القاهرة – أعادت الحرب الروسية في أوكرانيا للأذهان ملف أزمة اللاجئين في العالم، بعدما خلّفت آلاف اللاجئين الأوكرانيين الفارّين من أتون الحرب المندلعة، ومع تزايد أعدادهم بصورة يومية، فقد بلغت نحو 2.8 مليون لاجئ، وفقا للأمم المتحدة.

وحينما نُقلّب صفحات التاريخ، يتكرر الأمر لكن مع الروس والأوكرانيين معا هذه المرة، إذ هاجر كثير منهم في القرن الماضي إلى دول أخرى كانت من بينها بلاد عربية أبرزها مصر.

وحسب المؤرخين، بدأت قصة لجوء الروس وهجرتهم إلى الخارج كسبب من أسباب قيام الثورة البلشفية عام 1917 في روسيا القيصرية، التي أسفرت عن سقوط ضحايا، فضلا عن نزوح جماعي من الإمبراطورية الروسية (منهم أوكرانيون من إقليم سومي على الحدود الروسية الأوكرانية) إلى العديد من الدول الأخرى، منها الصين وتركيا بل مصر أيضا.

تعذر تحديد أعداد المهاجرين الهاربين من الصراع بين الشيوعيين والقيصريين، لاعتبارات متصلة بغياب شفافية هذه الفترة في ظل القبضة الحديدية التي مارسها النظام السوفياتي، وكثرة الضحايا والقتلى والمفقودين جراء الحرب الأهلية، حيث كان منهم روس فضلا عن الأوكرانيين وغيرهم من العرقيات، وإن كان الوصف الذي شمل الجميع هو أنهم روس.

لكن بعض المؤرخين يشيرون إلى تقديرات بين مليونين إلى 3 ملايين لاجئ، منهم من هرب إلى الصين (نحو 600 ألف)، ونحو 400 ألف إلى فرنسا، و100 ألف إلى تركيا، في حين بلغ عددهم في مصر قرابة 5 آلاف لاجئ روسي، وحدده المستشرق الروسي فلاديمير بيلياكوف بنحو 4350 مهاجرا بحلول عام 1920.

مجموعة من الأوكرانيين بين نخيل مصر (موقع إقليم سومي الأوكراني)

 الروس في مصر

استقر المهاجرون في مصر كلاجئين بمعسكرات في القاهرة بمنطقة العباسية، وفي محافظة الإسكندرية بمنطقة سيدي بشر، وفي محافظة الإسماعيلية بمنطقة التل الكبير، وفقا لكل من المستشرق والأكاديمي الروسي فلاديمير بيلياكوف، وجينادي فاسيليفيتش مدير المركز الروسي للعلوم والثقافة بمصر.

وحسب المؤرخين، فإن الروس الوافدين كان كثير منهم من المصابين والمعارضين ومن يخدم بالجيش الأبيض المعارض للبلاشفة، ولم يستقر كثير من اللاجئين بمصر فغادروها بعد تلقي العلاج، وهي فترة استمرت عامين بدعم من البريطانيين ومن المصريين أيضا.

وفي كتابه “الإسكندرية الروسية- قدر المهاجرين في مصر”، يقول جينادي فاسيليفيتش إنه تم إنشاء اللجنة القاهرية لمساعدة اللاجئين الروس، بناء على مبادرة من جانب الدبلوماسيين الروس والمجتمعات المحلية، برئاسة زوجة القائد العام للقوات البريطانية بمصر الليدي كونجريف، وقد انضمت لها شخصيات اجتماعية وسياسية بارزة في مصر.

وأضاف أنه قد تميز بينهم بشكل خاص اللبناني المسيحي الذي يعتقد العقيدة الأرثوذكسية (على غرار الروس) حبيب لطف الله وابناه جورج وميشيل، فقد قدموا مبالغ كبيرة وساعدوا بالملابس والأدوية وغيرها، وامتدت أعمال اللجنة إلى الإسكندرية.

أنشطة اللاجئين الروس بمصر

على أن الجزء الآخر من اللاجئين الروس قرروا الإقامة في مصر، بعد أن انفصلوا عن مراكز اللجوء وتلمّسوا طريقهم في المجتمع المصري، وانخرط بعضهم في أعمال مع الجاليات الأوروبية المقيمة بمصر. ومع الوقت ظهر مجتمع روسي مارس أنشطة متعددة، ظهر ذلك في حراك اجتماعي وثقافي، قام عليه روس من الوسط الثقافي والفني والعلمي، وهو ما يؤكده كل من المستشرق الروسي بيلياكوف والأكاديمي فاسيليفيتش في كتاباتهما التي أرّخت لتلك الحقبة.

