أثارت قضية محاكمة نجمي هوليود جوني ديب وآمبر هيرد جدلا حول أصول فكرة “هيئة المحلفين” في النظام القانوني الأنجلوسكسوني المعمول به أميركا والعديد من دول التاج البريطاني، ومنها كندا وأستراليا وبلدان أخرى.

وكانت لجنة المحلفين في القضية قد استغرقت 3 أيام للوصول إلى القرار بعد 6 أسابيع من المرافعات والشهادات، وقدمت اللجنة قرارها للمحكمة التي أدانت الممثلة بتشهير سمعة زوجها السابق.

و”هيئة المحلفين” هو نظام محاكمة باستشارة المواطنين غير المتخصصين عبر جعلهم جزءًا من نظام العدالة؛ وذلك بتمثيلهم في هيئات الاتهام أو المحاكمة أو كليهما، ولعبت “هيئات المحلفين” -كممثلين للشعب- دورا في نظام العدالة منذ استقلال الولايات المتحدة، حيث يحال المتهم لمجموعة تمثيلية تختار وفق اشتراطات بسيطة من سكان المدينة، ويفترض أن تمثل الضمير العام وتصوت -بعد النظر لتفاصيل القضية- دون اللجوء للمواد القانونية التي يلجأ إليها القضاة.

لم يدخل نظام هيئة المحلفين حيز التنفيذ في العالم الغربي حتى زمن الحروب الصليبية، إذ اقتبست الفكرة من نموذج سابق لشهادة “اللفيف” التي تعود للنظام القانوني للفقه المالكي الإسلامي الكلاسيكي، الذي تطور بين القرنين الثامن والحادي عشر الميلاديين في شمال إفريقيا وصقلية الإسلامية.

ووفقًا للبروفيسور الأميركي جون مقدسي، المختص بالقانون والأخلاق المقارنة والذي درس الصلات الثقافية بين الإسلام والغرب، فإن فكرة اللفيف مبثوثة بوضوح في الفقه الإسلامي “ولا توجد مؤسسة أخرى في أي اختصاص قانوني تمت دراسته حتى الآن تشترك في كل هذه الخصائص مع هيئة المحلفين الإنجليزية”.

واستولى النورمان على جزيرة صقلية (جنوب إيطاليا حاليا) التي عاشت قرونا من الحكم العربي بواسطة الأغالبة ثم الفاطميين وسلالة بني كلب، ثم سيطرة الزيريين و”الفتنة الصقلية” التي استغلها النورمان لغزو الجزيرة وعاصمتها باليرمو في النصف الثاني من القرن الحادي عشر، ومع ذلك استمر التعايش بين المجتمعات الدينية المختلفة في الجزيرة التي ضمت المسيحيين اللاتين (روم كاثوليك) والمسيحيين الناطقين باليونانية (أرثوذكس شرقيون) والمسلمين.

وأثمر ذلك التعايش عن تبادل اقتصادي وثقافي ولغوي، وكان للمجتمعات الدينية نظم إدارتها وتقاضيها الخاصة، بما في ذلك المسلمون، ما جعل جزيرة “التعايش” بيئة خصبة لإلهام النظام القانوني الإنجليزي بعد أن استولى النورمان أيضا على إنجلترا في الشق الثاني من القرن الحادي عشر ذاته.

واستفاد رجال الشمال النورمان (الذين تعود أصولهم لمزيج سكاني من الفرنجة والغال والفايكنج) من نظم القانون والإدارة وتنظيم المعاملات المزدهرة في صقلية الإسلامية، وأضافوا لذلك أيضا خبرة الاحتكاك مع العرب المسلمين في شمال بلاد الشام إذ أسسوا إمارة أنطاكية الصليبية وعرف ملكهم فردريك الثاني -الذي تكلم العربية وعج بلاطه بالمثقفين العرب- حضارة العرب المسلمين المشرقية والمغربية عن قرب.

