الخوف من الغد، واللهاث الدائم المستمر لتأمين أنفسنا مما قد يحمله المجهول بالنسبة إلينا، وعدم الرغبة في التغيير، حتى وإن كان الوضع الحالي صعبا وقاسيا يستنزف قوانا وصحتنا الجسدية والنفسية، هي سمة أساسية للبعض منا، لكنهم لا يعرفون أنها أكبر من كونها مجرد سمات شخصية، بل حالة من القلق المرضي.

بالنسبة إلى بعض الأشخاص، يمكن أن يؤدي عدم القدرة العامة على التعامل مع المواقف الغامضة إلى تأجيج اضطرابات القلق المُزمنة. في دراسات متعددة، وجد الباحثون أن عدم القدرة على التنبؤ بما قد يحدث مستقبلا يزيد بشكل كبير من انزعاج الناس(1). قد يعاني أولئك الذين لديهم خوف من المجهول من ضيق وقلق كبيرين فيما يتعلق بما هو غير معروف أو غير مؤكد، وقد يبذلون جهودا كبيرة للبحث عن اليقين والوصول إلى حالة الاطمئنان، حتى لو كلفهم هذا الكثير من المشقة.

هذا ما تؤكده أيضا “إيما تانوفيتش”، عالمة النفس في مجموعة بوسطن الاستشارية في فيلادلفيا، خلال تصريحات لموقع بي بي سي، حيث تقول: “بعض الناس يحاولون بجد تقليل الخوف من المجهول والقلق الذي يصاحب ذلك عن طريق تصرفات مثل الاتصال بأحبائهم بشكل متكرر للتأكد من أنهم على ما يرام، أو إرسال رسائل نصية باستمرار، وتحديث البريد الوارد بشكل قهري عند توقع تلقي رسالة معينة. هذه السلوكيات غالبا ما تكون مكلفة للغاية من حيث الوقت والمجهود النفسي والتأثير على العلاقات”(2). المشكلة أن الاطمئنان الذي توفره مثل هذه الإجراءات يكون مؤقتا فقط، نظرا إلى عدم وجود طريقة لضمان السلامة.

ما هو الخوف من المجهول؟

يعرّف الباحثون “رهاب المجهول” أو “الخوف من المجهول” بأنه خوف ناجم عن نقص في المعلومات تجاه وضع أو موقف مُحدد وربما تجاه شخص مُعين. المصطلح النفسي للخوف من المجهول هو “رهاب الأجانب”. في الاستخدام الحديث، تطورت الكلمة لتعني الخوف من الغرباء أو الأجانب، لكن معناها الأصلي أوسع بكثير، فهو يتضمن القلق أو الخوف من أي شيء أو أي شخص غير مألوف أو غير معروف (3). للتخلص من حالة الغموض أو عدم اليقين، قد يقوم الشخص بمعالجة المعلومات بشكل مختلف عن واقع الأمر وحقيقته (4).

“المجهول” هو جزء من التجربة الإنسانية. يزدهر بعض الناس في الأوقات المضطربة، بينما يُصاب الآخرون بالشلل العاطفي. تُشير الأبحاث إلى أن البشر لديهم مستويات مختلفة من الخوف من المجهول، لكن الأفراد الذين لديهم مستويات عالية من هذا الخوف قد لا يستطيعون احتمال أي مواقف غير معروفة أو غير مؤكدة بالنسبة إليهم، كما أنه قد يكون لديهم عدم قدرة على التكيف، ما يؤثر على قدرتهم على العمل أو إحداث أي تغيير في حياتهم (5).

يُعدّ الخوف من التحدث أمام الجمهور مثالا على الخوف من المجهول، فجزء من الرعب الذي يشعر به كثير من الناس على خشبة المسرح هو بسبب عدم معرفة كيف سيستجيب الجمهور. كذلك يُعتبر “الخوف من المجهول” جزءا أساسيا من العديد من حالات الرهاب الأخرى.

قد تختلف أعراض “رهاب المجهول” من شخص لآخر، مثله في ذلك مثل العديد من المخاوف أو أنواع الرهاب المختلفة، أولئك الذين لديهم خوف من المجهول قد يعانون من مشاعر ضيق وقلق شديدين، وقد يتعرضون حتى لنوبات الهلع. يمكن أن تحدث الأعراض المصاحبة لهذا النوع من القلق فجأة ودون سابق إنذار، ويمكن أن تكون مزعجة جدا للشخص الذي يعاني من الأعراض.

