرًا. الدرس التاريخي للقادة الاستبداديين واضح؛ يجب قمع الديني غير الرسمي أو احتواؤه.

تتم صياغة السياسات الدينية ومراجعتها للسماح بمزيد من التعبير الديني مع احتواء التوسع والحد من استقلال الجماعات الدينية. مأسسة الحياة الدينية قد يكون مسموحا بها، ولكن لا تكون أبدًا مستقلة تمامًا أو كشريك مساوٍ للدولة. في استكشاف تأثير الأنواع المختلفة من التنظيم على احتمالات تطوير أنظمة سياسية تنافسية، أجد أن التنظيم يهدف إلى منع تطوير قطاع مستقل من المجتمع يمكن أن يتحدى الدولة.

لذلك، تضر الأنظمة بالديمقراطية من خلال منع الأفراد والجماعات ذات الدوافع الدينية من التنافس على السلطة السياسية. تشير نتائج الدراسات إلى أن الأسباب الكامنة وراء التنظيم في هذه البلدان موجهة إلى حد كبير إلى قمع المنافسة السياسية بدلاً من الحد من الممارسات الدينية المتطرفة. الحكومات التي تقيد حرية المجال الديني تتحكم في الواقع فيما يجب أن يكون صوتًا مستقلا في المجتمع. وهذا يعيق تطوير أصوات بديلة يمكن أن تشكك في السلطة وربما تتحداها.

كيف يمكن لتلك الأنظمة أن تقمع الآفاق الديمقراطية؟

أنا أزعم أن التنظيم الحكومي للدين يمنع الديمقراطية لأنه يقيد المنافسة السياسية من خلال قطع فرصة المواطنين الذين يحفزهم الدين أو يلهمهم للتعبير عن أفكارهم ومتابعة مصالحهم في الساحة العامة. في البلدان ذات المستويات العالية من التدين، ولكن مستويات فرص المشاركة السياسية أو المدنية منخفضة، غالبًا ما تكون المشاركة في المنظمات الدينية هي الوسيلة الوحيدة للمشاركة العامة، وقد تسمح بعض الأنظمة بصرف الطاقة المجتمعية بعيدا عن السياسة من خلال توسيع مساحات الفعل الديني، وفي أحيان سمحت بتمدد الفاعلين الدينيين ليملؤوا الفراغ الذي تتركه الدولة -كما جرى في العمل الخيري الذي اتسع في عهد مبارك (1981-2011) في مصر على سبيل المثال- لمعالجة السياسات النيوليبرالية التي اتبعها النظام منذ أواخر الثمانينيات.

هناك شروط ثلاثة لدعم الفاعلية الدينية في المجتمع المدني للتحول الديمقراطي وقد سبق أن عالجتها بالتفصيل:

  1. ضرورة الفصل بين الحزبي وبين الديني؛ بمعنى ألا تستخدم الأحزاب السياسية بشكل مباشر الموارد الدينية في الصراع الحزبي، وأن يقتصر دور الديني على توفير البنية القيمية الداعمة للتحول الديمقراطي.
  2. الانتقال بالخيري إلى التنموي؛ أي التحول بالعمل الإغاثي إلى تمكين الناس عن طريق زيادة قدرتهم على التنظيم والتعبير عن مصالحهم.
  3. الانتقال من الوعظ العام إلى الوعظ المتخصص، الذي يعني إدراك العوامل الهيكلية التي تنتج الظواهر وعدم عزوها إلى ابتعاد الناس عن الدين أو لانحرافهم عن القيم.

ثالثا: دعاوى مكافحة الإرهاب والتطرف العنيف

عادة ما تستخدم هذه الدعاوى مبررا لتقييد المجالين الديني والسياسي معا، وأزعم أن التطرف العنيف لو لم يوجد لاخترعته الأنظمة الاستبدادية اختراعا، لأنه يعطي المبرر لكثير من السياسات القمعية في المجالات كافة، ويعزز شرعيتها داخليا وخارجيا.

