لا تزال هناك حاجة إلى وضع بعض اللمسات الأخيرة على خريطة الجينوم المرجعي، إذ إن الخريطة الجينية المحدثة ستساعدنا بلا شك على فهم بيولوجية الجسم

كان “مشروع الجينوم البشري” (Human Genome Project) واحدا من أهم الإنجازات العلمية الحديثة؛ إذ استهدف منذ إطلاقه رسميا عام 1990 رصد تسلسل الجينوم البشري الكامل، ومن ثم معرفة الأسس الجينية التي تدفع الخلية إلى أداء وظائفها أو التي تتسبب طفراتها أحيانا في نشوء الأمراض.

عقبات وتحديات

وبالفعل، فقد أعلن عام 2003 عن خريطة هي الأولى والأكبر من نوعها لتسلسل الجينوم البشري. غير أن ما يزيد على 15% منه كانت مجهولة آنذاك؛ إذ عجزت تقنيات الرصد الجيني حينها عن تحديد أجزاء كبيرة من الحمض النووي.

ولأن هذه القطع المفقودة من الجينوم كانت تحتوي على تسلسلات جينية مكررة كثيرا، فقد استبعدها بعض العلماء باعتبارها جينات غير وظيفية أو “جينات خردة” (Junk DNA). إضافة إلى ذلك، فإن الخريطة المرجعية السابقة للجينوم كانت تحتوي على بعض الأخطاء. ومع التطور الهائل في التقنية، تمكن العلماء من تقليص هذه الفجوات غير المعروفة إلى 8% وذلك عام 2013.

وحديثا، كشفت 6 دراسات بحثية مستقلة -نشرت في دورية “ساينس” (Science) في 31 مارس/آذار الماضي- عن خريطة أكثر اكتمالا للجينوم البشري، مصححة بذلك عددا من الأخطاء التي كانت موجودة في الخريطة المرجعية السابقة ومستكملة ما ينقصها من قطع جينية كبيرة.

استبعد العلماء الأجزاء المكررة من الجينوم التي كان من الصعب عليهم رصد تسلسلها (بيكسابي)

وقد تعاون في هذا الجهد اتحاد دولي من العلماء ضم نحو 100 عالم بقيادة آدم فيليبي من “المعهد القومي لأبحاث الجينوم البشري” (National Human Genome Research Institute) وكارين ميجا من “جامعة كاليفورنيا – سانتا كروز” (University of California, Santa Cruz) وإيفان إيكلر من “جامعة واشنطن” (University of Washington).

وقد أسفر جهدهم عن خريطة جينية مكتملة وخالية من الفجوات غير المعروفة، ما عدا “الكروموسوم واي” (Y chromosome) المسؤول عن إنتاج الذكور. وتعد هذه الخريطة الجينية أكبر تسلسل جيني تم الكشف عنه على الإطلاق.

تسلسلات متكررة ووظيفية

وطبقا للبيان الصحفي الذي نشره معهد “هوارد هيوز الطبي” (Howard Hughes Medical Institute)، فإن الجينوم البشري يتكون مما يزيد على 6 مليارات حرف مفرد موزعين على 23 زوجا من الكروموسومات.

ولكي يتمكن العلماء من معرفة التسلسل الجيني الكامل لهذه الأحرف، فإنه يتعين عليهم تجزئة الحمض النووي إلى قطع يمتد طولها من مئات إلى آلاف الأحرف. ومن ثم تقرأ تقنيات رصد التسلسل الجيني هذه الأحرف الفردية الموجودة في كل قطعة، ثم تُجمع معا بترتيبها الصحيح حتى ينتج التسلسل الجيني الكامل.

يحتوي “السنترومير” الذي يربط نصفي الكروموسوم على أحرف جينية متكررة (غيتي)

غير أن بعض مناطق الجينوم تحتوي على تكرارات عديدة للأحرف نفسها، الأمر الذي يجعلها من بين التحديات التي كانت تقف حائلا أمام تجميع القطع المجزأة بشكل صحيح.