ففي الإسكندرية عاش الروس في منطقة سيدي بشر التي شهدت وجود مراكز ثقافية وفرق مسرحية ومكتبات عامة ومطاعم تقدم الأكلات الروسية، وذلك دفع بعض المهاجرين إلى الاستقرار هناك حتى بعد إغلاق المعسكر عام 1922.

وفي كتابه “رحلة إلى ضفاف النيل المقدسة- الروس في مصر” الذي قدّم دراسة حيال أوضاع اللاجئين الروس بعد الثورة البلشفية، يقول فلاديمير بيلياكوف الأكاديمي الروسي وأستاذ التاريخ بمركز الاستشراق في موسكو “كانت الاسكندرية في تلك الحقبة مدينة نصفها أوروبي، ومن ثم فقد رحب الأوروبيون بالروس للعمل لديهم مفضلين إياهم في أحوال كثيرة على المصريين؛ كان الطلب كبيرا بصفة خاصة على الفنيين والمهندسين والميكانيكيين والسائقين والكهربائيين، كما قام عدد كبير من الروس بالعمل في شركة الترام سائقين وكمسارية أو مفتشين، وإجمالا كانت الأعمال متنوعة من بيع السجائر في الشارع إلى الخدمة في إدارة التموين العسكرية الإنجليزية”.

غرفة القراءة داخل جمعية ثقافية في مخيم سيدي بشر بالإسكندرية (موقع إقليم سومي الأوكراني)

وتحدث بيلياكوف عن نشاط الجمعيات الروسية الثقافية في سيدي بشر بالإسكندرية، مشيرا إلى أن عدد أعضائها بلغ 151 عضوا، ونظمت دورات في محو الأمية والفنيات الكهربية والمحاسبة، وأخرى في اللغة الفرنسية والألمانية، وبلغ عدد المشاركين فيها 260 فردا.

أما المكتبة العامة فضمّت 546 كتابا والمكتبة الدراسية 343 كتابا، وفي قاعة المطالعة كانت هناك صحيفة حائط تقدم المقالات المترجمة عن الصحف الإنجليزية والفرنسية، التي تتناول الأحداث في شتى أنحاء العالم وفي روسيا في المقام الأول.

وهذا على نقيض معسكرات التل الكبير بمحافظة الإسماعيلية التي فرض فيها نظام صارم صعّب الحياة على اللاجئين هناك.

وفي هذا السياق، يقول الأكاديمي المصري عاطف معتمد، أستاذ الجغرافيا الحاصل على دكتوراه الجغرافيا من جامعة سان بطرسبورغ بروسيا، في منشور له عبر موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، إنه وفقا لكتابات المستشرقين الروس التي ترجمت إلى العربية، فقد كان معسكر التل الكيير الأكثر بؤسا، وعلى سبيل التهكم حرَّف المهاجرون الروس الذين تجمعوا في التل الكبير الاسم إلى “التل السيبير” في إشارة إلى صحراء سيبيريا الجليدية، لأن التل الكبير وقتئذ كان صحراء لا زرع فيها ولا ماء.

مشاهير روس في مصر

لم يقتصر الوجود الروسي في مصر على اللاجئين والفارّين من الحرب، فقد كان هناك شخصيات معروفة، مثل الفنان الروسي إيفان بيليبين الذي كانت له مكانة إبداعية في روسيا، وتناول بيلياكوف سيرته حيث كان رساما ومن أهم أعماله تصويره للأحياء الإسلامية في القاهرة والعمارة مطلع القرن الـ20.

ليس ذلك فحسب، فهناك عالم المصريات الروسي فلاديمير سيميونوفيتش غولنيشيف الذي حظي بالتكريم في مصر بوضع تمثال له في فناء المتحف المصري بالقاهرة عام 2006، وهو أول رئيس قسم لعلم المصريات بجامعة القاهرة، وكذلك سكرتير القنصلية الروسية في الإسكندرية إيفان أوموف الذي نقل الأدب العربي وترجمه للغة الروسية لاحقا، والفنان الروسي بوريس فريمان الذي أسس قسم النحت في كلية الفنون الجميلة بالقاهرة، وغيرهم ممن خصص لهم فلاديمير بلياكوف فصولا كاملة في كتبه المهتمة بالأقليات الروسية المهاجرة.

المصدر: وكالات + الجزيرة نت

Share.

صحفية عراقية من اربيل خريجة وزارة الاعلام في اربيل سنة 2004

Comments are closed.