بدأ القرن الـ20 ومعه سؤال الهوية يتردد بقوة ويفرض نفسه على الأوساط السياسية والثقافية داخل مصر؛ فمع اندلاع الحرب العالمية الأولى كانت نقاشات القومية والوطنية في أوج ذروتها عالميا، ذلك ما دفع النخبة لدعوات التحرر وقد جاءهم رد المستعمر بسؤال، ما هي مصر؟

ذلك السؤال وصفه المفكر والأديب المصري، توفيق الحكيم، في كتابه “مصر بين عهدين” بالمؤلم ذي الإجابة العسيرة على زعماء مصر الذين فوجئوا بالجانب الإنجليزي يتحدث عن تبعية بلدهم سياسيا للدولة العثمانية وحضاريا حسب الدين واللغة للعرب.

وتمخض ذلك الاستفهام عن أسئلة أخرى مثل “ما مقومات الدولة المصرية وما شخصيتها؟ وهل يجوز قياس ما كان بالعصور القديمة على العصر الحديث؟”، لتصبح الإجابة شاغلة لإنتاج كثير من المفكرين خلال النصف الأول من القرن الماضي، خاصة بعد قيام ثورة 1919 وتصاعد دور الحركة الوطنية.

ويبدو أن إشكالية الهوية عادت من جديد بحلول قرن جديد لأسباب تتعلق أيضا بتغيرات سياسية لها تداعيات على كل مناحي الحياة بمصر؛ وشاركت وزارة الثقافة في النقاش بنشر عدد من المؤلفات التي تؤرخ لجانب من جدل جرى قبل قرن كامل ويحمل بصمات من تلك الحقبة.

عن هوية مصر

من بين الكتب التي أصدرتها وزارة الثقافة في معرض الحديث عن الهوية كتاب “عن هوية مصر والمصريين” وهو يضم دراسات ومقالات لـ4 من أبرز المفكرين المصريين خلال النصف الأول من القرن الـ20، وهم أحمد لطفي السيد، ومحمد حسين هيكل، وطه حسين، وعباس العقاد.

وفي مقدمة الكتاب يشرح المؤرخ المصري، أحمد زكريا الشلق، كيف أن النقاش حول هوية أو شخصية مصر عادة ما يثور في فترات التحول أو الأزمات من تاريخ البلاد، مضيفا أن التحديات التي توجه مرحلة جديدة من التاريخ يبرز معها السعي لاستشراف المستقبل، وهو ما يدعو إلى البدء بالتفكير في الماضي.

وأوضح أن مسالة هوية مصر بكل تجلياتها وأصولها الاجتماعية والثقافية والتاريخية والجغرافية والفلسفية واللغوية شغلت كثيرا من الكتاب في أعقاب الموجة الجديدة للحركة الوطنية المصرية، المتمثلة في ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011 وتداعياتها.

وبشكل مختصر حاول الشلق توضيح معنى كلمة “الهوية”، مشيرا إلى ما جاء في المعاجم من كونها تعني حقيقة الشيء أو الشخص المطلعة والمشتملة على صفاته الجوهرية التي تميزه عن غيره.

مع ذلك فإن المعنى الاصطلاحي لكلمة “هوية” يثير جدلا كبيرا بين العلماء لدرجة استحالة العثور على معنى واضح له داخل علم الاجتماع الحديث، وينتهي المؤرخ المصري إلى أن الهوية تستخدم بمعنى الشخصية في الإطار الفكري والأدبي، أي ما يميز الإنسان عن غيره أو يميز الأمة عن غيرها.

شرقية أم غربية؟

طالما انشغل الأديب والناقد والمترجم المصري، طه حسين، بسؤال وصفه دوما في كتاباته ونقاشاته بالخطير وهو “مصر من الشرق أم من الغرب؟”.

وبشكل مستفيض شرح وجهة نظره حول هوية مصر في كتابه الشهير “مستقبل الثقافة في مصر” الذي أثار جدلا واسعا وقت نشره عام 1938، ونقل كتاب “عن هوية مصر والمصريين” فصولا منه.

عاد حسين إلى تاريخ العقل المصري القديم منذ أقدم عصوره ومسيرته الطويلة حتى العصر الحديث للإجابة عن سؤاله الخطير، مبينا أن تاريخ الحياة المصرية لم يشهد أي صلات مستمرة ومنتظمة مع الشرق البعيد من شأنها أن تؤثر في تفكيرها أو سياستها أو نظمها الاقتصادية.

