من يقرأ كتاب لورنس “أعمدة الحكمة السبعة” يقف متعجبا أمام بدائعه وأنماط فصاحته، هذه الأنماط التي تدخل لورنس في عداد الكُتاب الكلاسيكيين العظام. إذ إن لورنس جيد الوصف والسرد معا، له في نقل تفاصيل الواقع الجغرافي واستبطان النفس البشرية ما ليس لكثير من الكتاب في تاريخ الأدب البريطاني. ولعل تمكن لورنس من فن الكتابة وشغفه الكبير بالحكي هو ما جعله يدخل التاريخ من أبوابه الواسعة، متميزا عن أقرانه ممن عاينوا أحداث الحرب العالمية الأولى وعاشوا ويلاتها.

يوم 31 مايو/أيار 1991، كُتب لي أن أحضر محاضرة بمكتبة “إف إن إيه سي” (FNAC) فرع شارل ديغول في باريس، وكانت المحاضرة من إلقاء جيريمي ويلسون (Jeremy Wilson) كاتب سيرة لورنس المعتمد، وموريس لاريس (Mauris Larès)، صاحب أشهر أطروحة كُتبَتْ حول علاقة لورنس بالفرنسيين.

بقدر ما اجتهد ويلسون في إضفاء صفة الحقيقة على مغامرات لورنس في الجزيرة العربية، وبقدر ما اجتهد لاريس في إثبات أنه كان صديقا لفرنسا وللفرنسيين، كان الحضور يسأل عن شخصية لورنس: هل كان إنسانا عاديا، أم كان مريضا نفسانيا، هل كان شاذا؟ أم صادقا؟ أم كذّابا؟

حين جاء دوري لأخذ الكلمة، تساءلت مستغربا كيف يمكن أن نغفل عن أن الباعث من وراء كتابة “أعمدة الحكمة السبعة” كان أدبيا في المقام الأول، وأن حلم لورنس، كما ترشح بذلك رسائله، كان “إضافة كتاب رابع يكون تتمة للكتب الثلاثة العظام في تاريخ الأدب الغربي بحسبه”، وهي “هكذا تكلم زرادشت” لنيتشه، و”موبي ديك” لميلفل، و”الإخوة كارامازوف” لدوستويفسكي.

ضاقت نفس المحاضرَين بسؤالي، فسارعا إلي إيقافي بطريقة فظة، مما فوّت عليّ الاسترسال في الكلام. جعل ويلسون يجيبني وهو يشيح عني بوجهه متطلعا إلى سؤال آخر من القاعة، وكأن سؤالي لا يستحق الوقوف عنده، يقول: “صحيح أن لورنس كاتب عظيم، غير أن هذا لا ينفي أنه كان صانع ملوك (Kingmaker) كذلك”، مشيرا إلى أنه هو من أجلس الأمير فيصل بن الشريف حسين على العرش في سوريا.

أقل ما يمكن أن نقول ونحن نقرأ ما يكتب لورنس، إن أحسنا به الظن، هو أن الغفلة قد بلغت به كل مبلغ، بحيث كان يعمى عن مشاريع بريطانيا في المنطقة، إلى درجة أصبحت عندها نفسه تسول له التفكير بمفرده في التخطيط لإرساء دعائم الأمة العربية القومية

أُعطِيَت الكلمة لشخص آخر وتُرِكْتُ أنا واقفا أنتظر حقي في إتمام السؤال، بينما مُسيِّر الجلسة ينظر إليّ شزرا، مما اضطرني إلى الانسحاب، علامة على الاحتجاج. مثلت هذه المحاضرة أول محك حقيقي مكنني من الوقوف عند طبيعة الصراع الخفي الذي كنت أدرك وجوده من دون أن ألمسه في الواقع؛ صراع بين من يريد أن يقرأ “أعمدة الحكمة السبعة” قراءة أدبية فنية شعرية، ومن يريد أن يتخذ الكتاب وثيقة تاريخية.

