أضحى مقررا منذ السنة الماضية الاحتفال بيوم 15 مارس/آذار من كل عام، باعتباره يوما عالميا لمكافحة الإسلاموفوبيا، وهو اليوم الذي يوافق الاعتداء على مسجدين في مدينة كرايست تشيرتش بنيوزيلندا عام 2019، والذي أدى إلى مقتل/استشهاد 51 شخصا.

كان الحادث مروعا يجلي مدى العنف الذي يمكن أن تؤدي إليه النزعة الإقصائية لخطاب اليمين المتطرف الآخذ في التمدد والاتساع في سياق عالمي يشهد انقساما على المشتركات الثقافية والدينية والسياسية، بالإضافة إلى الصراع الحاد حول المصالح وتشكل ميزان قوى جديد، مما ينذر بحالة من الفوضى.

وفي حالة الاضطرابات الكبرى تبرز الهوية ونزعة التطهر ووضع الحدود في الاختلاف بين البشر على أسس ماهوية وجوهرانية تجعل التناقض الحاد أصلا، والاختلاف الجذري من منطلقات ثقافية ودينية، صبغة فطرية للإنسان يحملها معه من الولادة فالنشأة والتكوين، وتلك مشكلة الخطاب الذي تتغذى عليه الإسلاموفوبيا، وبالمثل العنصرية والتمييز الذي يوافق يوم 21 مارس/آذار.

واقع الإسلاموفوبيا في أوروبا.. رصد وتحليل

لقد كانت إحدى الخلاصات التي خلص إليها التقرير السنوي الذي يصدره الاتحاد الأوروبي ويقدمه للمسؤولين والشخصيات السياسية الرفيعة لتحليل وفهم اتجاهات انتشار الإسلاموفوبيا في مختلف الدول الأوروبية، مهمة جدا لفهم التوظيف الذي قد يخضع له الرهاب من الإسلام أو الإسلاموفوبيا من توظيف في سياسات عدد من الدول.

وتشير تلك الخلاصة في التقرير الصادر سنة 2016 منذ أن تم البدء في رصد الظاهرة، إلى أن   “الظاهرة يمكن أن توجد بوجود المسلمين داخل هذه المجتمعات، أو في ظل غيابهم، ذلك أن الإسلاموفوبيا أضحت تلعب دورا مهما في سياسات العديد من الدول الأوروبية التي تضم عددا قليلا من المسلمين، وقد تعززت هذه الظاهرة حسب التقرير نفسه، مع أزمة اللاجئين وهجمات باريس.

يمكن أن نضيف على هامش التقرير، بقية الأحداث التي عرفها عدد من الدول، مما سمح بالاستثمار في موضوع الإسلام والرموز الدينية الإسلامية لصياغة تخدم جملة من الأهداف السياسية، التي قد ترتبط في مجملها بما هو بعيد كل البعد عن الدين، لكنها توظفه في صراع سياسي.

وهذا هو المنحدر الذي وصلت له مسارات الإسلاموفوبيا في الغرب عامة وبعض الدول الأوروبية بشكل خاص، لكن ما يهمنا هنا بالإضافة إلى التحولات التي شهدتها الإسلاموفوبيا، أو مسارات توظيفها السياسي، كون الإسلاموفوبيا قد تعرفها مجتمعات ودول ليس بها عدد كبير من المسلمين.

بصيغة أخرى، لقد أضحت الإسلاموفوبيا ظاهرة قد لا ترتبط بوجود المسلمين في بلد معين، وإنما قد تخضع للصناعة بغاية تقديم تمثلات خاطئة عن الإسلام والمسلمين.

ومن ثم فالإسلاموفوبيا في أغلبها كخطاب وممارسة تزدري الإسلام والرموز الدينية الإسلامية والمسلمين، أضحت أداة للاستخدام السياسي ضمن انزلاق أعم يعيشه النسق السياسي والمجتمعي الحديث، في العلاقة بأنماط من الخطاب والممارسة السياسية التي تستخدم الآخر في خطابها لتعريف الذات، إنها أزمة سؤال الهوية وإعادة تقسيم المجتمع الإنساني كما سبقت الإشارة في التقديم.