وتابع “وما أظن أن الصلة بين المصريين القدماء وبين الأقطار الشرقية تجاوزت الشرق القريب الذي نسميه فلسطين والشام والعراق أي الشرق الذي يقع في حوض البحر المتوسط”، معتبرا الانتساب للشرق خطأ شنيع ووهم غريب.

في المقابل يسلط الأديب المصري الضوء على العلاقات القوية بين بلده والحضارات الغربية مثل اليونانية، مبينا أن العقل المصري اتصل بالعقل اليوناني منذ عصوره الأولى اتصال تعاون وتوافق وتبادل مستمر منظم المنافع.

وأضاف أن العقل المصري الى أيام حكم الإسكندر الأكبر كان مؤثرا في العقل اليوناني ومتأثرا به مشاركا له في كثير من خصاله إن لم يشاركه خصاله كلها، موضحا أنه مع فتح الإسكندر مصر أصبحت دولة يونانية أو كاليونانية وأصبحت مدينة الإسكندرية أعظم مصدر للثقافة اليونانية في العالم، حتى بعد سيطرة الروم عليها ظلت مصر ملجأ للثقافة اليونانية.

أما عن وحدة الدين واللغة فرأي حسين أنهما لا يصلحان كأساس للوحدة السياسية أو قوام لتكوين الدول، مبينا أن مصر كانت من أسبق الدول الإسلامية إلى استرجاع شخصيتها القديمة التي لم تنسها في يوم من الأيام، حسب قوله.

وأضاف مصر كانت جزءا من أوروبا في كل ما يتصل بالحياة العقلية والثقافية على اختلاف فروعها وألوانها، وتابع “من السخف الذي ليس بعده سخف اعتبار مصر جزءا من الشرق واعتبار العقلية المصرية عقلية شرقية كالتبت بالهند والصين”.

وعند الوصول إلى العصر الحديث لم يجد اختلافا في العقل المصري الذي تأثر وأثر في أوروبا، قائلا “حياتنا المادية أوروبية خالصة في الطبقات الراقية وهي في الطبقات الأخرى تختلف قربا وبعدا من الحياة الأوروبية باختلاف قدرة الأفراد والجماعات وحظوظهم من الثروة؛ فنتخذ من مرافق الحياة وأدواتها وزينتها ومظاهرها ما يتخذ الأوروبيون بعلم وقصد أو بدون علم وقصد، وحياتنا المعنوية على اختلاف مظاهرها وألوانها أوروبية خالصة”.

وضرب مثلا بنظم الحكم والإدارة والتشريع والتعليم في البلاد التي هي أوروبية الجوهر، مؤكدا أن العقل المصري لم يجد جهدا أو مشقة في تقبلها لأنه ليس مخالفا في جوهره وطبيعته العقل الأوروبي.

وانتقد السياسي المصري عبد الرحمن عزام -أول أمين لجامعة الدول العربية- طه حسين، مؤكدا أن أكثرية أنساب الأقاليم المصرية تعود للعرق العربي، وأضاف “ننتسب بصفة عامة إلى تلك الأمة الحية الوارثة للأرض المبثوثة فيها”.

عن الطبيعة المصرية

ثمة أباطيل كثيرة حول تاريخ الأمة المصرية أدت إلى نظرة قاصرة راهنة لطبيعة المصريين، وفق دراسة أعدها الأديب والصحفي والناقد عباس محمود العقاد، عام 1936، وحملت عنوان “خصائص النفس المصرية”.

في تلك الدراسة أسهب العقاد في نفي ما سماه الأباطيل حول تاريخ الأمة، معتبرا رأس الأكاذيب هو أنها أمة لا تحكم نفسها بنفسها ولا تبالي غارة الأجنبي عليها.

واستطرد مفندا تلك الأكذوبة “لو استعرضنا تواريخ كل الأمم لما استطعنا أن نعثر على شعب واحد خلا من سلطان الأجنبي، وربما كانت مزية الأمة المصرية على أمم كثيرة أن الحاكم الأجنبي كان ينتحل دينها ويتخذ عاداتها ومراسمها ويحفظ ماله في أرضها ولا ينقلها إلى عاصمة بعيدة منها. فإن جرى على هذه السنة في سياستها طالت أيامه فيها وإن خالف لم يأمن انتفاضها وانقلابها”.

