لا يستطيع العالم بمؤسساته المختلفة أن يستمر من دون محترفين، فهم أصحاب التخصص الدقيق والخبرات المتراكمة والعمل المنتظم، الذي يضمن استمرار الإنتاج وماكينة العمل، لكن ذلك الاحتراف الضامن لاستمرار العالم يفتقر -في كثير من الأحيان- إلى تلك اللمحة الإبداعية وذلك العمق الذي يمنح الأشياء مذاقها الخاص.

ورغم التاريخ الطويل للكاتب الأميركي الأشهر ستيفن كينغ، وجوائزه المتعددة وعدد النسخ التي تم بيعها من أعماله الروائية، والتي بلغت 350 مليون نسخة، فإن احترافه الكتابة ترك ذلك الأثر الذي يجعل من إنتاجه في أحيان كثيرة بضاعة رخيصة صنعت عبر خط إنتاج آلي، وبالتالي فهي تفتقر إلى الجودة والأصالة المطلوبتين.

وتعد القصة القصيرة “هاتف السيد هاريغان” واحدة من هذه الأعمال التي يعوزها العمق، وجاء الفيلم الذي حمل الاسم نفسه، والذي استلهم أحداثها، ليزيد من صعوبة التعامل الجاد معها، إذ قام المخرج والسيناريست جون هانكوك بإضافة حشو غير منطقي من بعض الأحداث التي تعد أقرب للكوميديا منها للرعب الذي اشتهر به ستيفن كينغ.

تدور أحداث فيلم “هاتف السيد هاريغان” (Mr. Harrigan’s Phone)، الذي يعرض حاليا على منصة “نتفليكس” (Netflix)، حول الصبي كريغ (الممثل جايدن مارتيل)، الذي يعيش في بلدة صغيرة، ويصادق الملياردير العجوز المنعزل السيد هاريغان (الممثل دونالد ساذرلاند).

يصادف الصديقان ظهور جوال “آيفون” (iPhone) في الأسواق، فيملك الصغير واحدا ويهدي صديقه المسن آخر، ويكشف الصبي لصديقه الكبير عن مزايا ذلك الجهاز، فيصبح الآيفون إضافة لعلاقة الصداقة ووسيلة للتواصل.

عندما يموت الرجل المسن، يجد الصبي نفسه قادرًا على التواصل مع صديقه وهو في القبر عن طريق الآيفون الذي دفن معه.

 إيقاع هادئ

رغم شهرة كينغ بوصفه روائيا متخصصا في قصص الرعب، ومن ثمّ الأفلام التي اقتبست من أعماله، فإن إيقاع فيلم “هاتف السيد هاريغان” جاء هادئا ولم يستخدم تقنية القطع السريع للقطات وتتابعها، لكنه -في المقابل- لم يتجنب تماما إشارات تنذر بالخطر، وخاصة في مشهد محاولة كريغ فتح إحدى الخزانات في منزل هاريغان الفخم، قبل أن يضبطه ويمنعه من ذلك كي لا يطلع على “أسرار مرعبة”، وهي صور وذكريات طفولة هاريغان.

المشهد المثير للقلق أيضا جاء حين سارع كريغ إلى النهر ليلقي الهاتف الجوال في مياهه، إذ تعامل المخرج مع الصبي على أنه يريد الانتحار بالقفز في الماء، خاصة حين استعرض بالكاميرا ارتفاع الحاجز الصخري بين الماء واليابسة.

استخدم المخرج جون هانكوك كثيرا من “الرنجة الحمراء” (Red Herring) أو الأدلة الزائفة بعلامات إرشادية خادعة خلال رحلة الفيلم، إلى درجة جعلت الأمر يبدو مجرد مزاح ثقيل.

والأدلة الزائفة تقنية أدبية تستخدم في الروايات البوليسية لإضفاء مزيد من الإثارة والتشويق على العمل، لكن استخدامها بكثافة -كما يبدو- جاء لملء الوقت، لأن القصة القصيرة لم تقدم أحداثا كثيرة تصلح لصناعة دراما فيلم كامل.

الملياردير

بعد وفاة الملياردير هاريغان، يذهب الصبي إلى القصر، ليسأل المساعدة الشخصية للرجل: “كان السيد هاريغان رجلا طيبا.. أليس كذلك؟” فتتجاهل السيدة الإجابة عن سؤاله بشكل مباشر، وتقول بوضوح: “كان السيد هاريغان رجلا منصفا، يحب ألا تشهد الجانب السيئ منه؟”

وتكشف تلك الإجابة الدقيقة عن السؤال الأهم؛ لماذا اختار ملياردير قرية صغيرة منعزلة، ليس فيها أي شيء مميز ليقضي فيها آخر أيامه؟ لم يكن الرجل يحب الناس وكانوا يبادلونه المشاعر نفسها في البلدة وخارجها، وقد اختارها لأنها جميلة ولكنها ليست رائعة بالقدر الذي يجعل الزوار يقبلون عليها، لذا عاش منعزلا من دون أن يلجأ إلى أحد، أو يلجأ إليه أحد.

ولعل ديكور القصر الذي بني على الطراز القوطي قد عبر بصريا عن هذه الحالة، فرغم الفخامة الواضحة لم يكن هناك مقعد واحد صالح للجلوس عليه بشكل مريح، سوى ذلك المقعد الملكي الخاص بصاحب البيت الذي قد مات جالسا عليه.