كيف تحضر الإسلاموفوبيا اليوم في الدول الأوروبية؟

يشير تقرير تنسيقية/جمعية محاربة الإسلاموفوبيا (ccieurope.org) إلى أرقام ومعطيات مخيفة عن تنامي الظاهرة واتساعها، مما يقدم لنا وضعا تقريبيا عن ظاهرة الإسلاموفوبيا في أوروبا، مع تأكيد التقرير على أحداث متنوعة تتصل بالكراهية ضد المسلمين، توصلت فيهما المؤسسة المعنية بـ527 تقريرا عن حوادث معادية للإسلام تم التبليغ عنها.

من تلك الحوادث 467 لها صلة بالتمييز والعنصرية، و128 بالاستفزاز والتحريض على الكراهية، و71 حادثا يرتبط بالإهانة، و59 حالة عبارة عن تحرش معنوي، و27 حالة اعتداء جسدي، بالإضافة إلى ما له صلة بقانون مكافحة الانفصالية الذي جرى سنه في فرنسا، حيث بلغ عدد الحالات التي تم التبليغ عنها 33 حالة، وفي مجموع الحالات السابقة تستأثر فرنسا وحدها بـ427 حالة.

هذه الوقائع المبلغ عنها، 427 منها تعبر عن نساء ضحايا للإسلاموفوبيا، كما أن أغلب تلك الوقائع حدثت في الفضاء العام، بينما 186 منها وقعت في شركات أو فضاءات خاصة، وبالنسب المئوية حسب النوع يقدم التقرير ضحايا الإسلاموفوبيا كالآتي:

  • نسبة 81% من الوقائع المعادية للإسلام والمسلمين كانت من نصيب النساء.
  • و19% منها ضد الرجال.

أما بخصوص توزيعها على المستويات التعليمية، فنذكرها مفصلة:

  • ما نسبته 11% من الوقائع حصلت في مؤسسات ومعاهد التعليم العالي.
  • و59% حصلت في التعليم الثانوي ومؤسساته.
  • و10% حصلت في التعليم الإعدادي.
  • و20% حصلت في التعليم الابتدائي.

وتقدم الأرقام والنسب المئوية لنا بشكل تقريبي، طبيعة الأحداث السائدة، وهي تقريبية لأنها لا ترصد كل الوقائع التي حصلت في معظم الدول، إنما ما تم التوصل به أو تم رصده، وإذا أضفنا لها السائد في عدد من الدول، سواء في السويد أو الدانمارك وهولندا، بالعمل على إحراق المصحف في الفضاء العام، أو ما يتصل بالحجاب ورسائل التهديد التي ترد على المساجد، فإن واقع الأمر يشكل مصدر قلق حول المستقبل وما ينبئ به.

بل إنه يجلي طبيعة الأزمة التي يعانيها نموذج تشكل أساسا على قواعد تؤسس لقبول الاختلاف مجتمعيا، وتنظمه على المستوى السياسي من خلال ميكانيزمات الديمقراطية، وهي أزمة تتمدد وتتسع مع الانسياق الجارف من طرف الإعلاميين والساسة مع اليمين وخطاب اليمين في الصراع السياسي.

لقد أصبحت الإسلاموفوبيا مادة تخضع للاستعمال والتوظيف، وهو ما قد يخدم مصالح سياسية آنية، لكنه في العمق يضع أسسا لأزمة مجتمعية عميقة قد تجعل أوروبا تعود إلى عصر الشموليات، وهو ما لن يكون أثره على المكون الإسلامي وحده في النسيج المجتمعي الأوروبي، وإنما سيقوض النسق الذي تولد من رحم نزاع الشموليات عقب الحرب العالمية الثانية، واتخذ له الديمقراطية الليبرالية جوهر اجتماعه السياسي.

الاستثمار السياسي في الإسلاموفوبيا

لا يمكن الجدال حاليا، أن ظاهرة الرهاب من الإسلام ورموزه وتعبيراته أضحت حقيقة واقعية لا غبار عليها في السياق الأوروبي والعالمي وما يتداول بشأن الوقائع، ما هي إلا أعراض ونتائج لمسببات وعوامل تاريخية وفكرية وسياسية أسهمت في تشكلها على مدى زمني طويل، سنتوقف معها مستقبلا بشكل مفصل في سياق عرضنا للإشكالات المتفرعة عن علاقة المسلمين بالنظم السياسية والثقافية في أوروبا، والإشكالات المرتبطة بها في قضايا الهوية والاندماج وجدل الدين والثقافة في بيئة تعددية.

