يحدث الرئيس الفرنسي الكثير من الضجيج والصخب، في الداخل، كما في الخارج. صخب بعضه دبلوماسية نشطة، وكثيره تعبير حالة قلقة. إذ لا يكاد الجدل الصاخب يهدأ حتى يتجدّد حول هوية فرنسا، نظاما سياسيا، وهوية ثقافية، وانتماء حضاريا، وجذورا تاريخية. قلق لم يستطع أن يحسمه دستور الجمهورية الخامسة، ولا الرؤية الصارمة في بناء الاجتماع السياسي الفرنسي، الذي كلما اختبر بدا هشا، في المحطات الانتخابية، والأحداث الكبرى، وتراه تهديدا لذاتها، بينما ذاتها نفسها غير متعينة الملامح ولا الخصائص. ويمكن رصد ملامح هذا القلق بشكل واضح من خلال التوقف عند بعض الفضاءات، التي يبدو فيها هذا القلق ظاهرا تماما.

فعلى الصعيد المجتمعي لا تبدو فرنسا مدركة لحجم التحولات التاريخية والديمغرافية، والديناميكية التي يشهدها المجتمع الفرنسي، نموا وتحولا. فليست فرنسا بداية القرن الماضي، هي فرنسا نهايته. تحولات عميقة في مستوى بنيتها الاجتماعية؛ مثلا يبلغ عدد المسلمين بها قرابة عشرة ملايين، وبعض المدن قد يصبح نصفها من المسلمين خلال عقد أو عقدين.

يكفي أن تتابع المنتخب الوطني للعبة مشهورة مثل كرة القدم لتجد جل نجومه من أصول غير فرنسية. هذه التحولات الديمغرافية، لا تبدو معها فرنسا كدولة قادرة على استيعابها والتفاعل معها بما يقتضيه ذلك، من اندماج وإدماج في النسيج المجتمعي والاقتصادي والمهني، بعد أن بات هؤلاء المنحدرين من أصول غير فرنسية، جزءا أصيلا منه، فهل يحصل هذا في فرنسا اليوم؟

الإجابة لا يبدو ذلك كذلك، إنما هناك تمنع واضح على استيعاب ودمج الملايين. كثير من هؤلاء يعيشون في ما يشبه “الغيتوات” المعزولة (فرنسا الضواحي) حيث يقطن “الأوباش” على حد تعبير الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي. والغيتوات هناك تتجاوز المكان فهي ليست مفهوما جغرافيا فقط، وإنما مفهوم شامل يمتد في الفضاءات، حتى من يسكن في قلب المدينة من المواطنين الفرنسيين المختلفين، هو على هامشها نسيج اجتماعي، وثقافة وطنية، ودورة اقتصادية. وإذا كان بالفعل في قلبها سكناً، فهو على هامشها عمراناً.

أما على الصعيد الثقافي، فأن تعتز فرنسا الجمهورية بثقافتها فتبجلها وتحتفي بها وتعممها، فذلك من الاستحقاقات الوطنية الحضارية لكل بلد يعتز بذاته ويحترم حضارته وانتماءه، وهو أمر مطلوب ومحمود.

بيد أن هذا الاعتزاز بالذات، لا يمكن أن يستحيل غرورا ثقافيا، فتتورم معه الذات وتتلبسها حالة من العمى الثقافي، فتتكور على نفسها انغلاقا، متمنعة على الانفتاح، منكرة ديناميات التاريخ الغلاّبة، التي كان من أشد المنظرين لها ورصد قوانينها مفكرون فرنسيون تحت عنوان “الحداثة كحتمية تاريخية”.

ففرنسا بلاد “الأنوار” وركن مكين من أركان الحداثة، تتخلف عن تحيين ذاتها، تجددا وتفاعلا، مرتبكة متريبة وخجولة في تحرير نفسها من المفاهيم الصلبة والتعريفات النهائية، والاندراج في ديناميكية تجددها. وهي إذ تتباهي بالتمنّع عن الانسياق العولمي، فإنها تخطئ إذ تتنكر العالمية، انفتاحا على التجربة البشرية الكونية. إذ تحاول فرنسا مستميتة التشبث بنشر الثقافة الفرانكوفونية. بل وتتحسس من التفاعل مع الثقافات الأخرى، حتى إنها تراهن على استعادة زخم اللغة الفرنسية، وإشاعة استعمالها، لا سيما في المستعمرات الأفريقية.

