لا تهدَأ الحركة حول مبنى تاريخي قديم وسط العاصمة الأسكتلندية أدنبره منذ الصباح وحتى وقت متأخر من الليل. رجال ونساء وأطفال من مختلف الأعمار يتوافدون على “بيت الفيلم” لمشاهدة عروض سينمائية، أو المشاركة في إحدى ورشات العمل والندوات، أو استخدام مقهى المبنى لتناول إحدى الوجبات وعقد اللقاءات بين الأصدقاء. ثلاث قاعات صغيرة للعروض السينمائية، ومقهى صنع حالة ثقافية على مدار العام في المدينة، ويستضيف أقدم مهرجان سينمائي مستمر حتى الآن منذ عام 1947، وهو مهرجان أدنبره السينمائي الدولي. إذ يمثل “بيت الفيلم” -كمؤسسة خيرية- حالة للدور الذي تقوم به السينما الشعبية في مواجهة السينما التجارية.

تعرض المؤسسة أيضا أفلاما قديمة وحديثة، وتستضيف مهرجانات سينمائية محلية على مدار العام، مثل مهرجان السينما الإيرانية ومهرجان السينما الإسبانية، كما تقوم بدور في توزيع الأفلام على دور العرض الأخرى في بريطانيا. وعلى بعد أمتار في شارع لوثيان ذاته بأدنبره، تقع دار سينما حديثة تعرض الأفلام التجارية الموسمية، ليجد الجمهور نفسه أمام مشارب متنوعة للثقافة البصرية عبر عدة أماكن تلبى احتياجات كافة الأذواق. وكان مشهد دخول وخروج الممثل الهوليودي الراحل شون كونري ابن مدينة أدنبره إلى مقر “بيت الفيلم” خلال مهرجان أدنبره السينمائي الدولي، أحد الأحداث المميزة المتكررة التي تبين الصلة والجسور بين السينما التجارية التقليدية والسينما الشعبية.

من الناحية المالية، فإن مؤسسة “بيت الأفلام” لا تحقق أرباحا توازي أرباح الأفلام التجارية وخاصة الهوليودية، لكنها في الوقت ذاته لا تعتمد فقط على التمويل الخيري الذي يأتي من البلدية وبعض البرامج الحكومية والأوروبية، حيث لديها عدة مصادر أخرى من الدخل، مثل حصيلة بيع تذاكر العروض الفيلمية والاشتراكات السنوية للطلاب والزائرين التي تتيح لهم تخفيضات في المقهى والعروض السينمائية مقابل رسوم سنوية.

غير أن القيمة المضافة الأهم هي أنها تقدم خدمة ثقافية مجتمعية متعددة المستويات، تبدأ بعروض الأفلام القصيرة وأفلام الشباب، وصولا لاستضافة واحد من أهم المهرجانات السينمائية في العالم وأقدمها، ومرورا بعروض الأفلام السينمائية التقليدية.

تنبع أهمية فكرة السينما الشعبية من أنها تفتح عيون المشاهد العربي على أنماط فنية وقصصية مختلفة عما هو سائد من الأفلام التجارية العالمية، كما أنها تتيح للجمهور غير القادر ماديا، خوض تجربة مشاهدة السينما وسط تجمع من البشر من أجل تعزيز الحوار والاندماج الاجتماعي.

من الناحية المؤسسة، تطور “بيت الفيلم” مع الوقت وأسس المركز السينمائي كجمعية مستقلة بالتعاون مع مهرجان أدنبره السينمائي الدولي، لتعزيز ونشر الثقافة السينمائية في أسكتلندا وبريطانيا وبقية دول العالم. وفي عام 2014، قامت الجمعية بتأسيس وإدارة مؤسسة شبيهة بـ”بيت الفيلم” في مدينة أبردين الأسكتلندية، هي مؤسسة “بيت أفلام بيلمونت”.

السينما الشعبية في العالم العربي

لعل أبرز مبادرة سينما شعبية عربية هي مبادرة سينما الريف في مدينة طنجة المغربية، والتي تقع في ساحة سوق دبرَّا بالمدينة القديمة، والتي تأسست عام 1938 بمساحة كبيرة نسبيا بمعايير ذلك الوقت. وكانت تعرض أفلاما من الشرق والغرب بلغات مختلفة تتناسب مع سكان وزوار المدينة ذات الموقع الإستراتيجي. وفي عام 2005، تعثرت ماليا بسبب انتشار التلفزيون وتراجعت إيراداتها وأوشكت على الإفلاس الذي لم ينقذها منه سوى مبادرة أهلية من فنانين ومخرجين استمرت عامين كاملين، تضمنت إعادة ترميم السينما وإعادة بعثها بشكل جديد.