فعلى سبيل المثال، يحتوي القُسَيمُ المَرْكَزِيّ أو “السنترومير” (Centromere) -وهو الجزء الخاص من الكروموسوم الذي يربط نصفي الكروموسوم معا- على تتابعات متكررة من هذه الأحرف. ويلعب “السنترومير” دورا محوريا في انقسام الخلية.

التسلسل الجيني الكامل

ومن ثم فإن هذه الأحرف المتكررة تؤدي وظيفة حيوية ولا يمكن تصنيفها ضمن تتابعات الجينات غير الوظيفية التي أغفلها العلماء في الخريطة المرجعية السابقة لاحتوائها على أحرف متكررة. إضافة إلى ذلك، فإن هناك جينات جديدة تم التعرف عليها -وتحتوي على تتابعات متكررة من الأحرف- والتي تساعد الأنواع على التكيف.

ولذا فإن الكشف عن جميع القطع المفقودة في الحمض النووي بات مطلبا ملحا أمام العلماء في السنوات الأخيرة. وقد أصبح تحقيق هذا الهدف ممكنا اليوم بفضل التطور الهائل في تقنيات رصد التسلسل الجيني.

هدف العلماء إلى رصد تسلسلات الأحرف المكونة للكروموسومات من طرفه حتى طرفه المقابل (غيتي)

وبالفعل، فقد اعتمد العلماء على التقنيات الجديدة التي تستطيع قراءة مليون حرف من الحمض النووي في المرة الواحدة وبدقة كبيرة. وقد أسسوا اتحادا دوليا، بغية رصد تسلسلات الأحرف المكونة لكل كروموسوم من طرفه -والذي يعرف باسم القُسَيْمٌ الطَرَفِيّ أو “التيلومير” (Telomere)- حتى طرفه المقابل، ومن ثم سمي الاتحاد اسم “تيلومير-تو-تيلومير” أو اختصارا “تي تو تي” (T2T).

كما استخدم الباحثون في هذه الدراسات نوعا مميزا من “خيوط الخلايا البشرية” (Cell line) التي تحتوي على نسختين متطابقتين من كل كروموسوم، وذلك بدلا من غالبية الخلايا البشرية التي تحمل نسختين مختلفتين قليلا.

إضافة واعدة

وقد تمكن هذا الاتحاد الدولي من تجميع ورصد تسلسلات أجزاء الجينوم البشري التي كانت غير معروفة من قبل. وتقع معظم هذه الأحرف في “التيلومير” وكذلك في “السنترومير”. وقد أضاف هذا الجهد البحثي الهائل ما يقرب من 200 مليون زوج من الأحرف الجينية إلى ما نعرفه اليوم عن الجينوم البشري.

وطبقا للتقرير الذي نشره موقع “ساينس ألرت” (Science Alert)، يقول فيليبي “إن الانتهاء من رصد تسلسل الجينوم البشري كاملا كان بمثابة ارتداء نظارات جديدة. لقد أصبح بإمكاننا الآن رؤية كل شيء بوضوح”.

الكروموسوم “واي” ما زال بحاجة إلى إكمال تسلسله الجيني (غيتي)

وتذكر ميجا التي ترأس أيضا اتحاد الباحثين أن “الأجزاء التي لم نكن نعرفها طوال الـ20 عاما الماضية تعد ذات أهمية لفهم كيفية عمل الجينوم والأمراض الوراثية والتنوع البشري والتطور”.

ولا تزال هناك حاجة إلى وضع بعض اللمسات الأخيرة على خريطة الجينوم المرجعي هذه؛ إذ إن الكروموسوم “واي” ما زال بحاجة إلى إكماله. غير أن الخريطة الجينية المحدثة ستساعدنا بلا شك على فهم بيولوجية الجسم.

المصدر: وكالات + الجزيرة نت

Share.

صحفية عراقية من اربيل خريجة وزارة الاعلام في اربيل سنة 2004

Comments are closed.