تشير تقديرات وكالة أونروا إلى أن تعداد اللاجئين في مخيم رفح ارتفع من 41 ألفا لجأوا إليه عام 1948 إلى أكثر من 125 ألفا حاليا، يعيشون في منازل مكتظة وفي شوارع ضيقة للغاية، وهو أحد أكبر المخيمات في القطاع، الذي يمثل اللاجئون أكثر من 80% من سكانه.

غزة– لا يأبه المختار حكمت عدوان بطول سنوات الهجرة واللجوء، ولم يتسلل اليأس إلى نفسه بعد مرور 74 عاما على النكبة، وقيام دولة الاحتلال الإسرائيلي على أنقاض فلسطين التاريخية عام 1948.

وما بين النكبة وذكراها الـ74، لا يزال حكمت (79 عاما) يعيش في “حارة بربرة” بمخيم اللاجئين في مدينة رفح (جنوبي قطاع غزة)، وهو أحد 8 مخيمات في القطاع الساحلي الصغير، أنشئت بقرار من الأمم المتحدة لاستيعاب اللاجئين.

كبر ذلك الطفل، الذي كان في الخامسة من عمره عند وقوع النكبة، ونالت التجاعيد من وجهه، وغزا الشيب شعره من دون أن تشيب ذاكرته، ويقول عدوان -للجزيرة نت- “عشت بين أزقة هذه الحارة طفلا، وتزوجت ولدي أبناء وأحفاد، ولن أترك بيت المخيم إلا لبربرة أو القبر”.

محمد عدوان يؤمن بدور المخيم في حفظ الذاكرة الوطنية من عوامل الزمن ومخططات تصفية القضية (الجزيرة)

حديث الذكريات

عندما تواصلت الجزيرة نت مع المختار عدوان كان يشارك في حفل زفاف لأحد أبناء عائلته، لكنه لم يتردد في المغادرة واصطحابنا إلى ديوانه، ويقول هذا اللاجئ السبعيني “لا شيء يضاهي متعة الحديث عن البلاد”.

وتتصدر هذا الديوان لوحتان ضخمتان، واحدة تمثل خارطة لقرية بربرة، والثانية هي شجرة عائلة عدوان وتبرز في إحدى زواياها صورة للشهيد كمال عدوان -من الجيل المؤسس لحركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح)- الذي اغتالته إسرائيل في سبعينيات القرن الماضي، وهو خال المختار حكمت.

ويستعين المختار بهاتين اللوحتين في الحديث لزواره من مواليد ما بعد النكبة عن القرية، التي كان زارها لآخر مرة قبل اندلاع الانتفاضة الأولى عام 1987، ويقول “جيل اليوم أكثر وعيا من آبائه وأجداده من جيل النكبة، وتجربة الـ48 (الهجرة واللجوء) لا يمكن أن تتكرر مرة أخرى”.

ولساعة أو أكثر كان حديث عدوان عن بربرة بكثير من التفاصيل الدقيقة، جغرافيتها وعائلاتها ومشاركتها في المقاومة ضد العصابات الصهيونية، ولم يقطع حديثه إلا تدخل أحد أبناء عمومته محمد عدوان، قائلا “والله يا عم، حديثكم الدائم عن البلاد يقوينا ويعزز صمودنا، ويجدد الأمل بالعودة في نفوسنا”.

كان حكمت عدوان طفلاً إبان النكبة وأصبح اليوم مختاراً لقرية بربرة ولا يزال يحلم بالعودة-رائد موسى-الجزيرة نت
كان حكمت عدوان طفلاً إبان النكبة وأصبح اليوم مختارا لقرية بربرة ولا يزال يحلم بالعودة (الجزيرة)

مخزون الثورة

محمد من مواليد عام 1970، وهو أسير محرر قضى سنوات في سجون الاحتلال، ويقول للجزيرة نت “المخيم هو مخزون الثورة منذ النكبة، والآباء والأجداد هم وقودها بحديثهم الدائم عن فلسطين بكل هذا الحنين”.

“وأي حنين يا ابني” قالها المختار بكثير من التأثر، وتابع “والله، إن حبة عنب أكلتها من بربرة عندما زرتها، ما زلت استشعر طعمها حتى اليوم، ومستعد للعودة إليها، ولو زحفا”.

وربت محمد على كتفه، وقال “سنعود عاجلا أم آجلا”، واسترسل في الحديث عن الدور الذي لعبته مخيمات اللاجئين في مقاومة الاحتلال، وتشكيل وعي الأجيال المتعاقبة وحفظ الذاكرة الوطنية.

وأضاف “كان من المهم الحفاظ على أسماء بلداتنا وقرانا، بإطلاقها على مخيمات اللجوء، ففي ذلك مقاومة لعوامل الزمن، ومساعي الاحتلال لتزييف الواقع وتشويه الجغرافيا الفلسطينية”.

وحدها هذه الأسماء هي التي تميز حارات اللاجئين في مدينة رفح عن غيرها، فالكثافة السكانية مزجت المخيمات بأحياء المدينة، واختفت إلى حد كبير تلك المنازل المبنية من الطوب والمسقوفة بـ”الأسبستوس والصفيح”، وحلت مكانها منازل من الحديد المسلح.