يُلِحّ لورنس في مقدمة “أعمدة الحكمة السبعة” على أنه لا يقدم للقارئ حقيقة الثورة العربية، ولا يملك أن يحيط بملابساتها، وأنه في سرده لأحداث هذه الثورة يعبّر عن وجهة نظر شخصية، من منطلق معاينته لبعض التفاصيل الصغيرة. ومع هذا يأبى جيريمي ويلسون ونظراؤه، وهم كثر، إلا أن يرفعوا لورنس إلى درجة الناطق الرسمي باسم الثورة العربية، المعبر عن طموحات الشعوب العربية التحررية والصانع لأمجادهم البطولية.

أيقنت -وأنا أقلب النظر في رسائل لورنس- أن هناك فرقا شاسعا بين لورنس الأديب الرومانسي الحالم، المهووس بالإبداع، الوارث لنفس القلق الوجودي الذي كان يتخبط فيه أبناء جيله المنشطرون بين قيم القرن الـ19 وقيم القرن الـ20، وبين لورنس رمز البطولة صنيعة الإعلام الأميركي والسياسة البريطانية.

يغلب الظن عندي أن دور لورنس في مجريات أحداث الثورة العربية كان دورا بسيطا جدا، وأن الذي كان وراء تضخيم هذا الدور هو لويل طوماس (Lowell Thomas)، الصحفي الذي أنيط به تصوير “مغامرات لورنس البطولية رفقة العرب التواقين للخروج عن طوق الإمبراطورية العثمانية”، حتى يتسنى تحسيس المجتمع الأميركي لأهمية الانخراط في الحرب العالمية الأولى إلى جانب الحلفاء، لنصرة قضايا الشعوب المستضعفة العادلة حسب زعمهم.

ثم جاءت بعد ذلك “ندوة فيرساي”، بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، حيث استدعي لورنس للنطق باسم الشعوب العربية، الأمر الذي سهَّل عليه من بعد التمادي في تقمص دور البطل الذي كان يسعى -حسب زعمه- إلى تمكين الشعوب العربية من بلوغ حلمها في إرساء قوميتها على أسس متينة، لولا ما آلت إليه الأمور، ولولا أن بريطانيا لم تطعنه في ظهره بتنكرها لطموحات هذه الشعوب المشروعة.

أقل ما يمكن أن نقول ونحن نقرأ ما يكتب لورنس، إن أحسنا به الظن، هو أن الغفلة قد بلغت به كل مبلغ، بحيث كان يعمى عن مشاريع بريطانيا في المنطقة، إلى درجة أصبحت عندها نفسه تسول له التفكير بمفرده في التخطيط لإرساء دعائم الأمة العربية القومية.

هذا الكلام لا معنى له إلا حين نحمله على أنه ضرب من الخيال الذي يمتزج في “أعمدة الحكمة السبعة” بالواقع. لم يكن لورنس يعنى بشيء قدر عنايته بتوظيف الحدث التاريخي لإتمام سرديته الأدبية، التي كان يريدها سردية تضاهي في عمقها وجمالها ما كتبه نيتشه وميلفل ودوستويفسكي. إن الأخبار الواردة في “أعمدة الحكمة السبعة” لا تقاس بمقياس الصدق والكذب، أو مقياس الخطأ والصواب، بل بمقاييس فنون السرد وبمدى خدمتها الحبكة الروائية وانصهارها بسلاسة مع وشائج النص الأدبي.

لو افترضنا حرص لورنس على إرساء القومية العربية على أسس متينة، كما نجد في النص الأدبي، فكيف نفسر ذهابه إلى ما يناقض هذا القول، إذ يبوح في إحدى رسائله بما يلي: “العرب أكثر تقلبا وأقل استقرارا من الأتراك؛ لو نحسن التحكم فيهم، فسيظلون في حال الفسيفساء السياسية، عبارة عن إمارات صغيرة متحاسدة”. نستفيد من هذا الكلام أنه يتعذر علينا استخلاص موقف واضح للورنس من قضايا العرب.

