هل بالغ المؤرخ البريطاني “أرنولد تُويْنبي” (Arnold Toynbee) حين وصف مقدمة ابن خلدون قائلا “إنها وبلا شك أعظم عمل من نوعه أنجز عبر الزمان والمكان!” ظل هذا السؤال قائما عندي لسنوات، حتى قرأت المقدمة مترجمة إلى الإنجليزية ثم إلى الفرنسية، قبل أن أعود لقراءتها بالعربية.

لقد كان لقراءة المقدمة مترجمة، خصوصا الترجمة التي قام بها “فانسون منصور مونتاي” (Vincent-Mansour Monteil) تحت عنوان (Discours sur l’Histoire universelle) دور كبير في تنبيهي إلى جملة من الأشياء فاتني الوقوف عندها أثناء قراءة النسخة العربية، أشياء تجعل القارئ يشعر وكأن ابن خلدون معاصر لنا كما يقول المفكر المغربي محمد عزيز لحبابي.

وجه المعاصرة في المقدمة لا يكمن في خلوها من المسلمات الفكرية التي ترتبط بحقب تاريخية غابرة، بل في النَفَس البحثي والطموح الفكري الذي يجعلها تنفذ إلى مضمار النقاش الكوني. وبهذا الاعتبار يمكن استدعاء ابن خلدون في النقاش الدائر بين معاصرينا حول قضايا الساعة، وعلى رأسها قضية البيئة.

صحيح أن سؤال البيئة اليوم قد بلغ درجة من التعقيد ما كانت لتخطر على بال الإنسان في مرحلة ما قبل الحداثة وما قبل الثورة الصناعية والثورة التكنولوجية؛ غير أنه لا يقل صحة كذلك أن تلمس أن الحلول والأجوبة لهذا السؤال لا تأتي من داخل المنظومة التي أفرزته فحسب، بل من الخارج، من أعمال من قبيل المقدمة التي أرادها صاحبها أن تكون عصارة تجربة حضارية.

يقول ابن خلدون في معرض حديثه عن التعليم والتعلم أن في الرحلة إلى طلب العلوم ولقاء المشيخة مزيدا من كمال في التعلم، فتعدد المشايخ عنده يفيد في “تمييز الاصطلاحات” وتجريد العلم عنها. بمعنى آخر، قد يحصل لطالب العلم غبش فيظن أن (أ) و(ب) في علم الرياضيات هي جزء من هذا العلم، حتى إذا رحل عند معلم آخر فوجده يستعمل (x) و(y)، وبهذا يجعل المتعلم يدرك بالتدريج أن هذه المصطلحات إنما هي “أنحاء تعليم وطرق”، وإذا واصل الرحلة تمكن من التمييز بين جوهر العلم المطلوب وتعدد الاصطلاحات الموصلة إليه.

كذلك قد يُخيّل إلى المتلقي، الذي لم يمارس الجولان الفكري (Intellectual nomadism)، بحسب تعبير “كينث وايت” (Kenneth White)، ولم يمارس الترحال بين أحياز ثقافية مختلفة، يخيل إليه وهو يصغي إلى مصطلحات الخطاب الإيكولوجي اليوم أنه أمام خطاب جديد غير موصول بأزمنة وأمكنة أخرى.

والواقع أنه في حال حصل له التمييز بين المصطلح والعلم، بحسب تعبير ابن خلدون، يدرك أن هذا الخطاب إنما يطلب جوابا لسؤال سبق وأن طرح، وسيطرح لا محالة في سياقات حضارية أخرى، ومفاده هو: “كيف نستديم النعمة؟”، أو “كيف نوطد أركان الحضارة ونتفادى السقوط في الهرم وخراب العمران؟”.

عند تأمل الخطاب الإيكولوجي الراهن نجده عبارة عن محاولات للتنبيه إلى ما يسميه ابن خلدون بالعلامات الدالة على الإدبار والانقراض ومبادئ العَطَب وتضعضع أحوال الدول والحضارة.