أيضاً قضايا علاقة الشرق بالغرب الكامنة التي تحتاج نحتا جديدا، يتجاوز أفق الصدام الذي يغذي الإسلاموفوبيا ويمد الجسور لتجاوز مأزق الاستعمال السياسي للإسلاموفوبيا، والذي انطلق بشكل مغاير منذ كتابة صامويل هنتغتون عن “صدام الحضارات”، والذي غذى النزعة الثقافوية التي تنظر إلى الآخر من منور التغاير والتضاد الهوياتي على أسس عقائدية وأيديولوجية حادة، مما يؤسس للإقصاء والصدام، ثم لاحقا مع اليمين المتطرف، الذي يستند خطابه السياسي ومشروعه الذي يبشر به على نزعة إقصائية تهدد النموذج برمته، مما يعني أن المشكلة بقدر ما تخص المسلمين لتجنب مسارات قد تكون مؤلمة في المستقبل، فإنها كذلك تعبر عن أزمة داخل النموذج الأوروبي والغربي برمته، بل تتجاوز ذلك الفضاءات الحضارية التي وجدت ضالتها في الشعبوية والقومية المتصلبة.

يعرف واقع الإسلاموفوبيا نموا متصاعدا واتساعا يوما بعد يوم، في سياق مضطرب يدفع بقوة إلى الشموليات التي يغذيها اليمين المتطرف، لكن اليمين المتطرف لم يعد حالة معزولة، بل في حالة مثل فرنسا التي انفردت بمعظم الأرقام والمعطيات المستقاة من التقرير أعلاه، تبرز مدى الانحدار الذي يمكن أن يصله الخطاب السياسي، حيث يتم الاستثمار في الكراهية للإسلام في سياق انتخابي، وهي ليست حالة معزولة، وإنما جزء من مد تعرفه كل الدول الأوروبية.

لكن الحالة الفرنسية، اتخذت منحى التصعيد في موضوعات ذات صلة بالبعد القيمي والثقافي والهوياتي، فالحديث الذي شكل مستند التنافس الانتخابي في انتخابات السنة الماضية، تركز حول مفردات “الانعزالية الإسلامية” و”اليسار الإسلامي” و”الراديكالية” وغيرها من المفاهيم والعناوين العريضة التي قدمت المواطنين الفرنسيين من خلفيات مسلمة، أو التعبيرات الدينية الإسلامية كونها تشكل تعارضا جوهريا مع قيم الجمهورية.

قد يكون التعبير عاديا حينما يكون صادرا عن فاعل حزبي أو في سياق معزول سياسيا ومجتمعيا، لكن الموضوع أخذ مجرى آخر، بحيث صار موضوعا للاستخدام من الرئيس الفرنسي في قوانين أعادت الدولة الفرنسية من خلالها ضبط المجال الديني الإسلامي والفاعلين فيه، والأبعد من ذلك، أن الموضوع اتخذ أبعادا اجتماعية وإعلامية في الصراع السياسي، مما يذكي الانقسام ويعمقه.

بل زاد من شرعنة الإسلاموفوبيا وقام بتغذيتها في السياق الأوروبي، حيث صار العداء للرموز الدينية الإسلامية من صميم الخطاب والبرامج السياسية ومشاريع القوانين، بينما كانت المقاربات الأقرب لمعالجة المشكلة، البحث في الجوانب الاجتماعية والسياسية وتوسيع هامش الحقوق والحريات، بما يسمح للشباب المنحدر من أصول مهاجرة، بالاندماج المرن في النسق.

فالمشكلة إذن ليست ثقافية أو هوياتية، وإنما سياسية في الأصل، لكن الانحدار إلى المقاربة الثقافوية، كما يشير لذلك فرانسوا بورغا، هو مسعى لتخلص الدول التي نمت فيها الشعبويات، من تبرئة النفس من مسؤولياتها، من خلال “إلقاء اللوم على ثقافة الآخر” وتحميل مسؤولية الأزمة لدين الآخر، هذا المنزع في اعتبار الآخر مصدر المشكل، يشكل هاجسا متحكما في تفكير المحافظين الجدد، وفي فرنسا يعد الباحث “جيل كيبل” أبرزهم.

تعددت أشكال استعمال الآخر في الخطاب السياسي الأوروبي والغربي، لدى مختلف المكونات التي تنتسب إلى اليمين، كان ذلك مع جورجينا ميلوني التي فازت بالانتخابات الإيطالية، مما يشير إلى اتساع قاعدة اليمين، وقد أكدت ميلوني في حملتها الانتخابية على “محاربة الهجرة، والأسلمة” من أجل الوطن والأسرة، وغيرهما من المفاهيم التي تتطابق لدى اليمين.

