القاهرة – “معركة العصر” هكذا وصف المؤرخ المصري الراحل يونان لبيب رزق المعركة المثيرة التي خاضتها مصر لاسترداد منطقة طابا في شبه جزيرة سيناء من الاحتلال الإسرائيلي.

ورغم أن هذه المنطقة الواقعة على رأس خليج العقبة لا تتجاوز مساحتها كيلومترا مربعا واحدا، فقد اقتحمت أبواب التاريخ وشغلت مكانا بارزا في سجل الصراع المصري الإسرائيلي، وكانت موضع صراع قانوني ودبلوماسي استمر عدة سنوات وانتهى بالتحكيم الدولي لصالح القاهرة.

وأظهرت المعركة -التي انتهت في 19 مارس/آذار 1989 برفع العلم المصري على أرض طابا- أهمية الوثائق التاريخية والقانونية والجغرافية، وأن كلمة كتبت هنا أو صورة التقطت هناك أو خريطة أرفقت في كتاب أو حتى ختم بريدي، يمكن أن يمثل دليلا قويا لإعادة الحقوق لأصحابها.

بداية الأزمة

في أواخر عام 1981 ومع اقتراب الموعد النهائي للانسحاب الإسرائيلي الكامل من سيناء والمقرر له في 25 أبريل/نيسان 1982 وفق اتفاقية السلام الموقعة بين الطرفين عام 1979 أو ما تعرف إعلاميا باسم كامب ديفيد، بدأت تظهر المماطلات الإسرائيلية المعتادة، وظهر واضحا أن الاحتلال يسعى لالتهام بعض المناطق المصرية ومنها منطقة طابا.

وتقع طابا على رأس خليج العقبة ضمن محافظة جنوب سيناء، في موقع جغرافي فريد على بعد 7 أميال من مدينة إيلات الإسرائيلية (أم الرشراش سابقا)، وفي مواجهة قاعدة تبوك العسكرية السعودية ومقابلة لميناء العقبة الأردني.

بدأت الخلافات الحادة تتصاعد بين مصر وإسرائيل بشأن مواقع 14 علامة حدودية، كان أهمها موقع العلامة 91 وهي علامة الحدود الأخيرة على الشريط الحدودي في طابا، وسعت إسرائيل لإثبات حق مزعوم في هذه المنطقة لما لها من أهمية إستراتيجية، وعمدت إلى إقامة العديد من المنشآت السياحية لفرض أمر واقع.

اللجوء للتحكيم

قررت مصر أنها لن تفرط في شبر واحد من أرض سيناء، وفشلت المفاوضات التي استمرت لسنوات مع الجانب الإسرائيلي في الوصول إلى حل، فقررت مصر اللجوء إلى التحكيم الدولي لاسترداد طابا، وهو ما كانت ترفضه إسرائيل حتى اضطرت للرضوخ إليه في عام 1986.

وأعدت مصر عدتها في المعركة القانونية بفريق يضم 25 من أبرز الكفاءات في القانون والتاريخ والجغرافيا والمساحة، من دون أي محاولة للاستئثار بالقضية من جانب أي مؤسسة في الدولة، وكان ملحوظا أن التمثيل العسكري في الوفد المصري أمام هيئة التحكيم محدودا للغاية، إذ ضم اثنين فقط من العسكريين.

لم يدخر الفريق المصري جهدا في تعقب كل وثيقة أو معلومة تتصل بقضية طابا (الجزيرة)

ماراثون الوثائق

“ليس بالقانون وحده يتم كسب القضايا الحدودية”، نصيحة مهمة قدمها المحامون في الفريق المصري إلى زملائهم من الخبراء في اجتماعهم الأول، مؤكدين أن نجاحهم مرهون بما يقدمه هؤلاء الخبراء من أدلة مادية.

وفي ظل هذه الحقيقة عكف الفريق المصري على تعقب كل وثيقة تتصل بالقضية والبحث عن أي معلومة أو كلمة تثبت حق مصر في أرضها وتفند الادعاءات الإسرائيلية، وهو ما يصفه المؤرخ يونان لبيب رزق في كتابه “طابا قضية العصر” بأنه أطول ماراثون وثائقي في تاريخ القضايا الحدودية.

وتنوعت الأدلة التي قدمها الفريق المصري للمحكمة وشملت الوثائقَ التاريخية -التي احتلت مكان الصدارة- والخرائط والمجسمات الطبيعية والإحداثيات الشبكية وكتابات المعاصرين والزيارات الميدانية إلى مناطق الخلاف وبقايا أعمدة الحدود، فضلا عن شهادات الشهود.

ويشير رزق إلى أن الفريق المصري استعان بنحو 29 خريطة في مذكرته الأولى المقدمة في مايو/أيار عام 1987، لإثبات نقاطها الحدودية وتبعية طابا للسيادة المصرية، مقابل 6 خرائط فقط قدمتها إسرائيل لدعم حقها المزعوم.

وشملت الخرائط التي قدمتها القاهرة خرائط مصرية (6 خرائط) وبريطانية (4 خرائط) وفلسطينية (4 خرائط) وإسرائيلية (10 خرائط دفعة واحدة)، بجانب مجموعة متنوعة من الخرائط كان من بينها خريطة لعصبة الأمم، وخريطة للخارجية الأميركية، وخرائط أخرى من الأمم المتحدة.