غير أن الفرق بين فكر ابن خلدون والفكر الإيكولوجي المعاصر يكمن في كون الأول، أي فكر ابن خلدون، يصدر عن عقل أفضى به التأمل في سياق انهيار الحضارة إلى الاقتناع بأن “الهرم إذا نزل بالدولة لا يرتفع”، بينما يظل الفكر الإيكولوجي، أمام العوارض المؤذنة بنهاية العمران وخراب الأرض، فكرا يتشبث بالأمل في دفع أسباب هذا الخراب.

كيف نُعمِّر الأرض؟

إن نظرية العمران عند ابن خلدون تقوم في أصلها على سؤال محوري واحد، ألا وهو “كيف نُعمِّر الأرض؟” أو المعمورة، وهو سؤال يضمر القول بوجود طرائق في هذا التعمير، منها ما يفضي إلى الخراب والتدمير، ومنها ما يضمن الحفاظ على الاستقرار والمتاع.

وفي سعيه للجواب عن هذا السؤال يحاول ابن خلدون أن يستخلص النواميس الطبيعية التي تحكم العمران، أو علاقة الاجتماع الإنساني بالأرض، موطن الحياة، وهو في محاولته هذه إنما ينهل من ثقافة عصره، خصوصا من ثقافته الدينية الراسخة.

يذهب ابن خلدون إلى القول إن الاجتماع البشري يتقلب بين 3 أطوار: طور البداوة، وهو طور البدايات، حيث يظل الإنسان مشدودا إلى الأرض، يمارس الجولان والترحال بحثا عن الكلأ؛ ثم طور العمران البدوي، وهو كما تدل المصطلحات على ذلك، طور يباشر فيه الإنسان فعل التعمير أو البناء لكن دون أن تنقطع صلته بالأرض وما تفرزه هذه الصلة من وعي “بدائي” بالحضور في الطبيعة.

ثم طور العمران الحضري، وهو طور بلوغ الغاية أو المنتهى في الارتقاء، حيث تنقطع صلات الإنسان بالأرض لفرط إحلاله النوافل، أو الكماليات بلغتنا اليوم، محل الضرورات وحرصه على تحصيلها بشتى الطرق والعادات.

تدل مصطلحات العمران والبداوة والحضارة على أن ابن خلدون لا يلتمس للاجتماع الإنساني معاني غير المعاني المقررة في اللغة العربية، بحيث نجد أن البداوة ترتبط في نسقه الفكري بالبداية، وأن العمران يرتبط بالتعمير، وأن الحضارة ترتبط بالاحتضار.

فالعمران لا يكون إلا منفتحا على الحس البدوي، أي أنه ضرب من الأنساق الهندسية المنفتحة على الطبيعة (Archi-nature)، كما يبشر بذلك بعض معاصرينا، وهو عمران يُسْتدام معه الاستقرار والحفاظ على البيئة؛ أو عمران حضري يستغلق على الطبيعة، وهو عمران يؤذن بنهاية النموذج في التحضر.

وفضلا عن هذه المعاني يلتمس ابن خلدون الفقيه ورجل الدين، قاضي قضاة المالكية، للاجتماع الإنساني معاني أخرى من الوحي، فنجده يجزم بأن هذا الاجتماع متى بلغ مرحلة الترف انتهى إلى الهرم الذي لا يرتفع.

من يتأمل النص الخلدوني في هذا الباب يجد فيه تأكيدا على الحتمية التاريخية المتضمنة في قوله تعالى “وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا” (سورة الإسراء: 16)، فالأمر الرباني هنا يحيل على قاعدة مطردة، أي أن أمر الله يقضي أنه كلما تمادى الإنسان في الترف استجلب الخراب والدمار.

يقول ابن خلدون في معرض حديثه عن العوارض المؤذنة بالهرم أنها “تحدث للدولة بالطبع وأنها كلها أمور طبيعية لها، وإذا كان الهرم طبيعيا في الدولة كان حدوثه بمثابة حدوث الأمور الطبيعية كما يحدث الهرم في المزاج الحيواني والهرم في الأمراض المزمنة التي لا يمكن دواؤها ولا ارتفاعها لما أنه طبيعي..”.

