القاهرة – في تلك البقعة الواقعة على امتداد مرمى البصر عند سفح جبل المقطم بالقاهرة، تغوص حكايات تمتزج بين الأساطير والحقائق، مدفونة بين جنبات مقابر أغنياء وأولياء وعوام يسكنها فقراء.
هي منطقة الأباجية التابعة لحي الخليفة وسط العاصمة، وتحديدا المنطقة المعروفة بـ”وادي المستضعفين” بما تحويه من كنوز إسلامية تحتضن مزارات صوفية وشيعية ومقابر لعوام المسلمين وجُند عمرو بن العاص بعد أن فتح مصر عام 641 ميلادية.
وتاريخيا، تُعرف الأباجية بالقرافة الصغرى، حيث كان بالقاهرة قرافتان مجاورتان؛ فإلى جانب الصغرى هناك القرافة الكبرى في الفسطاط (اتخذها ابن العاص عاصمة بعد فتح مصر) وفيهما مقابر المسلمين. وسميت القرافة نسبة إلى أول من دفن بها والذي ينسب إلى قبيلة يمنية عاشت بمصر بعد الفتح يُقال لها بنو قرافة.
ووفق باحث في التاريخ الإسلامي تحدث الجزيرة نت فإن لفظ “القرافة” كان يشترط سابقا في إطلاقه على مقابر المسلمين الواقعة في نطاق القاهرة فحسب، ودون ذلك لا يقع تحت نفس المسمى، وإن كان اللفظ انتشر في ربوع مصر في العقود الماضية.
وفي رحلة رمضانية اتسمت أجواؤها بالطقس الحار وغاب الزوار والمريدون على غير العادة، طاف مراسل “الجزيرة نت” بين سراديب وادي المستضعفين عند سفح جبل المقطم، بما يحويه من حكايات مدفونة كأصحابها في الصحراء الحارقة.
وتترامى المشاهد في صحراء قفارها مكتوبة على جبين فقراء يلوذون بكل وافد سواء كان زائرا سائحا أو مريدا أو تائها ضل طريق جنازة مرت قبل قليل، وآخر ليس على لسانه إلا “ممنوع الاقتراب أو التصوير”.
منارة صوفية
وبعد رحلة صعود بين صخور ومنحدرات وعرة، وصلنا بمساعدة سلم خشبي أعلى قمة جامع ومجموعة شاهين الخلوتي، ومن قمته تبدو معالم العاصمة كمفردات لوحة فنية، وأبرزها قلعة صلاح الدين الأيوبي وبرج القاهرة وبحيرة عين الصيرة ومتحف الحضارة بالفسطاط.
ويعود الجامع إلى الشيخ شاهين المحمدي المعروف بالخلوتي، وهو إيراني الأصل، كان مملوكا لسلطان مصر في أواخر العصر المملوكي (1250 ـ 1517م)، لكن حياة الجندية في كنف المماليك لم ترقه، فصاحب فقهاء الإسلام، ليرتحل في النهاية إلى سفح جبل المقطم ويعيش زاهدا متقشفا.
والجامع ضمن مجموعة غاب أثرها، كانت تضم أعمدة ولوحة رخامية وضريحا به 3 قبور بنيت تحت قبته، أكبرها للخلوتي، ثم آخران لابنه وحفيده، حيث بُني الجامع عام 1538م، بعد وفاته بسنوات.
وصارت مجموعة الخلوتي لعقود مزارا لمريدي الطريقة الخلوتية، وهي منحوتة في جبل المقطم أعلى قاعدة حجرية حفظت أجزاء منها من الزلازل والسيول، وإن كان الجامع يبدو من بعيد آيلا للسقوط.
كما لم يتبق من الأثر سوى المئذنة التي تظل شامخة رغم تعرية صخورها، وهي مدببة تشبه القلم الرصاص على الطراز العثماني، والثالثة من نوعها بعد مئذنتي جامع سليمان باشا الخادم بقلعة صلاح الدين وجامع الحسين.
وتعلو الجامع مجموعة خانقاوات (أي خلوة، مكان يتعبد فيه الزاهد بعيدا عن الناس)، وبقايا منحوتات حجرية لساقية كانت تمد الزاهدين والصوفية بالمياه، وأخرى لقضاء الحاجة.
وبعد أن كان قبلة المريدين بدا كأنه مستقرا للزواحف والعقارب وبعض الطيور، وهو مغلق منذ عام 1905، وفي ثمانينيات القرن الماضي هُدم سلم الصعود إليه.
سلطان العاشقين
وعلى بعد أمتار يتكئ على قاعدة مجموعة الخلوتي، جامع عمر بن الفارض، الشاعر الصوفي المعروف بسلطان العاشقين صاحب أشعار العشق الإلهي.
