كثيرة هي الأحداث المُحيطة بالشرق الأوسط والمتعلّقة به، لكنّ الملاحظ أنّه مع كل حدث يتشكّل وعي وينهدم وهْم.

وبالنظر إلى الوعي المتشكّل، يبدو أنّ الكينونة العربية والإسلامية- عقلًا ووجدانًا- أصبحت تتلمّس بوادر صراع جعلها تطرح سؤالَ إمكان استمرار وجودها، وتتقلّب في الشعور به وفي امتداداته تقلبًا بين الخوف والرجاء، بحسب ما تلتقطه من إشارات غيرها الثقافي والحضاري الذي يعتبر نفسه مثالًا لجوهر الخير.

وبالتالي فهو يملك الحقّ في إبادة الكينونة العربية والإسلامية باعتبارها مثالًا لجوهر الشرّ دون أدنى إحساس بتأنيب الضمير، ولا بالأولى تحمّل مسؤوليته الخُلقية تجاه هذا الفعل الذي نراه حقيرًا ويراه كبيرًا.

ذلك بأنّ العقل الغربي وما يلحقه من كيانات اصطنعها لنفسه، اعتقل كلّ التواريخ داخل التاريخ الأميركيّ، جاعلًا منه النهاية التي لا منتهى بعدها، كما عبّر عن ذلك فوكوياما في “نهاية التاريخ”، بحيث لا إبداعَ فوق إبداع العقل الأميركيّ ولا تاريخ بعد تاريخه، وكل من يتحرك لإبداع تاريخه فهو الشرير المطلق- بحسب تنظيرات ليو ستراوس- والمرتدّ عن تاريخ سيّده، ومن ثَمة يستحقّ التأديب والقتل.

ومن ملموسات هذا الوعي المتشكّل لدى الكينونة العربية والإسلامية، ما يلوح في الأفق من بوادر احتلال جديد لكل جغرافية هذه الكينونة، يبدو ذلك جليًا من خلال التراجعات الخطيرة عن الحريات الأساسية واحترام مبادئ حقوق الإنسان، والاستعداد الواضح لخرق القانون وعدم الامتثال للحدّ الأدنى من الأخلاق المشتركة التي تعارف عليها العالِمون في عدّة ميادين، وعلى رأسها عدم المساس بسلامة المدنيين والمشافي في حالة الحرب.

وكأن هناك إعدادًا لنفسية العالَم ولنفسية المسلم، خاصة، لتقبّل الاحتلال الجديد وصبغه بالصبغة العقليّة، حتى يضحي أمرًا معقولًا ومتقبلًا، مستعينين في ذلك بفلسفة السوق الغربية التي سَلَّعَت الإنسان، حيث إن المنتِج المُسَلِّع ينظر إلى الآخر على اعتبار أنه مجرد شيء أو موضوع جامد، ومادام هو كذلك، فللمنتِج حقّ التصرّف في هذا الشيء وَفق إرادته وبما يخدم مصالحه، محوًا لقيمه (الآخر) وتصفيةً لجسده واحتلالًا لأرضه وتدخلًا في حريته واختياره.

وعليه، فإذا قصد هذا الإنسان/ الشيء نحو الفعل الذي يحفظ حياته وقيمه، اعتبرته الذات المتغطرسة بحكم شيئيّته متمردًا تمردًا يستوجب استعمال القوّة لردّه عن ضلاله الذي هو محاولته حماية حياته وقيمه وَفق ثقافته وحضارته، حتى يعود إلى شيئيّته التي اعتبرها المنتِج المتغطرس جوهرًا في الآخر.

وتأسيسًا على ما سبق، يتبين أنّ الغطرسة الغربية أصبحت تستهدف الإنسان والمسلم خاصةً في أصل الوجود، فكأنها تُخَيِّرُ غيرها في العيش عبدًا لها أو الموت، ذلك بأنّ منطق الإلحاق لدى الغرب يهدفُ إلى الهيمنة على كلّ فعل خارج فعله، بحيث يكون خيرًا متى التحق فعلُ المستعبَد بفعل السيّد، ويكون شرًّا متى خرج فعل الأوّل عن فعل الثاني.