تصاعد هذا الهوس الهوياتي، بسبب الخطاب الرسمي المشحون بالتحريض، حد مشاركة أكثر من ألف من القادة العسكريين الحاليين والمتقاعدين في نشر رسالة مفتوحة في مايو 2021، تحذر من انهيار الجمهورية، وتهديد المبادئ العلمانية من قبل “الخطر الإسلامي” المتنامي

ولقد كان لافتا أن الكاتب اللبناني البارز أمين معلوف صاحب كتاب “الهويات القاتلة” المقيم في باريس، قد شغل في 2012 كرسي كلود ليفي شتراوس، بعد أن ظل هذا الكرسي شاغرا لما يزيد عن مئة عام. معلوف نفسه واجه قبل ذلك رفضا متعاقبا لدخول الأكاديمية الفرنسية، بسبب ما اعتبر تورطا في المشاركة في 2007 في صياغة “بيان من أجل أدب عالمي” الذي يعلن موت الفرانكوفونية.

وعلى المستوى السياسي، فلا تقام انتخابات، ولا تشكل حكومة إلا ويكون عنوانها الأبرز هوية فرنسا. نعم هوية فرنسا التي تطرح في كل حملة انتخابية على منصات حملات المترشحين، فتجدها في الشارع لافتات، وفي السوق حيث يثور مثلا جدل صاخب حول محلات الجزارة فتقرّع إذ تبيع “اللحم الحرام”، الذي لا يأكله المسلمون واليهود، لأنه من وجهة نظرهم لحم حلال، بينما ترى فيه “فرنسا الدولة” لحما حراما مهددا لقيم الجمهورية ومبادئ العلمانية. بل وتتحول القضية إلى جدل صاخب، حيث ينظر حول محلات الجزارة الحلال باعتبارها تعبيرات وأشكال خطيرة من “الانعزالية” و”الانفصالية الإسلامية”.

وما ينسحب على “اللحم الحلال” كمظهر من مظاهر التهديد لمبادئ اللائكية وقيم الجمهورية، ينسحب أيضا على غطاء رأس المرأة المسلمة “الحجاب”. فالحجاب الذي ترتديه الطالبة الفرنسية المسلمة في المعهد والجامعة، يتحول من حين إلى آخر إلى أم القضايا. ويتداعى هذا “القلق” على مسلمي فرنسا خوفا وعزلة، فينعطف قلق “الجمهورية”، على قلق مسلميها، فيتحول إلى حالة احتقان مركبة، يتوسع نطاقها.

ولقد تورم قلق الجمهورية الهوياتي، إلى مرحلة وصلت فيه الدولة حد اتهام مواطنيها بالانفصالية والانعزالية. عبرت عن نفسها من خلال قانون اقترحه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لمحاربة الانفصالية الإسلامية وعرف بـ “قانون تعزيز قيم الجمهورية”. من جهته مضى وزير الداخلية الفرنسي جيرالد دارمانان إلى نشر “مانيفيستو” تحت عنوان “الانفصالية الإسلامية بيان من أجل اللائكية”. هذا الجموح بدا وكأنه إعلان الدولة حرب على جزء من مواطنيها بتصويرهم انفصاليين، بل وكأن الدولة وضعت نفسها وجها لوجه مع مسلميها.

تصاعد هذا الهوس الهوياتي بسبب الخطاب الرسمي المشحون بالتحريض، حد مشاركة أكثر من ألف من القادة العسكريين الحاليين والمتقاعدين في نشر رسالة مفتوحة في مايو/آيار 2021، تحذر من انهيار الجمهورية، وتهديد المبادئ العلمانية من قبل “الخطر الإسلامي” المتنامي. والأخطر في “البيان العسكري” المذكور أنه هدد بالتدخل لإنقاذ الجمهورية إن لم تتحرك الدولة بإجراءات نوعية.

