بيروت- عقب اغتيال رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري عام 2005، تقدم سؤال الوجود والهوية السياسية لدى شريحة واسعة من أبناء الطائفة السنية في لبنان، وكأن شظايا اغتيال أكبر زعمائها، كمحطة مفصلية بتاريخها، طالت كيانها الطائفي وحضورها ودورها المحوري في النظام اللبناني.

ورغم أن إرث الأب انتقل إلى زعيم تيار “المستقبل” سعد الحريري، بقي سؤال الوجود والهوية السياسية حاضرا مستترا، ويلحظ كثيرون مآثره بالخطابات التعبوية عند كل استحقاق، من الانتخابات البرلمانية، إلى تكليف رؤساء حكومة، وما يتبعها من سجالات حول الصلاحيات والدور بالحكم، مرورا بكل أشكال التعيينات بالدولة ومؤسساتها.

ومع تعليق سعد الحريري عمله السياسي والانتخابي، أُثير سؤال آخر حول الوضع المعيشي والاقتصادي، بالإضافة إلى السؤال حول طبيعة الدور السياسي، وهو ما ترجمته نتائج الاقتراع، والتي أفرزت تحولات كثيرة على المشهد التمثيلي للسنة في لبنان.

السنة ودلالات رقمية

وفي استحقاق 15 مايو/أيار الجاري، توجهت الأنظار إلى حركة الأصوات السنية، كونهم يختبرون أول انتخابات بلا تيار المستقبل وزعيمه.
وكانت التقديرات تتأرجح بين مقاطعة سنية للانتخابات، والصراع على جذب الأصوات السنية بين مختلف الأقطاب الحليفة والمتخاصمة، ثم جاءت الأرقام والنتائج على نحو مختلف.

وفي الدوائر ذات الغالبية السنية والتي كانت تشكل خزانا شعبيا للمستقبل، كانت نسبة التصويت متقاربة نسبيا قياسا للنسبة العامة في لبنان. ووفق وزارة الداخلية، بلغ التصويت بدائرة بيروت الثانية 41.72%، وفي الشمال الأولى (عكار) 49.72%، وفي الشمال الثانية 40.18% وفي الجنوب الأولى (صيدا -جزين) 49.03%.

وهذه الأرقام، تدل وفق حديث الخبير الانتخابي كمال فغالي للجزيرة نت إلى أن نسبة الاقتراع لم تعكس جو المقاطعة، وجاءت مقاربة لمعظم الدوائر الأخرى.

وقال إن النواب المنتخبين عن الطائفة السنية لملء 27 مقعدا مخصصا لها، توزعوا إلى 4 مجموعات: نحو 10 نواب يدورون بفلك 14 آذار، و8 نواب سنة من حلفاء قوى 8 آذار، فيما توزع نحو 9 نواب بين مستقلين وتغييرين.

وفي البرلمان السابق، كان يملك تيار “المستقبل” 20 مقعدا برلمانيا، بينها مقعد للروم الأرثوذكس ومقعدان مارونيان. ووفق مركز الدولية للمعلومات، فإن مقاعد المستقبل توزعت على الشكل الآتي: 5 مقاعد لمقربين من المستقبل، 5 مقاعد للنواب التغييريين الجدد، 3 مقاعد للتيار الوطني الحر، 3 مقاعد للمستقلين، ومقعدان للجماعة الإسلامية، ومقعد لنائب مدعوم من رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة.

وتدل الأرقام على تحولات كثيرة ومنها:

  • عدم وجود كتلة سنية واحدة كبيرة.
  •  غياب كتلة الحريري قابله دخول وجوه سنية جديدة لأول مرة الندوة البرلمانية.
  • ارتفاع عدد النواب السنة المنضوين في كتل طائفية أخرى. وهو اختبار يذكّر وفق محللين بما كان يشكون منه المسيحيون بالعقدين الأخيرين لجهة ضياع تمثيلهم بكتل غير مسيحية خلافا لتمثيلهم الآن.

وذهب المقعد السني في بيروت الثانية الذي كان من حصة الرئيس سعد الحريري، إلى النائب المنتخب من قوى التغيير إبراهيم المنيمنة. ونال الأخير أعلى نسبة أصوات تفضيلية بدائرته (13 ألفا و281 صوتا). ويجسد منيمنة نموذج النائب الذي هو ضد حزب الله وحلفائه، لكنه ضد ما أرساه الحريري كزعيم أول للطائفة، ويسعى لتقديم مقاربة مدنية وسياسية واقتصادية مختلفة، مع آخرين من نواب “التغيير” والمستقلين الذين انبثقوا من توجهات وأيديولوجيات مختلفة.

ملصق انتخابي قديم لسعد الحريري في بيروت (رويترز)

الأبعاد السياسية

يرى محللون أن خيارات السنة انتخابيا، سيجري اختبار تداعياتها داخل الدولة وبميزان القوة بين الأقطاب السياسية والطائفية.
ويُجمع كل من القيادي السابق في تيار المستقبل راشد فايد والكاتب السياسي خلدون الشريف ورئيس تحرير جريدة اللواء صلاح سلام، أن واقع التمثيل السياسي للسنة ووزنه لا يشبه بعد 15 مايو/أيار ما قبله. ويربطون -في حديث مع الجزيرة نت- هذه التحولات بدلالات متباينة.

السنة خارج الإقطاع

ويُذكّر راشد فايد أن تاريخ تمثيل السنة لبنانيا لم يكن إقطاعيا، و”لم يتعاطوا مع أنفسهم كطائفة دينية بقدر ما أنهم أهل الجماعة والأمة”. إذ برز وفقه بالقرن الماضي رؤساء حكومة زعاماتيين مثل صائب سلام وشفيق الوزان وسليم الحص وغيرهم.