وحين نمعن النظر في المقدمة نجد بأن ما يحمل ابن خلدون على تفسير الهرم والسقوط بالحتمية الطبيعية هو الاعتقاد المعبر عنه بترديده “سنة الله في خلقهم”، أي السنة التي تربط بين فساد المترفين ودمار العمران.

نقف هنا مع ابن خلدون عند عبرة من أهم العبر المستخلصة من المقدمة، وهي عبرة تفيد في النقاش الدائر حول سبل الحفاظ على البيئة في سياقنا الراهن. لا جدال في أن الخطاب الإيكولوجي اليوم أصبح، أكثر من كل خطاب آخر، يقدم ذاته بوصفه خطابا يقوم على محاربة الفساد.

فكل معاني الفساد الأخلاقي المتعارف عليها من قبل صارت تتوارى أمام ما أصبح يعرف بالفساد المقترف في حق البيئة. أليس من الطبيعي أن يَظْهَر حاملو لواء محاربة الفساد الذي يؤذن بتدمير البيئة ونفاد الحياة على غيرهم ممن يقاومون أنواع الفساد الأخلاقي الأخرى؟!

لقد تم لأصحاب الخطاب الإيكولوجي في السياق الغربي عموما الاستحواذ على الخطاب الأخلاقي، غير أن من يتابع النقاش الدائر اليوم حول الانتقال الأخضر، يلمس أن هذا الخطاب وإن كان يروم الإصلاح، فهو يقف عند حدود البحث عن موارد جديدة للطاقة النظيفة تحل محل الطاقة المُلوِّثة، أو عند حدود اقتراح البدائل لمواد مستهلكة.

ولا يتعدى ذلك إلى ربط إشكالية البيئة بالترف الذي يتحدث عنه ابن خلدون. وكأننا بلسان حال الناطقين الجدد باسم البيئة اليوم، خصوصا السياسيين منهم، لا يمانعون في أن يواصل الإنسان لهثه وراء النوافل ما دامت وسائل تحصيلها خضراء. ذلك أن هذه النوافل صارت تدخل في حكم الضرورات.

صحيح أن بعض الشر أهون من بعض، وأن رياضة مثل سباق السيارات تكون أيسر مؤونة وأقل تكلفة بيئية مع وجود السيارات الكهربائية منها مع السيارات العادية. وينسحب هذا على كثير من الأنشطة التي يزاولها الإنسان في سياقنا الحضاري اليوم.

غير أنه لا يقل صحة أن مفهوم البديل النظيف قد يتحول إلى مُسوِّغ من مسوغات الاستهلاك والسلوك المترف. إن فكرة البديل النظيف قد تصرف العقل عن التفكير في سبل تغيير المنظومة الثقافية والاقتصادية القائمة على الترف، وتتحول إلى باعث من أكبر البواعث على الاستهلاك الأهوج.

هناك تيارات، من داخل المنظومة الفكرية الإيكولوجية، تستشعر خطر السقوط في شراك المنظومة الليبرالية، وهذه التيارات تُروِّج لجملة من المقولات تحوم حول مسألة الترف، كـ “Sufficiency”، أو “Sobriété”، أو “Décroissance”، وكلها تفيد معاني من قبيل الكفاية واليقظة و”الاقتصاد في السعي”.

وعند التحقيق نجد أن هذه التيارات تصدر عن قناعة دفينة مفادها أن النموذج الغربي في التنمية قد استنفد أغراضه وأصبح يؤذن بخراب العمران. والحل عندهم يكمن في إيقاف حضارة الترف. وكلهم ينهلون، بدرجات متفاوتة، من فكر “هنري ديفيد ثورو” (Henry David Thoreau).

يتبع…

المصدر: وكالات + الجزيرة نت

Share.

صحفية عراقية من اربيل خريجة وزارة الاعلام في اربيل سنة 2004

Comments are closed.