وتشير تقديرات وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) إلى أن تعداد اللاجئين في مخيم رفح ارتفع من 41 ألفا لجأوا إليه عام 1948 إلى أكثر من 125 ألفا حاليا، يعيشون في منازل مكتظة وفي شوارع ضيقة للغاية، وهو أحد أكبر المخيمات في القطاع، الذي يمثل اللاجئون أكثر من 80% من سكانه (مليونا نسمة).

أطفال المخيمات يتوارثون الألم والأمل جيلاً بعد جيل-رائد موسى-الجزيرة نت
أطفال المخيمات يتوارثون الألم والأمل جيلاً بعد جيل (الجزيرة)

جيل العودة

وفي واحدة من هذه الشوارع في “مخيم يبنا”، كان الطفلان محمد أبو رمضان وعبيد أبو اصهيبان يلهوان بدراجة قديمة، وبرزا من بين أطفال آخرين أكثر شجاعة، وتقدما متسائلين “بتصور عشان النكبة؟”

واكتسب هذا المخيم اسمه من قرية يبنا، قضاء مدينة الرملة داخل فلسطين المحتلة، ويضم خليطا من العائلات جلها هاجرت من هذه القرية، وأخرى من مدن وقرى مجاورة.

أبو رمضان ينحدر من أسرة لاجئة من مدينة يافا، في حين هاجرت أسرة صديقه أبو اصهيبان من مدينة بئر السبع، ويتمتعان بحيوية واندفاع للإجابة عن الأسئلة معا “سننتصر ونعود لبلادنا”.
ويقول أستاذ التاريخ والباحث في شؤون اللاجئين نادر أبو شرخ -للجزيرة نت- إن الحكايات التي تروى في منازل المخيمات جيلا بعد جيل، هي التي جعلت قضية فلسطين، والإيمان بالعودة إليها حية، ومتنامية في نفوس مثل هؤلاء الأطفال.

وكان جيل النكبة ذكيا -برأي أبو شرخ- عندما تجمعت عائلات كل قرية ومدينة في حارات داخل المخيمات وأطلقت عليها أسماء تلك القرى والمدن، حبا في الأرض وتمسكا بحق العودة، ولتظل هذه الأسماء والمعاني حاضرة في الذاكرة؛ ففي كل مخيم ستجد حارات تحمل مسميات تلك الديار المسروقة.

محمد عدوان يؤمن بدور المخيم في حفظ الذاكرة الوطنية من عوامل الزمن ومخططات تصفية القضية-رائد موسى-الجزيرة نت
محمد عدوان (يمين) المخيم هو مخزون الثورة منذ النكبة (الجزيرة)

المخيمات.. بوابات العودة

ورفض اللاجئون أفكارا ومخططات خبيثة على مدار عقود طويلة، وأفشلوا “التوطين” و”الأسرلة”، وتمسكوا بالبقاء في مخيمات لجوء، لا يزالون يعدونها “محل إقامة مؤقت إلى حين العودة”، كما كانت هذه المخيمات والحارات بأسمائها، وبنضالات أبنائها “حجر عثرة” أمام مساعي إسرائيل لمحو ذاكرة الأجيال الجديدة وتزييف التاريخ وتشويه الجغرافيا، باستبدال الأسماء العربية للبلدات الفلسطينية بأسماء عبرية، يقول أبو شرخ.

وأضاف “في المخيم أحداث النكبة حاضرة وحق العودة إيمان مطلق فالصبي أسموه ’ثائر‘ والبنت ’يافا‘ وفي الأفراح يغنون أهازيج البلاد قبل الهجرة: الأوف والعتابا والميجنا والدبكة والدحية. وظلت هذه التراثيات متداولة ليبقى الوطن عنوانا للفرح، ويبقى حق العودة في يوميات اللاجئين”.

وفي المخيم يرتدي المسنون أثوابهم التراثية بألوانها وزخارفها وجمال مظهرها. وفي المخيم، تجد الناس قد خصصوا جزءا من أفنية بيوتهم أو في دواخلها أو اقتطعوا أجزاءً من الشارع ولو مترا واحدا ليزرعوا فيه شيئا يربطهم بالأرض ويذكرهم ببياراتهم المفقودة ومزارعهم المسروقة وخيراتهم المنهوبة، وربما بنوا كوخا أو (خُشة) أو بيتا من الشعر للسمر فيه كما كانوا في بئر السبع.

وفيه تجد اللاجئين يخبزون على فرن الطين تماما كذلك الفرن الذي تركوه وراءهم في بلداتهم وقراهم المدمرة؛ إنهم لا يأكلون الخبز فحسب إنهم يتغذون ثورة ويُطعمون أبناءهم صمودًا، حسب أبو شرخ.

المصدر: وكالات + الجزيرة نت

Share.

صحفية عراقية من اربيل خريجة وزارة الاعلام في اربيل سنة 2004

Comments are closed.