جاء هذا القلق الهوياتي المستحكم في فرنسا بشكل عكسي تماما. فبدل تفكيك عناصر الأزمة ومحاولة ترميم الاجتماع السياسي، وتدقيق العقد الاجتماعي وتحيينه، ساهم هذا القلق، المتحول إلى خطابات رسمية مشحونة، في تعميق الأزمة وتعقيدها حتى بدت صورة فرنسا الجمهورية وباريس الأنوار جمهورية قلقة ومتوترة. قلقة من نفسها ومن ذاتها ومن أبنائها ومن جوارها القريب والبعيد. جمهورية مستنيرة تفخر بالعلمانية لكنها تضيق بالحرية، أنوارية لكنها تضيق بالتجدد، ديمقراطية لكنها تضيق بالاختلاف، تقدمية لكنها منشدّة إلى الوراء. ملايين من مواطنيها يتسولون دورا للعبادة، ويتوسّلون حقا شخصيا محضا في اختيار اللباس، بينما هي تحاصرهم بقوانينها وتقصيهم بدستورها، كأنهم أبناء غير شرعيين.

فرنسا الحداثة والتقدم، تطمس اليوم بخطابات رسمية قيم المواطنة والإخوة والمساواة، الأركان المكينة للجمهورية، وتدهس بسياسات وترسانة من القوانين المثيرة للجدل أسس التعايش المشترك حتى بدا المجتمع الفرنسي مجتمعات، والفضاء العام فضاءات، وباتت الضواحي بعضها للأشراف وأخرى للأوباش.

تغطي فرنسا على انعزاليتها الرسمية الداخلية، بانفتاح جامح على الفضاء الأوروبي، انفتاحا ليس بحثا عن المختلف والمتعدد، وإنما عن النظير المتشابه، لتعوض به الداخل المختلف فتطمسه وتدفعه للهوامش. فرنسا العلمانية واللائكية، تبحث عن شبيهها الأوروبي الغربي “النقي الأصلي”، لتختبئ فيه وبه عن الفرنسي الطارئ المختلف، المنحدر من الشمال الأفريقي والغرب الأفريقي والشرق الأفريقي وصولا للشرق الأوسط.

لذلك تبدو فرنسا الأكثر حماسة للاتحاد الأوروبي، بل وتقدم نفسها قاطرة له، تمضي به، ولا تخفي رغبتها في إصلاح مؤسساته، وتعزيز دوره، وتأمين فضائه، أمنا قوميا، وقوة عسكرية، ومكانة إستراتيجية. ويستدعي الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون في هذا الصدد التاريخ المجيد للجمهورية، ولمؤسس الجمهورية الخامسة شارل ديغول.

تتجرأ فرنسا القلقة الصاخبة، على إلقاء الدروس على الجميع، بوهم الريادة. فتزعم أن “الإسلام مريض”، والمسلمون “انفصاليون”، والجزائر لم “تكن شيئا” وشباب الضواحي “أوباش” وأن على الشرق الامتثال للغرب ثقافة وقيما

تقوم فرنسا الجمهورية، المتباهية بالعلمانية والمستعصمة باللائكية على رؤية صارمة، ومفهوم صلب لعلاقة الدين بالدولة. إذ تبدو الدولة الفرنسية متوثبة على الدوام للتمركز حول ذاتها وتحصين نفسها فهي الروح وهي العقل وهي البداية والنهاية. وإذا كانت مهمة الدولة في الولايات المتحدة حماية حرية التدين والمعتقد، وفي إيطاليا التعاون بين الدولة والكنيسة، فإن النموذج الفرنسي، يقوم أساسا على أن كل شئ مسخر لحماية الدولة. ومن شروط حماية الدولة حماية اللائكية، بما يعني أن الدولة إذ تسيطر على الدين، فهي من تعرّفه وتتأوله تدينا، فتقرر ما هو التدين الصحيح، الذي يضمن علو الدولة على ما سواها.

وعلى المستوى الإستراتيجي، فإن الهوية المتوترة والقلقة لفرنسا الجمهورية، تعبر عن نفسها أيضا من خلال رؤية باريس لمحيطها. وهي رؤية مسكونة بالقلق الدائم. فخلال الثورة الفرنسية، قاد نابليون حملاته العسكرية، دون هوادة، ليغزو دول الجوار، معتبرا أن فرنسا لن تطمئن إلا بجوار يشبهها ويماثلها، فيؤمن بما تؤمن به. إذ تميل الجمهورية الفرنسية للتماثل، ويبدو كل اختلاف يثير فيها القلق والتوتر.

