غزة- أصيبت نهيل الشرافي منذ ولادتها بعجز في الحركة والنطق، بسبب نقص الأكسجين، فكانت والدتها بالنسبة لها “العكاز واللسان”، تتكئ عليها، وتنطق بدلاً عنها بالكثير من الكلمات التي “تموت” على شفتيها الثقيلتين. ومرت سنوات طفولتها المبكرة، ولم تكن نهيل، وهي الآن في العقد الثالث من عمرها، تعلم أن ما تعانيه ليس حالة طارئة، وأن عليها استكمال حياتها كفتاة معاقة.

وفي السابعة من عمرها فقدت نهيل والدها بعد صراع مع المرض، وتقول للجزيرة نت “رغم مرارة اليتم وفقدان الأب مبكرا، فإن الله عوّضني بأمي، التي كانت أول من آمن بقدراتي، ورافقتني الطريق خطوة بخطوة، متعالية على الآلام والصعاب”.

“انتظار” و”حلم العودة” أول روايتين لنهيل الشرافي (الجزيرة)

سر النجاح

كانت نهيل محظوظة بوالدتها سعاد عودة، وهي طبيبة، تعاملت مع حالة ابنتها بكثير من الصبر والإيمان، وقد زرعت الثقة في نفسها منذ سنوات عمرها الأولى، وشجّعتها على الدراسة في مدارس عادية، لا مدارس متخصصة بذوي الإعاقة.

وتقول نهيل “أمي هي سر نجاحي وثقتي بنفسي.. وهي التي أصرت أن ألتحق بالجامعة وأتخصص في آداب اللغة العربية، وكانت دائمة التشجيع لي، بأنني أمتلك قدرات خاصة، وموهبة في الكتابة”.

في عام 2013، نالت نهيل شهادتها الجامعية بتقدير عام “جيد جدا”، بعد سنوات من المثابرة والاجتهاد، التي لم تخل من الصبر والآلام، كانت والدتها وإخوتها “خير سند” لها -كما وصفتهم، وقالت “لوالدتي وأسرتي بصمة واضحة فيما وصلت إليه”.

لم تكن الشهادة الجامعية سوى “محطة” على طريق نهيل، التي تختزن بداخلها الكثير من الأحلام والطموح، وبكلمات ثقيلة وغير واضحة تكفلت والدتها بتفسيرها للجزيرة نت، تقول “الإعاقة هي قدر من الله عز وجل، ولكن النجاح هو تحد وإرادة”.

انتظار

التقطت نهيل عبارة “أسلوبك جميل في الكتابة” قالتها لها مراقبة الامتحانات في الجامعة، لتخوض بعدها رحلتها في عالم الكتابة الإبداعية، لتفاجئ الجميع -حتى والدتها- بعد نحو عام كامل انكبت خلاله على تأليف روايتها الأولى التي وسمتها بعنوان “انتظار”.

وتقول والدتها الدكتورة سعاد “فوجئنا في أحد الأيام بنهيل تخرج من غرفتها وبين يديها أوراق كثيرة قالت إنها رواية استغرقت أكثر من عام في كتابتها.. وكانت فرحتنا غامرة وكأن مولودا جديدا انضم إلى أسرتنا ليدب الفرح والحركة والنشاط في أرجاء بيتنا”.

كانت نهيل قد التحقت بدورات تدريبية في غزة لتعلم أساليب الكتابة الإبداعية، وفنون القصة والرواية، وخاضت بمفردها ومن دون أن تخبر أحدا تجربة كتابة روايتها الأولى “انتظار”، التي استمدت اسمها من الواقع المرير في غزة، وطوابير الانتظار في كل مكان ولكل شيء.. انتظار المعابر.. انتظار الرواتب.. انتظار فرصة عمل.. انتظار جدول الكهرباء، فضلاً عن تصوير مؤلم لحياة الشباب في غزة.

رافقت نهيل والدتها إلى “اتحاد الكتّاب” في غزة، وهي تحمل ورقات بين يديها، وحلما أن تراه رواية مطبوعة يداعب مخيلتها، وتقول “كدت أن أطير فرحا عندما تلقيت اتصالاً من دار نشر بعد عدة أيام لتوقيع اتفاق لطباعة ونشر روايتي انتظار”.

وفي حفل توقيع روايتها كانت عين نهيل على الجمهور الذي وقف طويلاً يصفق لها، والأخرى على والدتها، وقالت “إنها لحظات لا تنسى، وستبقى عالقة في ذاكرتي حتى آخر العمر.. نعم أنا تلك الفتاة الصغيرة التي ولدت معاقة تعاني عجزا في الحركة والنطق، لكنني لست جثة هامدة، إنني أمتلك عقلاً وإرادة.. وأشعر بالفخر ليس فقط لما أنجزت، وإنما من أجل والدتي، التي لم يذهب تعبها سدى”.

عجز الحركة والنطق لم يمنع نهيل الشرافي من الإبداع ونالت تكريما من وزارة الثقافة الفلسطينية (الجزيرة)

حلم العودة

شكّلت رواية انتظار شهادة ميلاد ثانية لنهيل، التي أصبحت وجها مألوفا في المحافل الثقافية في غزة، ونالت تكريما من وزارة الثقافة الفلسطينية، ومؤسسات محلية، وحالت ظروف السفر المعقدة على معبر رفح البري مع مصر، دون مشاركتها في مؤتمر في القاهرة لدعم المبدعين من ذوي الهمم.

وأصبح الكتاب الهدية الأفضل بالنسبة لنهيل، التي انكبت على قراءة روايات وقصص عربية ومترجمة، من أجل تعزيز قدراتها اللغوية والإبداعية، ليأسرها حب الروائي الفلسطيني الشهيد غسان كنفاني، وتقول نهيل، التي تنحدر من أسرة لاجئة من بلدة “هربيا” إبان النكبة عام 1948، إن غسان كان روائيا مقاتلا، بقوله “بالدم نكتب لفلسطين”، وإن “الإنسان قضية”، ولذلك يجب أن يؤمن كل منا بقدراته على الدفاع عن هذه القضية بالطريقة التي يجيدها.

هذا الإيمان الذي تكتنزه نهيل، كان دافعها لروايتها الثانية “حلم العودة”، فكتبت عن تمسك الفلسطيني بالعودة إلى أرض الآباء والأجداد، وأن سنوات التشرد واللجوء الطويلة لم تُنس اللاجئين هذا الحق، الذي تتوارثه الأجيال جيلاً من بعد جيل.

وتقول نهيل إن “مسيرات العودة” التي شهدتها الحدود الشرقية لغزة عام 2018، كانت جزءا أصيلا من روايتها “حلم العودة”، متسائلة هل يمكن لشباب يواجه الموت على الحدود بصدور عارية أن يتنازل عن حقه في إرث آبائه وأجداده مهما طال الزمن؟ وقد تأثرت بشدة بفقدان ابن خالتها الشاب أحمد عودة شهيدا، أثناء مشاركته في هذه المسيرات.

سافرت روايتا “انتظار” و”حلم العودة” إلى معرض القاهرة الدولي للكتاب وعواصم عربية أخرى، لكن نهيل لم يسبق لها السفر إلى خارج غزة، وتحلم أن تتاح لها الفرصة للسفر وتمثيل فلسطين في محافل ثقافية عربية ودولية، وتقول “قضيتنا عادلة، وعودتنا قريبة، ولكننا بحاجة إلى الكثير من الصبر والعمل”.

المصدر: وكالات + الجزيرة نت

Share.

صحفية عراقية من اربيل خريجة وزارة الاعلام في اربيل سنة 2004

Comments are closed.