سينما الريف في طنجة بالمغرب (مواقع التواصل الاجتماعي)

وقد عادت بالفعل سينما الريف في ثوبها الجديد في إطار وظيفة إضافية هي الخزانة السينمائية، أو دار توثيق سينمائية تحتفظ بالتراث السمعي البصري المغربي، بالإضافة للعروض السينمائية المتنوعة وتنظيم مهرجانات منها مهرجان سينما الناشئة الشبابي وتعريف المغاربة بأفلام من مختلف دول العالم، بالإضافة للترويج للسينما المغربية عالميا. وربما تكون هذه المبادرة هي إحدى حسنات عزوف السينما التجارية عن المجتمعات التي لا تستطيع مواكبة التطور في دور العرض، وغير القادرة ماديا على المواظبة على دفع تذاكر للأفلام العالمية ذات الإنتاج الضخم.

عرفت عديد من الدول العربية نموذج السينما الشعبية المتحررة من هيمنة السينما التجارية الربحية، لكنها بقيت في الإطار النخبوي. فعلى سبيل المثال هناك في القاهرة عروض سينمائية مجانية منتظمة تقيمها جمعية نقاد السينما المصريين، بالإضافة لعروض أخرى يقيمها نادي سينما الجيزويت التابع لجمعية جيزويت القاهرة، وهي تصدر بالمناسبة مطبوعة دورية هامة هي “مجلة الفيلم”، تعنى بتجارب السينما غير الأميركية في العالم. وفي تونس العاصمة، هناك عروض أفلام تقام في دار الثقافة ابن رشيق. لكن تبقى هذه المبادرات محصورة داخل العواصم والمدن الكبرى، وتنتشر بين فئات محددة من المثقفين.

ومؤخرا، قامت بعض المبادرات العربية للوصول بفكرة السينما الشعبية نحو الجمهور الأوسع خارج هذه الشرائح الجغرافية والنخبوية، مثل فكرة “قافلة السينما الأردنية”، وهي مشروع بدأ منذ 10 سنوات عام 2012، ويستهدف الوصول بالأفلام السينمائية إلى الأحياء الشعبية عبر قوافل تنطلق للمحافظات الأردنية المختلفة عبر وسائط مختلفة، منها الحافلة السينمائية المتنقلة التي تضمّ شاشة عرض لتمكين الجمهور المحلي من المشاهدة من دون الاضطرار للذهاب إلى مكان محدد. وفكرة القافلة تابعة للهيئة الملكية الأردنية للأفلام، والتي لا تعد هيئة شعبية أو أهلية بالمعنى الدقيق، لكن المبادرة تهدف لنشر الثقافة السينمائية بعيدا عن الجانب الربحي التجاري، وهو ما يجعلها تندرج تحت هذا البند من المبادرات.

تنبع أهمية فكرة السينما الشعبية من أنها تفتح عيون المشاهد العربي على أنماط فنية وقصصية مختلفة عما هو سائد من الأفلام التجارية العالمية، كما أنها تتيح للجمهور غير القادر ماديا خوض تجربة مشاهدة السينما وسط تجمع من البشر من أجل تعزيز الحوار والاندماج الاجتماعي. وهي تضيف رافدا ثقافيا يتميز بالاستمرار وليس الموسمية، يشمل الفئات العمرية المختلفة. وهو رافد مهم ينزع احتكار التأثير الثقافي والجمالي من يد الإنترنت والتلفزيون، ويجعل من المجتمع المدني شريكا في صناعة الثقافة. وتشير هذه التجارب والمبادرات من مختلف دول العالم -خاصة من العالم العربي- أن فكرة السينما الشعبية ممكنة عربيا بشكل لا يحل محل السينما التجارية التقليدية أو ينافسها، بل يعزز من الثقافة السينمائية ويرفع من الذائقة الفنية لدى الجمهور.


المصدر: وكالات + الجزيرة نت

Share.

صحفية عراقية من اربيل خريجة وزارة الاعلام في اربيل سنة 2004

Comments are closed.