خلال الحرب العالمية الثانية، وبينما كانت الولايات المتحدة والحلفاء يحررون فرنسا من ألمانيا النازية، كان شارل ديغول اللاجئ في بريطانيا يبحث سبل الحد من نفوذ الحلفاء في بلاده، بل حرص أن يكون تحريرا بقيادته وهو رمزه وبطله القومي. استحكم هذا القلق الفرنسي من الخارج مع الجمهورية الخامسة، ففرنسا التي كانت من مؤسسي الحلف الأطلسي (الناتو)، قررت الانسحاب منه في 1966، بقرار من ديغول الحريص على استقلالية بلاده، وعدم الوقوع تحت الهيمنة الأميركية. انسحاب استمر حتى العام 2009، عندما صوّتت الجمعية الوطنية الفرنسية على العودة للحلف، وتعكس هذه السياسة حالة القلق الدائم الذي يتملك فرنسا.

تعبر الحالة القلقة للجمهورية الفرنسية عن نفسها أحيانا على شاكلة تناقضات صارخة؛ ففرنسا الحريصة دوما على أن تكون أفريقيا، متماثلة معها بالتبعية، تتصرف في أغلب الأحيان بما يتناقض وهذه الرغبة ويقوضها. إذ تبالغ فرنسا في تشديد القوانين وتعقيد فرص هجرة أبناء الضفة الجنوبية إليها، لا سيما أفريقيا، مبدية حالة من التوتر والقلق من التنوع والتعدد الثقافي الطارئة على فرنسا الجديدة، بسبب موجات الهجرة. وتدرك فرنسا دوما متأخرة حجم الضرر الذي يلحقها بسبب هذا القلق المستحكم والقاتل أحيانا. فقد خسرت فرنسا الريادة المطلقة في استقطاب طلاب أفريقيا لصالح الصين. إذ ولأول مرة تنجح الصين في السنوات القليلة الماضية، أن تستقبل من الطلبة الأفارقة أكثر بكثير من العدد الذي تستقطبه فرنسا، رغم العلاقات التاريخية بين القارة الأفريقية وفرنسا، فضلا عن التجاور الجغرافي، ولهذا التغير تأثيرات متوسطة وطويلة المدى على انحسار النفوذ الفرنسي لصالح الصين القادمة من بعيد بـ “طريق من حرير” للقارة السمراء.

فرنسا الجمهورية القلقة تبدو اليوم أكثر توترا وأكثر صخبا من أي دولة أوروبية أخرى. ينعكس قلقها الصاخب، بشكل متسارع على سياساتها العامة، وتدبير اجتماعها السياسي. حالة قلقة باتت تمنعها من إدراك عناصر التحول الطارئة على ذاتها، واستحقاقات التفاعل مع هذه التغيرات العميقة، من أجل التجدد.

ستعاني فرنسا الجمهورية، التي كانت أحد أعمدة عصر الأنوار ثم الحداثة، من تفاقم هذا الصخب إن لم تروض ذاتها، وإن هي عاندت حقيقة التحولات الداخلية، ولم تحيّن العناصر المشكلة لذاتها، هوية متعددة الأبعاد، ولنظامها، جمهورية متعددة الثقافة.

تتجرأ فرنسا القلقة الصاخبة، على إلقاء الدروس على الجميع، بوهم الريادة، فتزعم أن “الإسلام مريض”، والمسلمون “انفصاليون”، والجزائر لم “تكن شيئا” وشباب الضواحي “أوباش” وأن على الشرق الامتثال للغرب ثقافة وقيما، وفرنسا إذ تفعل ذلك تفاقم صخبها وتعمّق قلق هويتها، فتتدهور من هوية قلقة، إلى هوية قاتلة.

المصدر: وكالات + الجزيرة نت

Share.

صحفية عراقية من اربيل خريجة وزارة الاعلام في اربيل سنة 2004

Comments are closed.