عندما يواجه شخص موقفا مجهولا بالنسبة إليه، فإن جسمه يتفاعل من خلال المرور بعدد من التغييرات التي تشبه تلك التي نختبرها في نوبات القلق، والتي تشمل: التغييرات في نشاط الدماغ، وإفراز الأنسولين الكورتيزول، وارتفاع ضغط الدم، وإطلاق الأدرينالين. عندما يحدث هذا، قد يعاني الشخص من أعراض ظاهرة، مثل: التعرق في راحة اليد أو تسارع في ضربات القلب، بالإضافة إلى أعراض أخرى مثل(6): صعوبة أو ضيق في التنفس، التعرق، القشعريرة، الارتجاف، ألم أو ضيق في الصدر، توتر العضلات، اضطرابات في المعدة، الشعور بالاختناق، الصداع، الغثيان (7).

جميعنا قد يشعر بـ”الخوف من المجهول” من حين لآخر، وهو ما يسمح بظهور الأعراض السابقة لكنها تختفي بسرعة. لكن في الأشخاص الأكثر هشاشة أحيانا ما يسبب رُهاب المجهول أعراضا طويلة الأمد، مثل الإصابة باضطرابات القلق والاكتئاب أو ارتفاع ضغط الدم أو عدم انضباط نسبة السكر في الدم(8).

في بعض الأحيان، يتطور الأمر ليؤثر على جودة حياة الشخص المصاب بشكل كامل. ومن العلامات التي تدل على أن الخوف من المجهول يُعيقك في حياتك ما يلي: الرغبة في التحكم في بيئتك بشكل تام وكامل، تجنب المواقف الجديدة، تجنب المدرسة أو العمل أو الالتزامات الاجتماعية، تدني احترام الذات وزيادة الانتقادات الذاتية، الحاجة إلى تطمينات مستمرة من الآخرين، عدم مرونة سلوكيات الشخص أو أفكاره(9).

أسباب “الخوف من المجهول”

بشكل عام، يمكن أن يكون الخوف قد تطور لدى الشخص أثناء الطفولة أو في مرحلة المراهقة أو في بداية مرحلة البلوغ. يُعتقد أيضا أن الرهاب يمكن أن ينبع من أسباب وراثية، فإذا كان أحد والدي الطفل يُعاني بشكل كبير من “الخوف من المجهول”، فقد يستمر الطفل أيضا في تطوير هذا الخوف، قد يكون لوجود آباء قلقين تأثير على كيفية تعامل الطفل مع القلق في حياته اللاحقة(10).

أيضا، إذا كنت تميل إلى الخوف المبالغ فيه بشأن المجهول، فربما تكون قد طورت خلال حياتك عادة “التهويل”، وهي عادة تنطوي على تخيل أسوأ السيناريوهات تجاه المواقف أو الأشخاص. يُعرف التهويل أيضا باسم “التشويه المعرفي”، وذلك لأنه طريقة في التفكير تخلق رؤية غير دقيقة للواقع.

على الرغم من أن أي شخص يمكن أن يصاب بـ”الخوف من المجهول”، فقد وجد علماء السلوك أن بعض الأشخاص كانوا عرضة بشكل خاص لتطوير هذا النوع من الخوف. يشمل هؤلاء الأفراد الأشخاص الذين يُعانون من اضطرابات القلق والخوف، ففي دراسة أُجريت عام 2016، قام باحثون يتعريض تعريض 160 بالغا لأصوات وصدمات غير متوقعة، وجد الباحثون أن أولئك الذين يعانون من اضطراب القلق الاجتماعي والرهاب المُحدد يرمشون أكثر لأنهم كانوا يتوقعون تجربة غير سارة، أدى هذا بالباحثين إلى استنتاج أن هؤلاء الأفراد كانوا أكثر حساسية بشأن المجهول(11).

وجد الباحثون أيضا أن هناك صلة بين الخوف من المجهول واضطراب تعاطي الكحول. في دراسة أخرى أُجريت عام 2016، وجد الباحثون أن المشاركين في الدراسة الذين لديهم تاريخ مع اضطراب تعاطي الكحول كانوا أكثر عرضة للشعور بالخوف من المجهول(12). خلص الباحثون إلى أن الناس ربما يستخدمون الكحول (أو أي عقاقير ذات تأثير مشابه) وسيلةً للتعامل مع الخوف من المجهول.

