يتجه علماء الآثار إلى تضمين دراسة الروائح العطرية وعدّها فرعا جديدا من فروع علوم الآثار لفهم المزيد من التفاصيل عن الحضارات القديمة، وربما الإسهام في تحسين تجربة زوار المتاحف.

آمن المصريون القدماء بوجود حياة أخرى تبدأ بعد الوفاة، وهو الأمر الذي دفعهم إلى بناء مقابر تتضمن كل ما يحتاجونه من أدوات وأطعمة تعينهم على التزود لرحلتهم إلى ذلك العالم الخفي. ولم تكن تلك المقابر حِكرا على الملوك الفراعنة وأسرهم فحسب، إنما كان بناء المقبرة جزءا لا يتجزأ من عقيدة المصريين القدماء باختلاف طبقاتهم الاجتماعية.

وقد نشرت دورية “جورنال أوف أركيولوجيكال ساينس” (Journal of Archaeological Science) في مارس/آذار الماضي دراسة قام بها فريق ضخم من الباحثين ضمن مشروع أطلقه المتحف المصري بمدينة تورينو الإيطالية عام 2017، يُعرف باسم مشروع “تي تي 8” (TT8).

وتهدف الدراسة إلى تحليل المركبات العضوية المتطايرة الصادرة عن محتويات مقبرة خا ومِريت الموجودة بالمتحف المصري بتورينو، عبر تقنية مطياف الكتلة الخاص بتدفق الأيونات (Selected-ion flow-tube mass spectrometry) أو “SIFT-Ms”. وتُساعد التقنية على تحديد المواد الأصلية التي سَكَنَت الأواني وغيرها من الأدوات الموجودة بالمقبرة، وهي المواد التي تبخرت عبر آلاف السنين ونتج عنها مواد عطرية.

مقبرة خا -رئيس للعمال- وزوجته مِريت أشهر المقابر الكاملة لغير الملوك المكتشفة عام 1906 (المتحف المصري بتورينو)

مشروع “تي تي 8”

تعدّ مقبرة خا -الذي عمل يوما رئيسا للعمال- وزوجته مِريت من أشهر المقابر الكاملة لغير الملوك، التي اكتشفها عالم الآثار الإيطالي إرنستو شياباريلي عام 1906 بمنطقة دير، المدينة الواقعة بالقرب من مدينة الأقصر المصرية، وهي المقبرة التي نُقِلت محتوياتها إلى المتحف المصري بمدينة تورينو الإيطالية، وأطلق عليها رمز “تي تي 8”.

وأطلق المتحف مشروع “تي تي 8” البحثي بالتعاون مع العديد من علماء الآثار والكيميائيين التحليليين وعلماء المصريات بهدف نشر البيانات الرقمية الخاصة بدراسة المقبرة التي تتضمن بيانات ثقافية وتاريخية وأثرية. وفي إطار ذلك المشروع عكف 12 باحثا على دراسة مختلف فئات الأجسام الموجودة بالمقبرة، وتحديد خصائص محتوياتها والمواد المكونة لها.

واستخدم الباحثون خلال الدراسة بروتوكولا غير تدميري يعتمد على تقنية مطياف الكتلة السابق ذكرها، والتي تتميز بفعاليتها الكبيرة؛ فقد استطاع الباحثون تحليل ما يقرب من 50 عنصرا من عناصر المقبرة داخل مبنى المتحف دون الإضرار بأي من القطع الأثرية.

كان علماء الآثار قد لجؤوا سابقا إلى أكثر من تقنية كيميائية بغرض تحليل القطع الأثرية ومكوناتها، منها الفصل اللوني (Chromatography)، إلا أنه كان من الصعب استغلال تلك التقنيات في تحليل الأجسام ذات الأشكال والأبعاد المختلفة نظرًا لاحتمال تضرر القطع الأثرية.

وضع الباحثون القطع الأثرية داخل أكياس بلاستيكية لجمع الجزيئات المتطايرة (جورنال أوف أركيولوجيكال ساينس)

اكتشاف الأسرار بتحليل الروائح

وطبقا للتقرير المنشور بموقع “نيتشر” (Nature) يوم 31 مارس/آذار الماضي، قالت الكيميائية التحليلية بجامعة بيزا الإيطالية إيلاريا ديجانو، متحدثة عن القطع الأثرية الخاصة بالمقبرة، “تحدثت مع أمناء المتحف الذين أكدوا لي وجود روائح عطرية داخل صناديق العرض الخاصة بالقطع الأثرية”.

وقد وضع الباحثون بعضا من مكونات المقبرة، منها الأواني المغلقة والأكواب المفتوحة ذات بقايا الطعام الفاسدة، داخل أكياس بلاستيكية لعدة أيام من أجل جمع الجزيئات المتطايرة الصادرة عن تلك الأجسام. وتأتي الخطوة التالية في البروتوكول باستخدام جهاز مطياف الكتلة (Mass spectrometer) لتحديد مكونات المواد العطرية الخاصة بكل عينة.

نتج عن تلك التحليلات اكتشاف بعض من محتويات القطع الأثرية؛ فقد وجد الباحثون الألديهيد (Aldehydes) والهيدروكربونات ذات السلسلة الطويلة، وهي مواد كيميائية تشير إلى وجود شمع العسل، كما نتج عن التحليل اكتشاف ثلاثي ميثيل أمين (Trimethylamine) المرتبط بالأسماك المجففة، كما عثروا على المزيد من المواد الدالة على وجود الفواكه. وعن نتائج الدراسة توضح ديجانو “لقد حصلنا على نتائج جيدة من تحليل ثلثي القطع التي تم تحليلها، وهي مفاجأة لطيفة جدًا”.

في دراسة سابقة تم استخلاص جزيئات متطايرة من الكتان المستخدم في تكفين الأجساد (شترستوك)

فرع جديد لعلوم الآثار

سبق أن قام باحثون بتجربة مشابهة في عام 2014، وخلالها استخلصوا جزيئات متطايرة من بعض الضمادات الكتانية المستخدمة في تكفين الأجساد بأحد أقدم المقابر المصرية. وأكدت تلك الجزيئات وجود مواد خاصة بالتحنيط ذات خواص مضادة للبكتيريا، الأمر الذي أثبت قيام المصريين بتحنيط جثث موتاهم قبل 1500 عام من الوقت الذي حدده العلماء مُسبقًا لتاريخ بدء التحنيط.

ويقول ستيفن بَكْلي، عالم الآثار والكيميائي التحليلي بجامعة يورك بالمملكة المتحدة والمشارك بالتجربة السابقة، “لا يزال تحليل الروائح فرعا غير مكتشف من فروع علم الآثار. لقد أهمل العلماء دراسة المواد المتطايرة ظنًا منهم أنها اختفت من القطع الأثرية”. ويضيف بَكْلي “إذا أردت فهم المصريين القدماء فعليك بالتعمق في عالم الروائح”.

إضافة إلى فهم أعمق للحضارات القديمة، يطمح الباحثون لتحسين تجربة زوار المتاحف بإضافة الروائح، وهي عملية ليست بالسهلة على الإطلاق، إلا أنها قد تضفي الكثير من العاطفية والخصوصية لأولئك الزوار خلال تجوالهم في المتاحف.

المصدر: وكالات + الجزيرة نت

Share.

صحفية عراقية من اربيل خريجة وزارة الاعلام في اربيل سنة 2004

Comments are closed.