وحين جاء رفيق الحريري بأواخر التسعينيات حاملا مشروعه، استقطب كثيرين ومنهم السنة في لبنان، وفق فايد، و”جسد صورة الزعيم السني الأول، ومنذ لحظة اغتياله لم يعد مشروعه قائما، وإنْ كان بعض ما أنجزه إعماريا ما يزال قائما”. وقال فايد “لم يستكمل سعد الحريري مشروعه أبيه، فكان لديه الرغبة من دون أن يملك المخطط”.

لذا، ومع تعليق الحريري عمله السياسي والانتخابي، “أتاح بروز شخصيات لأول مرة، وتقدمت شخصيات سياسية أخرى كانت مهمشة تمثيليا فيما خرج آخرون من المشهد”.

ويجد فايد أنه من المبكر إطلاق توصيف على طبيعة التمثيل السني بالبرلمان، و”الواضح أن المرجعية الأحادية كُسرت، خصوصا أنه من نحو 14 نائبا تغييريا هناك نحو 5 من الطائفة السنية”.

وقال القيادي السابق أن شعبية الحريري حاضرة، لكنها معطلة ولا تخضع راهنا لأي اختبار، خصوصا أن انسحابه انتخابيا لم يحقق نتائج باهرة بالنسبة لمدى قدرته على التأثير بالمزاج السني العام، الذي تشظى بتوجهات متباينة خارج “المستقبل”.

اضطراب تمثيلي

وأول ملاحظة يمكن تسجيلها، وفق صلاح سلام، غياب الأقطاب السنة الأساسيين لأول مرة منذ 30 عاما عن البرلمان، مقابل دخول شخصيات وتيارات تغييرية جديدة.

ويرفض سلام القول إن الطائفة السنية بلا مرجعية سياسية، إذ إنها “موجودة بحضور مفتي الجمهورية عبد اللطيف دريان الذي دعا السنة للتصويت بكثافة خلافا لدعوات القواعد الشعبية للمستقبل”.

والمرجعية أيضا، “موجودة بنشاط الرئيس فؤاد السنيورة الذي تحرك بدعم قوائم انتخابية في بيروت وطرابلس والبقاع الغربي، وحصد مع حلفائه عددا من المقاعد وإن لم تكن جميعها سنية”.

وقال سلام إن ” بهاء الحريري لعب أيضا دور المرجعية للسنة، من دون تحقيق خرق على مستوى المقاعد، لكن حضوره يؤسس لحركة سياسية معينة قد تتنامى لاحقا”.

ويذكر أن حيثية الحريري السياسية والإقليمية والشعبية تراجعت منذ عقد التسوية الرئاسية مع التيار الوطني الحر وحزب الله في 2016.

ومع ذلك، “تعيش الطائفة اضطرابا كبيرا بانتهاء مهمة نادي رؤساء الحكومة السابقين، ما يعني إعادة بلورة دورها السياسي، وستتجلى التداعيات المقلقة لذلك بالاستحقاقات المقبلة، وتحديدا عند تكليف رئيس جديد للحكومة”، وفق سلام، قائلا إنه يتوقع “غياب التوازن عن المعادلة الوطنية، نتيجة الخلل الكبير بطبيعة تمثيل السنة المفكك بالبرلمان”.

غياب الناظم الواحد

ويرى خلدون الشريف، أن نتائج الانتخابات قضت على التمثيل التقليدي للطائفة السنية، وعلى رأسها رؤساء نادي الحكومة السابقين بأركانه الأربعة. إذ لم يستطع ميقاتي إيصال نائب سني واحد، كذلك السنيورة لم يشكل كتلة سنية برلمانية، والحريري لم يعطل التدفق السني على صناديق الاقتراع في بيروت وصيدا والبقاع وعكار وطرابلس.

ويرى الشريف أن نتائج الانتخابات ليست معيارا لحسن خيارات السنة، لأنها قيد التجربة، لكن شريحة صوتت لنماذج جديدة بدل التقليدية المتهمة لدى البعض، بالتخاذل أو بالتواطؤ أو بعدم الإصغاء للناس.

ويعتقد الشريف أن الانتخابات محطة تأسيسية من باب التصويت السني. وعليه، فإن “السنة كمكون سياسي فقد مرجعيته السياسية، وحضوره على أية مائدة مفاوضات سيكون صعبا بمعنى الرأي الواحد”.

ويذكر الشريف أن أية تسوية بلا السنة لن تستقيم، “استنادا لتجربة الاتفاق الثلاثي الذي عقد عام 1985 بين الشيعة والدروز والمسيحيين، فبغياب السنة لم تكتب له الحياة، حتى جاء اتفاق الطائف بحضور طاغٍ لهم”.

ويشير إلى أن حضور الشيعة سياسيا مرتبط بنفوذ إيران ودعمها. وبالتالي فإن “حضور السنة كما المكونات المسيحية والدرزية يحتاج لرافعة إقليمية أو دولية كي يتوازن لبنان طائفيا وسياسيا”.

أما داخليا، فـ”تنوع التمثيل السني هو لمصلحة اللبنانيين لأنه يمثل التقليد ورجال الأعمال، و التغييرين واليمين واليسار من دون ناظم واحد”.

المصدر: وكالات + الجزيرة نت

Share.

صحفية عراقية من اربيل خريجة وزارة الاعلام في اربيل سنة 2004

Comments are closed.