وابن الفارض سوري الأصل مصري المولد (1181م) ولقبه كنية لمن كان يقوم بإثبات الحقوق في المواريث.
وعلى بوابة الجامع، كتب على لوح رخامي “هذا مقام العارف بالله تعالى سيدي عمر بن الفارض”، بينما على ضريحه أرفق لقبه “سلطان العاشقين” وعليه بنيت قبة صغيرة وبداخله عمامة خضراء تشبه زي الصوفية.
وحوائط الجامع زُينت بأشعار سلطان العاشقين ومنها “زدني بفرط الحب فيك تحيرا وارحم حشى بلظى هواك تسعرا”، خلافا لسجلات مكتوبة عن حياته ومماته وترحاله.
وإلى جانب قبة قبر ابن الفارض، تظهر قبة كبيرة تعرف بقبة الأميرة جميلة فاضل، ابنة الخديوي إسماعيل (1830-1895م)، بنتها تبركا بالمكان لابنها الطفل الذي مات رضيعا.
مزار البُهرة
وعلى مسافة قريبة من جامع ابن الفارض يقع بين دروب المقابر بعد ممر ضيق جامع يكتسي باللون الأبيض يبدو مزهوا بنفسه في صحراء الأباجية، هو جامع اللؤلوة، الذي يعد مزارا خاصا لطائفة البُهرة الإسماعيلية الشيعية.
ويتبع اللؤلؤة وزارة الأوقاف ويخضع لإشرافها، لكنه يخضع لملكية البهرة التي تصلي في عزلة بعيدا عن الآخرين، حيث يشهد مراقبة ومنع دخول المخالفين عنهم.
ويعود بناء مزار اللؤلؤة إلى عهد الدولة الفاطمية بمصر (969-1171)، في مكان قيل إنه مستجاب فيه الدعاء، خلافا لروايات تقول إنه يعود إلى لؤلؤة ابنة آخر حكام مصر قبل الفتح الإسلامي، ويقام على قبرها، لذلك يعرفه أهالي المنطقة بـ”جامع الست لوله”.
وتغيرت معالم الجامع عندما قام البُهرة بترميمه عام 1989، وأزالوا قبته. وعلى غرار اللؤلؤة، يسيطر البهرة على جامع الجيوشي الذي يطل من أعلى جبل المقطم على الأباجية، وهو يقع بمنطقة يُمنع فيها اقتراب مخالفي الطائفة الشيعية.
مشهد إخوة يوسف
اقتربت الرحلة من النهاية على مشارف الأباجية وتحديدا المكان المعروف بين سكانها بـ”الأسباط”، وفيه يقع “مشهد (مزار/ مقام) إخوة يوسف”، وهو عبارة عن بناء محفور بين الصخور وليس مشهدا حقيقا؛ إذ إنه ضريح رمزي لإخوة نبي الله يوسف.
والمشهد له بابان مغلقان حاليا، يحمل 3 محاريب في جدار قبلته، وعلى جدرانه نقشت آيات وزخارف قرآنية نادرة التخطيط.
وهو نوع من مزارات ومقامات الرؤية، حيث تتفق مصادر تاريخية على رواية تقول إن رجلا صالحا نام في ليلة بعد أن قرأ سورة يوسف، فجاءه في المنام روبين أكبر أبناء نبي الله يعقوب، أحد إخوة النبي يوسف، وحين استيقظ الرجل قص الرؤية على الناس فقاموا ببناء المشهد.
والمشهد مجهول المنشأ وسنة البناء، ويؤرخه البعض من طريقة البناء وشكل الزخارف والخطوط المكتوبة بسنة 1127م في العصر الفاطمي المعروف بانتشار مشاهد الرؤية الرمزية.
ويجاور المشهد سبيل محمد بن سليمان أغا الحنفي، الذي يعود للعصر العثماني بمصر، ليمثل نهاية القرافة الصغرى بالأباجية ومن خلفه تترامى المساكن الشعبية بالقاهرة.
وإضافة إلى ما سبق تحتضن الأباجية العديد من الكنوز الإسلامية والأثرية الأخرى منها، مدفن الأديب طه حسين، وخلوة كانت تتعبد فيها السيدة نفيسة (من سيدات أهل بيت النبي محمد)، ومسجد ابن عطاء الله السكندري صاحب كتاب مجموعة “الحكم العطائية”، لكن أغلبها عليه حراسة ترفض التصوير وأحيانا كثيرة ترفض الاقتراب أيضا.
المصدر: وكالات + الجزيرة نت