“اللفيف” وإلهام صقلية

في دراسته “الأصول الإسلامية للقانون العام” (The Islamic Origins of the Common Law) لعام 1999 قارن جون مقدسي بين نظام اللفيف المعمول به في الفقه المالكي لصقلية القديمة وبين هيئة المحلفين في القوانين الأنجلوساكسونية الحديثة منوها بالتشابه بين هاتين المؤسستين.

وفي دراسته يلاحظ مقدسي، صاحب المؤلفات العديدة في مقارنة قانون الملكية الأميركي والإسلامي، أن الباحثين الذين بحثوا عن أصول “القانون العام” الإنجليزي اقترحوا أنه نتاج العديد من التأثيرات المختلفة، وأهمها تقليد القانون المدني للقانون الروماني والقانون الكنسي، ومع ذلك ، كما يبين في عمله، فإن المؤسسات القانونية للقانون العام تتلاءم مع نمط هيكلي ووظيفي فريد من نوعه بين الأنظمة القانونية الغربية ومختلف بالتأكيد عن ذلك الخاص بالقانون المدني (الروماني).

ويشير تماسك هذا النمط بقوة إلى التأثير المهيمن لتقليد قانوني واحد موجود سابقا بدلاً من خليط من التأثيرات من أنظمة قانونية متعددة متراكبة على نسيج روماني، والمشكلة الوحيدة هي أنه لم يتم العثور على أي تقليد قانوني موجود مسبقًا يناسب هذا التصور، ولهذا تمتد دراسة إلى ما وراء حدود أوروبا وتقترح أن أصول القانون العام يمكن العثور عليها في الشريعة الإسلامية.

ساحة بيازا بيليني في باليرمو بصقلية تضم كنيستين من العصور الوسطى (غيتي إيميجز)

ويتتبع الجزء الخامس من بحث مقدسي نظام الفقه المالكي في الشريعة الإسلامية في شمال إفريقيا وصقلية إلى القانون النورماندي في صقلية ومن هناك إلى القانون النورماندي في إنجلترا لإظهار الروابط الاجتماعية والسياسية والجغرافية التي جعلت الاقتباس الإنجليزي من الإسلام ممكنة.

وأشار مقدسي، أستاذ القانون بجامعات أميركية بينها كليفلاند مارشال وعميد كليات الحقوق بجامعات تولسا وسانت توماس، لأن المنازعات كانت تتم تسويتها في قانون الشريعة الإسلامية بين الأطراف العادية قبل الذهاب لمنصة القضاء أمام القاضي؛ إذ كان يبادر المدعي بتقديم شكوى (مقال)، وكان المدعى عليه ملزما بتقديم إجابة (جواب) عليها، كما هو الحال في “الاعتراف الشعبي” بالقانون الإنجليزي.

ويتابع مقدسي موضحا أن متابعة إجراءات التقاضي لم تكن مجرد مسألة اتفاق من قبل الأطراف، كما هو الحال في الاعتراف الشعبي بالقانون الإنجليزي. ولم تكن مسألة امتياز ممنوح من قبل السلطة السيادية، بل كان على القاضي الإسلامي واجب إلهي بإقامة العدل في جميع القضايا المعروضة عليه، وفق مبدأ الحق في المحاكمة ولكن هل من حق المتقاضين أن يحاكموا أمام قضاء يستند لهيئة محلفين؟

يجيب مقدسي “كانت الطريقة الأساسية للإثبات في الشريعة الإسلامية هي الشهادة من خلال استخدام الشهود، وعندما قدم المدعي أو المدعى عليه الشهود المناسبين ، كان على القاضي أن يستخدمهم كوسيلة لإثبات القضية وحقوق الأطراف، لكن الإمام مالك ، مؤسس إحدى مدارس الشريعة في الإسلام، أصر على أن القاضي ليس لديه القدرة على إصدار أي قرار بدون سلطة الشهود.

ويتابع مقدسي “إذا أمكن إثبات أن هؤلاء الشهود ينالون الخصائص الأساسية لهيئة المحلفين في النظام الجنائي الإنجليزي ، فإن المدعي الإسلامي ليس فقط لديه الحق في المحاكمة ولكن الحق في المحاكمة أمام هيئة محلفين”.