إنّ تعثّر الحضارة الغربية اليوم في استيعاب الآخر الحضاري لَنذيرٌ من النُّذُر على استيفائها أجلَها وفقدِها مرتكزاتِ تجديدِ وجودها، وذلك ما نلاحظه في بلاغاتها الراهنة متجليّة في عودتها إلى خطاب الانغلاق والانكفاء على الذات، خصوصًا مع تنامي حضور اليمين المتطرّف

وهذا ما يجعلنا نتيقّن ألا وجودَ لدولة إلا إذا كيَّفَت وجودها هذا مع المؤسسات المالية الكبرى، كصندوق النقد الدوليّ والبنك الدولي وغيرهما، ومعنى هذا أنّ الغرب وما يلحقه من كيانات اصطنعها لنفسه، لن يسمح للآخر بدخول العالم إلا على شرطه، دافعًا إياه إلى التخلّي عن كينونته وشروطه الثقافيّة الخاصّة، ولو كان الثمن الذي يؤدّيه هذا الآخر استنزافًا لخيراته وتجويعًا لأحيائه وإغراقًا في ديونه بشكل يسمح بإعادة إنتاج الاحتلال.

وكيف لايكون ذلك، والغرب وما يلحق به من كيانات اصطنعها، يرى نفسَه هو الذي صنع العالم الراهن، ودخل بالإنسان إلى قيم الحداثة، ومن ثَمة فهو أولى بقيادة عالمه، بل إنّ ذاك الصنع وهذا الإدخال يمنحانه امتيازًا على الناس الذين يجب عليهم تبنّي قيمه والانقياد له طوعًا أو كرهًا.

وعليه فلا مناصَ لمختلِف الثقافات من دخول العالم، لكن على شرط الغالب وصانع الحداثة، وهذا الدخول إما أن يكون دخول إعجاب أو دخول إرغام، خاصة أننا أمام دارْوينيَّة جديدة تنعش فلسفة البقاء للأقوى عسكريًا وسياسيًا واقتصاديًا، هادمة بذلك مبدأ الأقوى خُلقيًا ومعنويّا ورُوحيّا.

ويكفينا دليلًا على ذلك أنّ البحث العلمي والتطور التقني نشأ في سياق القتل والتدمير؛ بمعنى أنّهما ترعرعا في أحضان المؤسّسة العسكرية الغربية، كما كان الشأن في ظهور كثير من المخترعات والتقنيات الدقيقة إبّان الحرب العالمية الثانية لأغراض حربية وأهداف عسكرية.

وضميمة لما هو عسكري، أصبح هذا المتغطرس الغربي يمارس- بمعيّة الكيانات التي اصطنعها لنفسه- حربًا مفاهيمية ومصطلحيّة، وذلك بتسلّطه على المنظومة الثقافية للأمة لتجريدها من مضمونها، وحشوها بمضامين جديدة تخدم مصالحه وأهدافه، بما في ذلك قلب المفاهيم وتوظيفها توظيفًا سياسيًا منحازًا، مع غسل الأدمغة والتأسيس لثقافة الزيف، مستعينًا بتفوّقه في تقنيات العالم الرقْمي.

كل ذلك بغية إحداث اضطراب في القيم والتصوّرات، وإنشاء اختلال في المفاهيم والمصطلحات، وإنجاز أعطاب في الثقافة والمرجعيّة التي تَوافَقَ عليها المجتمع وأقام عليها منظومتَه التسالميّة والتصالحيّة.

وبِناءً على ما ذُكِر نخلُص إلى أنّ الحضارة الغربية المعاصرة فشلت في تدبير العالم الذي أصبح بؤرةً للفوضى والدماء، وفي العالم العربيّ والإسلاميّ خاصةً.

إنّ تعثّر الحضارة الغربية اليوم في استيعاب الآخر الحضاري لَنذيرٌ من النُّذُر على استيفائها أجلَها وفقدِها مرتكزاتِ تجديدِ وجودها، وذلك ما نلاحظه في بلاغاتها الراهنة متجليّة في عودتها إلى خطاب الانغلاق والانكفاء على الذات، خصوصًا مع تنامي حضور اليمين المتطرّف.