طرائف الأدلة

ولم تخل المعركة من الأدلة الطريفة التي لعبت دورا في تأكيد مصرية طابا، ومن بينها أختام البريد والطوابع.

ووفقا لرواية مفيد شهاب وزير التعليم العالي السابق وعضو الفريق القانوني المصري لاستعادة طابا، فإن إسماعيل شيرين آخر وزير للحربية في عهد الملك فاروق، والذي كان قائدا للكتيبة المصرية في طابا، تطوّع للإدلاء بشهادته أمام المحكمة الدولية التي تنظر إجراءات التحكيم.

ويضيف شهاب أن شيرين قدم خطابات رسمية بعث بها إلى زوجته وأسرته من طابا، وردودا على تلك الخطابات أرسلت إليه هناك، وأن أختام البريد والطوابع تؤكد ذلك، مشيرا إلى أن شهادته زادت من اقتناع المحكمة بأحقية مصر في أراضيها المحتلة، وفق ما نقله الكاتب حلمي النمنم في مقال “إسماعيل شيرين.. درس في الوطنية”.

وفي كتابه “دهاليز السياسة وكواليس الدبلوماسية” يذكر مصطفى الفقي رئيس مكتبة الإسكندرية حاليا وسكرتير المعلومات الأسبق للرئيس الراحل حسني مبارك، أن إسماعيل شيرين قدم أيضا خريطة تؤكد حق مصر في استعادة أرضها في طابا.

الأمير إسماعيل شيرين زوج أخت الملك فاروق وآخر وزير حربية في عهده تطوع للشهادة في قضية طابا وقدم أدلة مهمة المصدر (مواقع التواصل)
الأمير إسماعيل شيرين زوج أخت الملك فاروق وآخر وزير حربية في عهده تطوع للشهادة في قضية طابا (مواقع التواصل)

ومن بين الأدلة الأخرى الطريفة والمهمة التي قدمتها المذكرة المصرية ونقلها يونان رزق في كتابه؛ صورة من الامتياز الذي منحته الحكومة المصرية لشركة البترول (الأنجلو- مصرية) التابعة لشركة “شل” خلال عام 1921-1922، لتقوم بأعمال التنقيب عن البترول في سيناء في المنطقة المتاخمة لخليج العقبة حتى خط عام 1906، ومرفق به رسم كروكي يوضح هذه المناطق.

كما لعبت صورة لحاكم سيناء الإنجليزي باركر بك عام 1906 دورا كبيرا في القضية، حيث يظهر باركر وهو يرتكز على العلامة الحدودية 91 وهي أبرز نقاط النزاع بين مصر وإسرائيل في هذه القضية.

وبعد صراع قانوني طويل ومثير، أيدت هيئة التحكيم الدولية المنعقدة في جنيف في 29 سبتمبر/أيلول 1988، موقف مصر فيما يتعلق بأغلب العلامات الحدودية المختلف عليها، لتعود ملكية طابا ورأس النقب إلى مصر.

حاولت إسرائيل بعد الحكم المماطلة مجددا وسعت للحصول على أي مكاسب تتعلق بالمنطقة، مثل استمرار دخول الإسرائيليين بدون جوازات سفر والسماح لهم باستخدام العملات الإسرائيلية، وهو ما رفضته مصر، ثم اضطرت إسرائيل إلى الانسحاب لاحقا بحلول 15 مارس/آذار 1989، ولكنها حصلت على 37 مليون دولار ثمنا للفندق الذي أقامته في طابا.

تناقض مبارك

رغم اهتمام الرئيس الراحل حسني مبارك بقضية استرداد طابا وتصريحاته القوية تجاه مماطلة الإسرائيليين في الانسحاب، فقد كان له موقف سلبي تجاه الفريق الذي نجح في استعادة الأرض المصرية، خلال الاحتفال برفع العلم المصري في أرض طابا في 19 مارس/آذار 1989.

في كتابه “طابا، كامب ديفيد، الجدار العازل.. صراع الدبلوماسية من مجلس الأمن إلى المحكمة الدولية”، يذكر نبيل العربي الأمين العام السابق للجامعة العربية ورئيس الوفد المصري في قضية طابا، أنه كان من المقرر أثناء الاحتفال أن يتوجه مبارك بالتحية والشكر إلى الفريق الذي بذل كل الجهد للحفاظ على تراب الوطن.

ويضيف العربي أنه أثناء توجه مبارك إليهم، ناداه الممثل الراحل فريد شوقي وكان بجانبه الممثلة يسرى والممثل هشام سليم، فغير الرئيس اتجاهه وذهب إلى الممثلين وتحدث معهم ثم غادر الاحتفال، من دون تحية الفريق المصري الذي أصابته الدهشة وعاد للقاهرة من دون تكريم، وأسدل الستار على “قضية العصر”.

المصدر: وكالات + الجزيرة نت

Share.

صحفية عراقية من اربيل خريجة وزارة الاعلام في اربيل سنة 2004

Comments are closed.