ويقول مقدسي إن المذهب الحنفي اعتبر كل مسلم يعتبرا عدل ما لم تتعرض شخصيته للهجوم، لكن بسبب صعوبة إثبات الشخصية وصعوبة العثور على الشهود أحيانا، ومن أجل حماية نظام العدالة من عدم كفاية الأدلة المتاحة، تطور نظام اللفيف.

وبخلاف شهادة اللفيف فقد استفاد النظام القانوني الأنجلو أميركي أيضا من نظام (الترست) أو الوقف الإسلامي وكذلك أحكام الاستحقاق (الحيازة قرينة) والشراكة المحدودة والمضاربة، ونظم العقود الناقلة للملكية وغيرها، ويقول باحثون أن الفروق الجذرية بين القانون الإنجليزي ونظيره الأوروبي تعود في أحد جوانبها للتأثيران النورمانية المستلهمة من صقلية العربية المالكية بما في ذلك بعض استخدامات “القياس” و”الاستحسان” في الفقه الإسلامي

وتوسع فقهاء المالكية في شرح شروط الشهود ووضعوا قواعد لشهادة غير العدول وطبقوا شروط خاصة بينة يجوز للقاضي أن يحكم بمقتضاها في “شهادة اللفيف” ويقصد بها شهادة عدد من الناس وهم في الغالب 12 شخصا يحققون شرط “البينة”، وعرفت شهادة اللفيف بالمغرب منتصف القرن التاسع الهجري وأصبحت جزء من المدونة القانونية المغربية، وتقبل شهادة اللفيف في العديد من الوقائع المحددة.

الجزء الداخلي من قلعة زيزا بصقلية، وهي قلعة عربية نورماندية في باليرمو، جنوب إيطاليا (غيتي)

صقلية العربية

وأضحت جزيرة صقلية الإيطالية في البحر المتوسط محضنا لثقافة عربية مزدهرة، استمرت حتى بعد سيطرة النورمان عليها عام 1072 للميلاد

في عام 1061 ميلادية كانت صقلية لا تزال جزيرة شبه عربية، لكنها كانت مجزأة إلى خمس إمارات منقسمة على نفسها، وإضافة لذلك تسبب التنازع بين الأمراء، والتنافس بين العرب والأمازيغ في الجزيرة الواقعة جنوبي إيطاليا، في تمكّن ملك النورمان روجر الأول من إخضاع أغلب الجزيرة لحكمه، وبحلول العام 1072 أصبحت العاصمة الصقلية باليرمو تحت سيطرة الرومان سيطرة كاملة.

لكن أفول نجم العرب السياسي عن صقلية لم يغيّب الثقافة العربية عن الجزيرة المتوسطية، وظل الوجود العربي قويا فيها تحت حكم ملوك النورمان في هذه الفترة، وظل بلاط ملوك النورمان طوال القرن الـ12 زاخرا بالعديد من الشعراء والعلماء والحرفيين العرب، الذين تولوا مناصب إدارية رفيعة أيضا، بحسب تقرير سابق للجزيرة نت.

وبعد وفاة روجر الأول عام 1101م خلفه ابنه روجر الثاني الذي كان بلاطه يعج بالمثقفين العرب، ورفض الملك الصقلي المشاركة في الحروب الصليبية رغم إلحاح البابا، وشاع استخدام اللغة العربية في إدارته المالية واحتفالاته الفخمة وفي المجالس الأدبية والشعرية وحتى في نقوش القصر، ويعتبر الأكاديمي المختص بالأدب العربي ودراسات الشرق الأوسط بجامعة كامبريدج ناثانيال ميلر أن ذلك لم يكن مجرد استمرار لبقايا صقلية الإسلامية، ولكنه تقليد واع لممارسات التسجيل والتدوين البيروقراطية المقتبسة من الدولة الفاطمية في مصر في ذلك العصر.

المصدر: وكالات + الجزيرة نت

Share.

صحفية عراقية من اربيل خريجة وزارة الاعلام في اربيل سنة 2004

Comments are closed.