وهكذا يتّضح أنّ هذه الحضارة بدأ ينفلت منها عقال ضبط علاقة الداخل بالخارج، كما أنّ مكْر العولَمة قد انقلب عليها من جهةِ تبنّيها منطقَ الخصوصيّة والهُوية الذي حاربته طويلًا، ومن جهة أنَّ الوافد عليها من الفضاءات الأخرى- ونركّز على العربي والمسلم خاصة- قد استفاد من مُخرجات العولمة جغرافيًا من حيث أراد الغرب الإفادة منها زمانيًا، فأصبحت قيم المسلم تسكن الغرب جغرافيًا وتزاحم قيمه وتغالبها في كثيرٍ من المجالات.

يتقوَّى هذا أكثر مع موت الأيديولوجيات في الزمن الراهن، والعمل على بناء سرديّات تؤسّس لأثر فعل الإنسان في التاريخ، باعتبار الزمن المعاصر يحملُ للإنسان تحدياتٍ وجوديةً خطيرة.

وإذا شاء الغرب تدارك أمرِه فما عليه إلا أنّ يعترف بالتنوع الثقافي احترامًا وتفاعلًا، وذلك بترك العالم العربي وشأنه في حفاظه على أنظمته الدفاعية المادية والرمزية وفي تقوية صلته بمرجعيّته، وكذلك مع سائر المجتمعات، وإلَّا يفعلْ يدفعْ ثمن ذلك عاجلًا أو آجلًا، ويجلب لنفسه الخرابَ كما جلَبه من قبلُ حين انقلبت العولمة عليه، وحين أنكر بجشعه التنوّع البيئي، فدفع الأرض نحو الاحتضار، غافلًا عن أنّه فئة من ساكني هذه الأرض، فإن ذهبت فهو أول الذاهبين، وإن نجت فهو من الناجين.

إنّ فشل الحضارة الغربيّة وصنائعها وامتداداتها يتجلّى في سقوط آلية الديمقراطية- التي ابتكرها يومًا وتبجّح بها دهرًا- أمام محكّات القضية الفلسطينية وكل قضايا المستضعفين في الأرض، من أجل ذلك ينبغي لنا أن نربط بين هذه الديمقراطية الغربية وبين الثمن الذي يدفعه الآخرون من المظلومين والمسحوقين والمغلوبين، ومن ذلك الربط بينها وبين إرهاق الشعب الفلسطينيّ واستباحة أرضه وحرمته وكرامته ودمه.

وكذلك الربط بين ديمقراطية أميركا وبين إبادة الهنود الحمر واحتلال أراضيهم، وهذا النموذج يتكرّر في عدة ديمقراطيات مع اختلافٍ يسير في بعض الشروط والملابسات.

لقد كشف الواقع أنَّ الديمقراطية في علاقتها بالآخر تقوم على القتل والهدم، ولهذا يحقّ للإنسان المعاصر أن ينكر مبادئها ويحتجّ عليها، فكيف تدّعي حماية الإنسان والدفاع عن حقّه في الحياة والاختلاف والتعددية ثم تقتله في نهاية المطاف؟!، وكيف تكون آلية من آليات التسوية والتعايش وهي قائمة على نفي الآخر؟!، وكيف تكون ديمقراطية وأشد الأنظمة تمسكًا بها كانت أكبر داعم للاستبداد (مثل سوهارتو و بينوشيه)؟!.

هكذا يبدو أنّ المنظومات الديمقراطية الآن هي امتداد للمنظومات الإمبريالية والاحتلالية بالأمس مع تغيير في عناوين القتل والسلب والنهب والمحو والهيمنة والإذلال.

مع كلّ هذه العلامات التي يمكن أن تشكّل إرهاصات لوعي عربي جديد، فإنَّ دون ذلك عدّة تحدّيات أهمها؛ ضرورة التنادي إلى بناء ثقافة معاصرة تأخذ من الوحي بقدر ما تأخذ من نافع الثقافات النبيلة التي أظهرت تضامنها وتفهّمها لقضية المسلمين الكبرى، لعلّها تجد صيغة تدشن بها الدخول إلى عالم جديد يعيد الاعتبار للمعنى وللحكمة والإنسان.

 

المصدر: وكالات + الجزيرة نت

Share.

صحفية عراقية من اربيل خريجة وزارة الاعلام في اربيل سنة 2004

Comments are closed.