الجزائر- بمجرد أن تسأل أي شخص في “ساحة الشهداء” أو “حي القصبة” بالجزائر العاصمة عن قصر “خداوج العمياء”، تجد الكل يعرفه ويدلك على طريقه، إذ لا يبدو الوصول إليه صعبا رغم وجوده في شارع ضيق يسمى باللهجة الجزائرية “الزنقة”.

وللتعرف على قصر يعود تاريخه إلى الحقبة العثمانية في الجزائر (1516 – 1830)، زارت الجزيرة نت القصر وتجولت في طوابقه الثلاثة والواقع في حي القصبة العتيق الذي يعد أقدم حيّ بالجزائر العاصمة منذ 25 قرنًا.

ويُحتسب تاريخ القصر وعمره بـ”القرون”، إذ بقي شاهدًا على فترة تاريخية مهمة في تاريخ الجزائر، كما أنه يحفظ أسرار قصة من نوع آخر لأميرة تشبه في كل تفاصيلها تلك الأساطير التاريخية لكنها “أسطورة حقيقية” وفق ما تؤكده الأبحاث والدراسات التاريخية، وإن اختلفت الروايات حول من شيّد هذا القصر الأسطوري بهندسة معمارية عثمانية ما زالت تقاوم كل عوامل الزمن منذ 450 عامًا.

لكنه لم يعد مجرد قصر باهت، بل تحول منذ 1987 إلى “متحف للفنون والتقاليد الشعبية” بقرار رسمي من السلطات الجزائرية حيث يحتوي على عشرات القطع الأثرية والتحف المستوحاة من الصناعات التقليدية القديمة في الجزائر.

مقتنيات بقصر خداوج العمياء (الجزيرة)

“دار خداوج العمياء”

وبمجرد دخول الجزيرة نت إلى القصر الذي يسمى أيضا “دار خداوج العمياء”، وجدنا سامية موظفة استقبال بـ”ابتسامة” تبعث على الراحة وتزيد من الشغف لاكتشاف هذا المعلم التاريخي.

لم تتوان سامية في أن تكشف للجزيرة نت بعض المعلومات عن قصر مدخله علم جزائري كبير ولافتة تسمي القصر بـ”المتحف العمومي الوطني للفنون والتقاليد الشعبية”، وبابان أحدهما حديدي والآخر خشبي ولا تبدو عليهما ملامح “الشيخوخة” لكنها أبواب تخفي من ورائها كنزًا تاريخيًّا وقصة عجيبة.

جابت معنا سامية كل غرف وطوابق القصر وهي تشرح تاريخ كل تفصيل فيه، وقالت إنه “من أشهر المعالم التاريخية التي تقع في القصبة السفلى بقلب الجزائر العتيقة، وتحديدا في حق سوق الجمعة، غير بعيد عن مسجد كتشاوة التاريخي الذي بناه العثمانيون، والتي تسمى اليوم منطقة جنينة”.

غرفة داخلية بقصر خداوج العمياء (الجزيرة)

أما عن تاريخه، فقد أعادت سامية سرد مختلف الروايات الواردة في المراجع التاريخية وأكدت أنه حتى الآن لم تحسم تلك الدراسات والأبحاث في تحديد تاريخ بناء هذا القصر.

وذكرت أن الرواية الأولى مفادها أن من شيد قصر “خداوج العمياء” هو “يحيى رايس” عام 1570 ميلادي، والذي كان يعمل ضابطا في الأسطول البحري الجزائري.

بينما تسرد الرواية الثانية تاريخ القصر إلى “حسن خزناجي” وهو أمين الخزينة لدى داي الجزائر “محمد بن عثمان”، حيث أهداه لابنته “خديجة”، وقام بعملية توسيع القصر بشراء وضم المباني المجاورة، وفق ما قالته سامية للجزيرة نت.

“المرآة العامية”

و”خداوج” هو ما يشبه اسم التدليل أو الاسم المختصر لـ”خديجة” عند أهالي الجزائر منذ القدم.

لكن لماذا ارتبط هذا الاسم بإعاقة العمى؟

سؤال طرحته الجزيرة نت على سامية، إذ كشفت عن أسطورة حقيقية تشير إلى أن “خداوج” هي من كانت مالكة لذلك القصر وهي أميرة عثمانية من أصل جزائري.

وأوضحت أن تلك الرواية تقول إن “خداوج فقدت بصرها من كثرة تحديقها مطولا في المرآة، كونها كانت مولعة بجمالها”.

من مقتنيات قصر خداوج العمياء (الجزيرة)

هنا تدخلت “جازية” موظفة في القصر ومطلعة على “ما تيسر من حقائق تاريخية”، وأوضحت أن “هذه الأميرة كانت تعيش هنا مع والديها وأختها فاطمة، لكنها كانت الابنة المدللة عند والدها، والدليل على ذلك هذا القصر الذي أهداه إياها دون ابنته الكبرى الأخرى”.

وعن قصة تلك المرآة العجيبة التي يوجد لها أثر في هذا القصر ولا يُعرف حتى الآن مكانها أو مصيرها، أشارت جازية إلى أن المرآة كانت أيضا هدية من والدها، “لكن زجاجها كان مختلفًا فقد كان شبيهًا في لمعانه بالألماس وتحوطه زخارف جميلة لتتحول تلك المرآة إلى الصديقة المقربة من خداوج”.