يلاحظ على إستراتيجيات الحرب على الإرهاب أنها يغلب عليها البعدان الأمني والثقافي. البعد الأول واضح، أما الثاني فالمقصود به عدم تتبع العوامل الهيكلية التي تنتج التطرف العنيف من تفشي الفساد والمحسوبية والفقر والتهميش وغياب الحريات وانتشار الاستبداد، بالإضافة إلى التجاوزات التي تجري في المجال الأمني، إلخ.

كل هذه العوامل يتم تجاهلها وعدم الالتفات إليها مكتفين بالحديث عن الأفكار والفتاوى التي تقف وراء التطرف العنيف، ومن هنا يأتي دور المؤسسات الدينية الرسمية لتحارب التطرف العنيف من مدخل ثقافي، فيتعمق الفصل بين الأخير والعوامل الاقتصادية والسياسية التي تنتج التطرف.

بعد فاجعة 11 سبتمبر/أيلول 2001 واندلاع الحملة العالمية على الإرهاب، رأت الأنظمة التسلطية في المنطقة من خلال مشاركتها فيها سبيلا لتخفيف الضغوط الغربية عليها لإحداث تحول ديمقراطي، أو على أقل تقدير معالجة انتهاكات حقوق الإنسان، وقد تم تعزيز هذا التوجه من خلال خطاب يخوّف العالم من سقوط السلطة في يد الحركات الدينية سواء كانت متطرفة أو معتدلة.

رابعا: بين الأبوية الدينية والسياسية

قد يكون الأفراد الذين هم أكثر اعتيادًا على العلاقات الهرمية الصارمة في حياتهم الشخصية أقل عرضة لمقاومة مثل هذه الأنماط من السلطة في السياسة. إن فكرة التماثل بين العلاقات الاجتماعية الأولية وتلك التي تحصل في المجتمع الأوسع لها تاريخ طويل في العلوم الاجتماعية.

تؤكد عديد الدراسات على العلاقة بين تمتع المرأة بالحقوق والواجبات المتساوية مع الذكر وبين مسألة التحول الديمقراطي. جادل العديد من الكتاب البارزين بأن القمع والسيطرة المطلقة للأب في الأسرة وللذكر في العلاقات بين الرجال والنساء لها تمثلات في المجتمع الأوسع، مما يخلق ثقافة الهيمنة والتبعية في المجتمع ككل.

إن شيوع الممارسات الأبوية في المجتمع التي تنتقل بين المجالات جميعا -الديني والسياسي والاجتماعي- ويغذي بعضها بعضا، يطرح أسئلة عديدة تحتاج إلى متابعة جوهرها:

  • ما هي القيم التي يشيعها الفاعلون الدينيون في المجتمع؟
  • وهل هي قيم تدعم الثقافة والممارسات الاستبدادية التي تنتشر من السلطة العليا إلى بقية مؤسسات المجتمع أم تعارضها؟ خاصة أن التوجيهات المنصوص عليها في الدين لها سلطة معيارية لممارسيها، ولكنها حمّالة أوجه.

تركز أخلاقيات المواطنة -كما يطلق عليها الآن- على الكيفية التي يجب أن يفهم بها المواطنون دور المعتقدات الدينية في الشؤون المدنية وخاصة قناعاتهم حول كيفية عيش الحياة البشرية. تم احتواء الديني في بعض الأحيان من قبل الدكتاتوريات، إلا أنه أيضًا -في بعض الأحيان- كان قوة مضادة قوية ضد الحكومة الاستبدادية والقمع المؤسسي والامتثال الإجباري للأعراف الاجتماعية التي تحض عليها الحكومة السلطوية. يبدو أن التدين لا يحكم علينا بالسلطوية، لكنه لا يحمينا منها أيضا.

المصدر: وكالات + الجزيرة نت

Share.

صحفية عراقية من اربيل خريجة وزارة الاعلام في اربيل سنة 2004

Comments are closed.