ويعتقد العقاد بأن الأمة المصرية لها تاريخ قديم متصل بالعالم في شرقه وغربه، قديمه وحديثه، فالأخبار عنها متصلة وذاكرة الشعوب بها مشغولة.

وأردف “ولأن العالم تلقى تاريخ أمتنا من فئة الأعداء والمغرضين ولم نحفل بتصحيح ما يقال لأن تصحيح التواريخ القومية بدعة حديثة لم يعرف مبلغ الحاجة له إلا في العصر الأخير”.

وضرب مثلا بالإغريق واليهود الذين تكفلوا بدعاية مغرضة ضد المصريين خلال العصور القديمة، كون الأول كان محتلا والثاني بغض سخرته عبدا في مصر.

وانتقل العقاد من الأباطيل عن المصريين لتحديد هويتهم، معتبرهم أمة طويلة التاريخ قديمة العهد بالمدنية في أرض زراعية، ليست من البداوة تتوثب إلى الحرب لأنها باب الرزق وطريق السلامة من الجار المعتدي، ولكنها أمة حضارة مستقرة ومعيشة منتظمة تلجأ للمعارك لأنها ضرورة لا محيص عنها.

الأدب القومي

تبنى الشاعر والروائي والسياسي، محمد حسين هيكل، ما يسمى بالأدب القومي، في أوائل القرن الماضي، فقدم إسهامات إبداعية امتد بها من العصر الفرعوني حتى الحديث.

وانطلقت رؤية هيكل من كون أن الأدب المصري المميز لشخصية البلد تمتد أصوله من مصر القديمة إلى مصر الحديثة، وأن هذا الأدب يعد ملمحا من ملامح تكوين الأمة وهويتها الخاصة.

وفي كتاباته التي تناولت مسألة الهوية المصرية بدا وزير المعارف ورئيس مجمع اللغة العربية الأسبق، أحمد لطفي السيد، حادا في حديثه الذي وجهه لأولئك الذين يحبون الانتساب إلى قوم غير المصريين أو إلى وطن غير مصر.

وقدم كتاب “عن هوية مصر والمصريين” مجموعة مقالات نشرها لطفي السيد بصحيفة “الجريدة” بين عامي 1909 و1914، وحملت عناوين التي وجهها تحت عناوين “الجامعة المصرية” و”مصريتنا” و”المصرية ” و”إلى الفتيان: الوطنية”.

ووجه حديثه للأجيال الناشئة قائلا “يا بني عليك مصرك لا ينفعك إلا مجدها ولا يذلك إلا ضعفها ولو قلبت تاريخها حديثا على قديم لما وجدتها مدينة إلى أحد من الناس تدعو الذمة إلى أداء الدين عنها. وكما أنك بين أقرانك لك شخصية تجب عليك رعايتها فإن لوطنك بين الأوطان شخصية أيضا رعايتها واجبة على أهله وإن فناءك في إرادة الغير واهتمامك بأن تكون في رق اختياري شر من الرق الاضطراري”.

وتعرضت آراء أولئك المفكرين لجدل ونقاش مستمر، وشارك فيه أدباء ومثقفون وكتاب مثل الأديب إبراهيم المازني الذي خص أفكار طه حسين بالنقد واتهمه بالإساءة للعرب، مما استدعى ردا من عميد الأدب العربي.

وسجل المفكر ووزير الإرشاد القومي الأسبق فتحي رضوان مشاركته في النقاش وكتب مقالا في صحيفة “البلاغ” التي دون فيها المازني ردوده، وانتقد فيه الفريقين المؤيدين للفرعونية والعربية على حد سواء، ووصفهما بأنهما “لا يبحثون بوسائل الإثبات العلمية بل يفاضلون بين مجد الأمتين ويقرنون الدين في هذه المفاضلة”.

وأضاف “الفرعونية والعربية موضوع يجب أن يهجر لأنه في جملته وتفصيله سبة وعار، عار أن يختلف المصريون هكذا في معرفة أصولهم وأنسابهم. عار أن يرتفع صوت كاتب عظيم ليقرر أن مصر فرعونية ويرتفع من الجهة الأخرى كاتب عظيم ليقرر أن مصر عربية”.

المصدر: وكالات + الجزيرة نت

Share.

صحفية عراقية من اربيل خريجة وزارة الاعلام في اربيل سنة 2004

Comments are closed.