وبالمثل في المجر، حيث انتخب فيكتور أوربان مرة أخرى، والتي يعتبرها التقرير السابق عنوان أزمة في علاقة بالإسلاموفوبيا، فهذا الأخير يرى أن الإسلام ليس جزءا من أوروبا، ولن يكون في المستقبل، بل إن اللاجئين في نظره غزاة.

ويتوقع في الانتخابات البلجيكية أن يحصل ثاني أكبر حزب يتمركز وجوده على القومية الفلامنكية، على 25% حسب استطلاعات الرأي الخاصة بانتخابات 2024، وهو حزب معروف بميولاته السياسية في التشديد بخصوص موضوع الهجرة والمهاجرين، بل إنه يعد مؤشرا على عودة النزوع القومي.

ولعل النزوع القومي تتجلى مخاطره بشكل أكبر في المخطط الذي كان يسعى حوالي 25 فردا إلى تنفيذه في ألمانيا، وما كان يحمله هؤلاء من خطاب ونزعة شمولية، يعيد للأذهان سياقات مضت، مع الأحزاب الشمولية التي قادت إلى حرب الكل ضد الكل.

لقد برز من خلال سرد بعض أنماط القوى الصاعدة في أوروبا، أو تلك التي لم نسردها مثل الحزب الحاكم في الهند وما يقوم به بخصوص الاستثمار في الكراهية والتعصب، واضطهاد أقلية الإيغور المسلمة من طرف الصين. كل ذلك يبرز في واقع الأمر، وقوع قضايا الإسلام والمسلمين والعداء للرموز الدينية الإسلامية تحت طائلة الاستخدام والتوظيف في الصراع السياسي، ونحن إذا تأملنا السياقات التي يمر بها المنتظم الدولي، والأزمات المتلاحقة اقتصاديا وسياسيا، مما يعبر عن حالة انسداد أو فوضى، فإن ذلك ينبئنا، بالانتشار والاتساع في المستقبل القريب لمعضلة الإسلاموفوبيا.

ذلك أن الفشل في الخيارات السياسية والاقتصادية، يتم التعويض عنه عادة بالاندراج في أزمات هوياتية تتعلق بالآخر، باعتباره مصدر المشكلة، لذا ينبغي التخلص منه، ومن ثم فإن حمى اليمين المتطرف، قد تنتقل عدواها سياسيا وإعلاميا ومجتمعيا إلى باقي الأطراف في الصراع السياسي، إذا لم يتم الانتباه إلى ما يحمله ذلك من أزمات عميقة في المستقبل، لا يمكن حلها إلا بالتعددية والتنوع والاختلاف، الذي يشكل جوهر الاجتماع البشري.

ختاما، الإسلاموفوبيا بطبيعتها ظاهرة مركبة، وليست مشكلة حديثة التشكل، كما أنها ليست خاصة بالسياق الأوروبي، فهي مركبة باعتبار العوامل التي تشكلت من خلالها على مدار عقود من الزمن، بالإضافة إلى جذورها التاريخية والفكرية والسياسية التي تغذيها، ابتداء من علاقات الغرب بالشرق تاريخيا، وتفسير تلك العلاقة من منظور الشرق من جهة، ومن منظور الغرب من خلال الخطاب الاستشراقي، وفكريا في الجدل الذي يثار حول عدد من القضايا الذي يحدث فيها اشتباك النماذج، ومن ثم التوافق بين الإسلام والحداثة.

أما سياسيا، فهي تمتد من موجة المشاريع الاستعمارية التقليدية، إلى نظرية صدام الحضارات وما أعقبها من تصنيف حدي للمجتمع الإنساني على أسس حادة من التصنيف، وتقديم الإسلام باعتباره مشكلة البشرية وعدو المستقبل، بينما هو في اسمه ورسمه ونظامه القيمي والأخلاقي، جرعة من الحياة والإنسانية في ظلال السلام والمساواة مع حفظ التنوع والاختلاف، ولا سيما في السياقات الراهنة التي ينحدر فيها الإنسان والكوكب للمجهول بفعل مقامرة الشعبويات وخطاب العداء والكراهية والعنف.

المصدر: وكالات + الجزيرة نت

Share.

صحفية عراقية من اربيل خريجة وزارة الاعلام في اربيل سنة 2004

Comments are closed.