وجد الباحثون أيضا صلة محتمَلة بين زيادة الخوف من المجهول وزيادة استخدام الهاتف الخلوي والإنترنت، وذلك وفقا لتحليل تلوي أُجري عام 2017(13). كذلك توصلت الأبحاث إلى أنه قد توجد صلة بين تربية طفل مصاب باضطراب طيف التوحد والإصابة بالخوف من المجهول، ففي دراسة أُجريت عام 2015، صنفت 50 من أمهات الأطفال المصابين باضطراب طيف التوحد أنفسهن على مقاييس تقيس القلق والخوف من المجهول، وقد لاحظ الباحثون زيادة كلّ من القلق والخوف من المجهول بين هؤلاء الأمهات(14).

كيفية التعامل مع الخوف من المجهول

تشمل خيارات العلاج أو طرق التعامل مع الخوف من المجهول تقنيات المساعدة الذاتية التي قد تكون مفيدة لبعض الأشخاص، وعلى رأسها إجراء تغييرات في نمط الحياة لتقليل نوبات الهلع. وتشمل هذه التغييرات ممارسة التمارين الرياضية بانتظام، وتناول الأطعمة الصحية، والحصول على قسط كافٍ من النوم، وتجنب المنشطات مثل الكافيين، بالإضافة إلى ممارسة أساليب الاسترخاء مثل التنفس العميق.

يمكن أيضا أن يكون العلاج السلوكي المعرفي مفيدا في التعامل مع الخوف من المجهول، وهو نوع من العلاج يُستخدم غالبا لعلاج الرهاب، يحاول هذا العلاج تغيير طريقة تصرف الناس أو تفكيرهم استجابةً لحافز أو مؤثر معين. أثناء العلاج المعرفي السلوكي، قد يستخدم مقدم الرعاية الصحية التعرُّض للمساعدة على معالجة المخاوف، سيتضمن ذلك تعريضك تدريجيا للمجهول حتى يقل -بمرور الوقت- القلق المرتبط بالمواقف التي ليس لديك حولها معلومات كافية.

في السياق ذاته، تقترح جمعية علم النفس الأميركية تجربة النصائح التالية للتعامل مع الخوف من المجهول، مثل: محاولة عدم التفكير في الأشياء الخارجة عن نطاق سيطرتك، والتركيز بدلا من ذلك على الأشياء التي يمكنك التحكم بها، تجربة وتعلم مهارة جديدة لبناء الثقة بالنفس، التقليل من التعرض للأخبار خاصة قبل النوم مباشرة، التواصل مع الأصدقاء والعائلة للحصول على الدعم (15).

وللتعامل الفعّال مع الخوف من المجهول حاوِل أيضا ألا تتجنب الموقف الذي تخشاه، فكلما طالت مدة تجنبك للموقف، أصبح الانخراط فيه والتعامل معه أكثر صعوبة. قد يوفر التجنب راحة مؤقتة، ولكنه على المدى الطويل يمكن أن يكون ضارا. اتخذ خطوات عملية ومدروسة للتعامل مع الموقف الذي تخشاه بدلا من محاولة تجاهله وتجنبه، يشمل ذلك درجة من التدرج في التعرّض، أي التدرب على مواجهة مواقف بسيطة أولا، ثم الصعود بالصعوبة، في هذا السياق يجب أيضا محاولة النظر بقدر من العقلانية إلى الأدلة الموجودة لدعم الخوف أو دحضه (9).

_______________________________________________________

المصادر

  1. Uncertainty and anticipation in anxiety: an integrated neurobiological and psychological perspective
  2. Why we’re so terrified of the unknown
  3. Into the unknown: A review and synthesis of contemporary models involving uncertainty
  4. Intolerance of uncertainty.
  5. Fear of the unknown: One fear to rule them all?
  6. Causes – Phobias
  7. Symptoms – Phobias
  8. Understanding and Overcoming Fear of the Unknown
  9.  Fear of unknown
  10. Specific phobias.
  11. Startle Potentiation to Uncertain Threat as a Psychophysiological Indicator of Fear-based Psychopathology: An Examination across Multiple Internalizing Disorders
  12. Association between problematic alcohol use and reactivity to uncertain threat in two independent samples
  13. Increasing intolerance of uncertainty over time: the potential influence of increasing connectivity
  14. Brief Report: Effects of Sensory Sensitivity and Intolerance of Uncertainty on Anxiety in Mothers of Children with Autism Spectrum Disorder
  15. \The great unknown: 10 tips for dealing with the stress of uncertainty

المصدر: وكالات + الجزيرة نت

Share.

صحفية عراقية من اربيل خريجة وزارة الاعلام في اربيل سنة 2004

Comments are closed.