تلك الوحدة التي اختارها الرجل لنفسه تم خرقها بإرادته، حين اختار الطفل كريغ ليقرأ له مقابل 5 دولارات في الساعة.

فهل كان العجوز ضعيف النظر ليحتاج لمن يقرأ له؟ الحقيقة، أنه كان يقرأ الصحف لساعات، وقد ظل شهرا يقرأ المقالات الصحفية على شاشة الآيفون؛ مما يعني أنه لم يكن ضعيف النظر، لكنه كان بحاجة إلى صديق، وهو ما تخبر به الدراما على الشاشة تكذيبا للحوار المنطوق على ألسنة أبطال الفيلم، وهو أيضا المبرر الذي جعله يمنح الصبي ما يقرب من مليون دولار في وصيته.

كان الرجل بحاجة للتواصل الإنساني رغم خوفه من استغلال الآخرين له، لكن هذا التواصل كان محفوفا بالمخاطر، فقرر أن يختار طفلا بريئا ليصبح صديقه الوحيد وقارئ كتبه.

ولعل أبلغ تأكيد على ندم الملياردير -الذي يبدو طوال العمل في حالة نفور من البشر- هي النصيحة التي قدمها للصبي بعد أن عبّر الأخير عن رغبته في العيش في مدينة لوس أنجلوس بعيدا عن قريته، إذ أوصاه بأن يزور قريته دائما، في إشارة إلى حنين الرجل إلى جذوره.

ملهاة ومأساة

كان السيد هاريغان قد نصح كريغ بأن يكون قاسيا وسريعا في التخلص من أعدائه، وحين اكتشف كريغ أن زميله الذي اعتدى عليه بالضرب قد قتل، وأن اتصالا قد أتاه من رقم جوال السيد هاريغان بعد وفاته على الموبايل الخاص به، فيصدم ويسارع إلى أبيه، مطالبا إياه بفتح قبر الرجل لأنه حي، لم يمت.

وفي تلك اللحظة، يخبر الأب ابنه أنه لم يشأ أن يخبره بأن الرجل قد تم تشريح جثته قبل دفنه، وبالتالي لا يوجد احتمال أنه لا زال حيا، وأن الأب لم يرد أن يعلمه بهذا الأمر من قبل حتى لا يسبب له صدمة.

كان عمر الابن في ذلك الوقت يقترب من 18 عاما، وهو من اكتشف وفاة السيد هاريغان بنفسه، وهو من جلس يقرأ له بعد أن اكتشف وفاته إلى أن تأتي سيارة الإسعاف لنقله، وبالتالي فإن منطق الأب أشبه بالنكتة، ولا يمكن التعامل معه بجدية.

نقطة الضعف الأشد وضوحا تظهر في الحكاية الساذجة عن قسوة السيد هاريغان، التي تحكيها مديرة منزله للصبي، فحين اكتشف الملياردير أن البستاني يسرق بعض الأشياء من المنزل، طرده وأوصى الآخرين بألا يقبلوه للعمل، وبالفعل ظل بلا عمل لمدة 6 أشهر، ومن ثم انتحر.

كان البستاني الذي يملك سيارة للحصاد قد تحول إلى مشرد، وعاش في مقطورة، وكتب حروفا قبل انتحاره “لا يستطيع أحد أن يفك شفرتها” -حسب إفادة إحدى جيران البستاني المنتحر- في حين أن الحروف يستطيع طفل في السادسة من عمره أن يفك شفرتها، وتعني ببساطة سبابا بذيئا للسيد هاريغان.

الأجهزة الذكية

يقدم ستيفن كينغ نبوءة على لسان البطل المسن الذي اكتشف لتوه أن الموبايل اختراع شديد الأهمية، ولكنه شديد الخطورة، وأن شبكة الإنترنت هي وسيط لاستعباد البشر.

يتنبأ الرجل بأن المواقع التي تمنح المعلومات مجانا تسعى لخلق إدمان لدى متابعيها من أجل مرحلة تالية تكون المعلومات خلالها ليست مجانية، وتكون لديها إمكانية اختلاق الأخبار وتضليل البشر من دون أن تكون لديهم القدرة على التخلص منها.

ولعل ذلك الإدمان الذي وقع في براثنه الصبي كريغ للآيفون هو ما جعل تواصله الوهمي مع صديقه الراحل يبدو حقيقيا، ومن ثم فإن المستوى الأول من القراءة للعمل يشير إلى تحذير من إدمان الأجهزة الذكية والتعاطي مع الشبكة العنكبوتية، لكنه -في ما يبدو- جرس إنذار متأخر للغاية.

تؤكد القصة والفيلم معا المقولة الشائعة “ليس كل ما يلمع ذهبا”، ورغم أن قصة ستيفن كينغ قد تبدو شيقة عام 2003 حين كُتبت ونُشرت، فإن تحويلها إلى فيلم عام 2022 لم يكن قرارا موفقا تماما.

المصدر: وكالات + الجزيرة نت

Share.

صحفية عراقية من اربيل خريجة وزارة الاعلام في اربيل سنة 2004

Comments are closed.