وتتابع جازية سرد هذه القصة دون أن تترك لنا مجالاً لسؤالها، “خداوج كانت مغرورة بجمالها وكثيرة التحديق بالمرآة وفي كل مرة تجلس أمامها تقوم بتسريح شعرها كما اشتهر عنها عندنا هنا في القصبة أنها كانت مدمنة على تبديل ملابسها، من شدة إعجابها بنفسها وجمالها”.

جانب من قصر خداوج العمياء (الجزيرة)

ولحظة حديثها عن أسباب إصابتها بالعمى، دار نقاش بين جازية وسامية، اتفقتا في كثير من تفاصيل القصة، واختلفتا في بعضها.

لكن ما خلصت إليه الجزيرة نت منذ ذلك النقاش “مما اتُّفق عليه بينهما” أن قصة العمى لم تكن مرتبطة فقط بتلك “المرآة المنحوسة”، على حد تعبير جازية.

حيث إن قصة خداوج مع فقدان بصرها بدأت ليلة إقامة الوزير “حسان خزناجي” حفلا في قصره بالقصبة، بحضور شخصيات رسمية وسفراء عدة دول، ليتضح أن تلك الحفلة كانت “من أجل سواد عيون ابنته خداوج”، وقرر تقديمها لضيوفه بـ”شكل مبهر”، وطلب من العاملات في قصره أن يقمن بتزيين ابنته.

تزيين دام لساعات، لتخرج “خداوج” إلى ضيوف والدها، فكانت صدمتها أن “شهقت النساء قبل الرجال” من شدة جمالها، وهي “الشهقات” التي دفعتها للعودة إلى غرفتها للتأكد من هذا الجمال الذي أبهر هؤلاء الضيوف بردة الفعل تلك.

قبل أن تعود سامية لتؤكد أن لحظة نظرة “خداوج” لنفسها في تلك المرآة وهي مبهورة من جمالها ومصدومة من ردة فعل الضيوف كانت لحظة فقدانها لبصرها، ربما لأنها حسدت نفسها من حيث لا تدري، أو هو “حسد لا إرادي” من الضيوف أفقدها نعمة البصر.

وبعد نحو قرنين من وفاة خداوج وشقيقتها والابنين، قام “ميشيل كوهين بكري” وهو تاجر يهودي باستئجار القصر بعد أن قرر التنقل للتجارة من جنوى في إيطاليا إلى الجزائر العاصمة.

وخلال فترة الاحتلال الفرنسي للجزائر (1830 – 1962)، قرر”نابليون الثالث” أن يحول القصر إلى مكان إقامته مع زوجته “أوجيني”.

فيما تذكر وثيقة تعريفية داخل القصر أن أبناء الداي حسين مكثوا في القصر حتى احتلال الفرنسيين للجزائر وخصص بعد ذلك كأول مقر لبلدية الجزائر.

متحف غني

يضم دار “خداوج العمياء” عشرات التحف الفنية والآثار التاريخية بعضها مما تركته “خداوج”.

مدخل المتحف أو القصر كان عبارة عن مكان لجمع الأحصنة ومختلف الدواب، ويسمى باللهجة الجزائرية “الزريبة” قبل أن تصادفك ما تسمى أيضا بـ”الدريبة” وهي عبارة فناء يجبر فيه الداخل إلى القصر على الاغتسال بحنفيته قبل الدخول إلى ما يسمى كذلك بـ”السقيفة” كما كان معمولاً به في القدم في الجزائر.

مطرزات قصر خداوج العمياء (الجزيرة)

و”السقيفة” تشبه المدخل الطويل في الهندسة المعمارية الحديثة وهي ممر طويل لكن بسقف سميك جدا تعلوه قُبب لينتهي بأقواس جدارية على شكل حلزوني تحملها أعمدة من الرخام.

آثار وتحف عتيقة

ويحتوي قصر “خداوج العمياء” أو “المتحف الجزائري للفنون والتقاليد الشعبية” على عدة آثار ومنحوتات وأثاث ومزهريات، وقطع نحاسية وفضية ومن الفخار.

أول ما يشد انتباه الزائر معصرة زيت الزيتون، حيث تذكر لافتة تعريفية داخل المتحف بأنها آلة تسمى “المعصرة” من منطقة “قرقور” التابعة لولاية سطيف شرقي الجزائر، ويعود تاريخها إلى القرن التاسع عشر.

مقتنيات أثاث بقصر خداوج العمياء (الجزيرة)

ومن أغرب ما يُعرض في قصر “خداوج العمياء” “خزان الحبوب” المعروف باللهجة الجزائرية بـ”المطمور” والذي تم اكتشافه خلال أعمال ترميم نهاية القرن التاسع عشر.

كما يوجد بالقصر العتيق جناح خاص بـ”مطرزات خداوج” وتضم مجموعة من السجاد والخمارات التي كانت تستعملها الأميرة “خداوج” والمصنوعة وفق الطريقة التقليدية الجزائرية.

أما الطابق الثاني من القصر، فيحتوى على قاعة للأثاث و”قاعدة القعدة” وهي الغرفة الشخصية لـ”خداوج”، وكذا قاعة أخرى للفن التطبيقي.

خزان حبوب مطمور تم اكتشافه في قصر خداوج العمياء (الجزيرة)

ومن بين الأثاث الموجود في هذا الطابق ما يعود منه لـ”محمد حامينومنا” من أسِّرة للكبار والأطفال وخزائن للعرائس حيث استنبط أشكاله من التراث الجزائري والإسلامي الذي ورثه من عائلته.

المصدر: وكالات + الجزيرة نت

Share.

صحفية عراقية من اربيل خريجة وزارة الاعلام في اربيل سنة 2004

Comments are closed.