لقد حاول أن يوهم ذاته ويوهم القارئ الغربي معه بأنه كان يقوم بدور محوري، دور الفرد البطل الذي يتوقف عليه مستقبل أمة بأكمله، غير أن القرائن كلها تدل على أنه لم يكن إلا أداة صغيرة في يد قوة عظمى كانت تخطط لمستقبل الشرق الأوسط، هذه القوة التي منحته فرصة تقمص البطولة الأدبية، لتظفر هي بالمكاسب الجيوستراتيجية.

يمكننا أن نختصر فنقول بأن ولاء لورنس للمؤسسة السياسية والعسكرية البريطانية من جهة، وانجذابه نحو الصحراء بوصفها فضاء إسقاط ثقافي ووجودي، جعله ينشد التوفيق بين شيئين متناقضين لا يلتقيان: القومية العربية من ناحية، ومطامع بريطانيا الاستعمارية من ناحية أخرى.

كان من نتائج اجتهاده لبلوغ هذا التوفيق أنه خلّف وراءه صورة عن القومية العربية هي أقرب إلى “الكاريكاتير” منها إلى شيء آخر. لقد استطاع بفضل قلمه أن يختزل كل ما كان يختصم في واقع الأمة العربية والإسلامية المعقد من تيارات دينية وعلمانية، ثقافية وسياسية، تراثية وحداثية، في لحظة مفصلية، هي لحظة لقائه بفيصل، الذي توسم فيه الزعامة والقدرة على تحقيق كل طموحات الأمة القومية.

تعج رسائل لورنس الكثيرة بتصريحات متناقضة حول القضية العربية إلى درجة تجعلنا نوقن بأن الرجل لم يكن يملك موقفا سياسيا بخصوص هذه القضية، وإنما هي حالات شعورية نفسية تختلف باختلاف سياق التخاطب وحسب ملامح مخاطبيه الشخصية. وبهذا الاعتبار تجوز الدعوة إلى القطع مع القراءات التقليدية التي ظلت تنشد الظفر بحقيقة “القومية العربية” أو الحقيقة التاريخية من خلال عمل لورنس الفني الأدبي.

إن التمييز بين الصواب والخطأ، أو بين الصدق والكذب في مغامرة لورنس في الصحراء يقتضي التمييز -على مستوى المنهج- بين قراءتين: القراءة الجيوسياسية التي تدعونا إلى فهم مغامرة الفرد لورنس في ضوء الأطماع السياسة الإمبريالية كما كانت تجسدها الإمبراطورية البريطانية آنذاك، والقراءة الجيوشاعرية التي تدعونا إلى فهم تجربة لورنس في ضوء تجارب سابقيه.

كثيرا ما نغفل أن لورنس ظل يكن احتراما منقطع النظير لتشارلز داوتي (Charles Doughty) صاحب كتاب “الترحال في صحارى العرب” (Travels in Arabia Deserta)، هذا الرجل الذي كان يرى في تجديد علاقته بالصحراء ما يجدد إحساس المسيحيين بلغة الكتاب المقدس.

عوض البحث عن حقيقة العالم العربي والشعوب العربية في “أعمدة الحكمة السبعة”، يمكننا البحث، من خلال هذا الكتاب وسيرة صاحبه، عن حقائق متعلقة بحالة المجتمعات الأوروبية الثقافية، وبإمبراطوريات متحاربة في ما بينها، حولّت الفضاء العربي، وفضاءات أخرى، إلى ميدان من ميادين صراعها.

(يتبع)

المصدر: وكالات + الجزيرة نت

Share.

صحفية عراقية من اربيل خريجة وزارة الاعلام في اربيل سنة 2004

Comments are closed.