يتساءل البعض عن الآثار طويلة المدى التي قد تتسبب فيها الأوبئة على البشر. وقد توفر دراسة الطاعون الأسود بعض الأدلة على وجود تأثير مستمر لهذه الأوبئة على أنظمة البشر المناعية

كشفت دراسة بحثية حديثة نشرت في دورية “نيتشر” (Nature) في 19 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، أن الطاعون الأسود الذي اجتاح أوروبا في القرن الـ14 ما زال يحمل تأثيرات على بيولوجية أجسامنا في الوقت الحالي.

وقد حللت الدراسة -التي قادها باحثون من جامعة “ماكماستر” (McMaster University) و”شيكاغو” (University of Chicago) ومن معهد “باستور” (Pasteur Institute) وبعض المؤسسات العلمية الأخرى- الحمض النووي للضحايا وكذلك الناجين من هذه الجائحة أملا في معرفة الجينات الرئيسة التي ساعدت البعض على اجتياز الجائحة، كما عمد الباحثون من خلال دراسة هذه الفروق إلى معرفة الكيفية التي تطورت بها أنظمتنا المناعية منذ ذلك الحين.

العلماء استخرجوا 500 عينة حمض نووي من رفات الأفراد الذين ماتوا أو نجوا من الطاعون (مات كلارك – جامعة ماكماستر)

ارتباط بين الأمس واليوم

اجتاح الطاعون الأسود جميع أنحاء أوروبا في الفترة بين عامي 1347-1352، ولا يزال أكبر حدث مسجل لتعداد الوفيات البشرية، والذي أودى بحياة ثلث إلى نصف سكان القارة الأوروبية. وقد انتشرت أوبئة مشابهة في الفترة ذاتها في آسيا والشرق الأوسط، ما يشير إلى أن هذا الوباء كان جزءا من وباء عالمي واسع الانتشار.

وقد أشار الباحثون في دراستهم إلى أن الجينات التي وفرت الحماية من الطاعون الأسود هي ذاتها التي ترتبط اليوم بزيادة احتمالية الإصابة بأمراض المناعة الذاتية مثل التهاب المفاصل الروماتيدي وداء كرون (وهو أحد أنواع أمراض الأمعاء الالتهابية).

وللوصول إلى هذه النتائج، ركز الباحثون تحليلاتهم على فترة امتدت لـ100 عام قبل وأثناء وبعد جائحة الطاعون الأسود. وقد استخرج العلماء 500 عينة حمض نووي قديمة من رفات الأفراد الذين ماتوا قبل الطاعون، أو ماتوا بسببه (جمعت عيناتهم من رفات قبور الدفن الجماعية التي خصصت لضحايا الطاعون في شرق سميثفيلد في الفترة بين عامي 1348-1349)، أو نجوا منه وتوفوا في وقت لاحق بعد ذلك في لندن. كما جمعت عينات أخرى من 5 مواقع في الدانمارك.

والجدير بالذكر أن بكتيريا اليرسينية الطاعونية (Yersinia pestis) -التي تصيب البشر عن طريق برغوث الجرذ الشرقي- كانت هي العامل المُمرِض المسبب للطاعون الأسود. ولذا، فقد قام الباحثون بدراسة التكيفات الجينية التي نتجت عن الإصابة بهذه البكتيريا.

وقد قادهم ذلك إلى التعرف على 4 جينات تشارك جميعها في تخليق بروتينات تدافع عن أجسامنا من مسببات الأمراض. وقد وجد الفريق أن نُسَخا من هذه الجينات إما كانت توفر الحماية أو تجعل المرء أكثر عرضة للإصابة بالطاعون.

النسخ المتطابقة من الجين سمحت بإبطال بكتيريا اليرسينية المسببة للطاعون (مواقع إلكترونية)

آلية الحماية

وقد نجا الأشخاص الذين يملكون نسخا متطابقة من جين محدد معروف باسم (ERAP2) من الوباء حينها، وذلك بمعدلات أعلى بكثير مقارنة بالأشخاص الذين يملكون نسخا متضادة من هذا الجين، إذ سمحت النسخ المتطابقة من الجين بإبطالٍ أكثر فاعلية لبكتيريا اليرسينية الطاعونية، وذلك من خلال الخلايا المناعية.

وبحسب البيان الصحفي الذي أصدرته جامعة “ماكماستر” تعقيبا على الدراسة، يذكر عالم الوراثة التطورية في الجامعة وقائد الدراسة هندريك بوينار أنه “عندما تحدث جائحة تودي بحياة 30 إلى 50% من السكان، فإن نسخ الجينات المقاومة في البشر سيتم تفضيلها اختيارا. ولكن هذا لا يعني أن أجساد الأشخاص الأكثر عرضة للإصابة بالمُمرِضَات سوف تستسلم”.

في البداية، كان الأوروبيون الذي عاشوا في وقت الطاعون الأسود أكثر عرضة للمرض، إذ إن أجسامهم لم تتعرض من قبل لهذه البكتيريا حتى تُحَصّن أنظمتهم المناعية ضدها. ومع تكرار حدوث موجات الوباء على مدار القرون التالية، انخفضت معدلات الوفيات وذلك لأن الجسم قد عزز آلياته الدفاعية ضد الإصابة بهذه البكتيريا.

الأشخاص الذين امتلكوا نسخا متطابقة من جين ERAP2 كانوا لديهم فرصة أكبر للبقاء أحياء (متحف آثار لندن وجامعة ماكماستر)

واقيات الأمس مُمرِضاتُ اليوم

وقد قدر الباحثون أن الأشخاص الذين امتلكوا نسخا متطابقة من جين (ERAP2) كانوا أكثر فرصة للبقاء أحياء بنسبة 40 إلى 50% من غيرهم.

وتعتبر هذه الميزة الانتقائية لبعض مواقع الجينات من بين أقوى الميزات التكيفية التي اكتشفت في البشر، إذ “تظهر كيف يكون لمُمرِض واحد أن يُحدِث هذا التأثير القوي على جهازنا المناعي”، وذلك حسبما يقول عالم الوراثة في جامعة شيكاغو والمؤلف المشارك في الدراسة لويس باريرو.

وبمرور الوقت، تطورت أنظمتنا المناعية لِتُحدِثَ استجابات مختلفة لمسببات الأمراض، غير أن ما كان يوما يعد جينا وقائيا ضد الطاعون في العصور الوسطى، بات اليوم مرتبطا بزيادة التعرض لأمراض المناعة الذاتية.

ويختتم بوينار بأن “فهم الآليات التي شكّلت جهاز المناعة البشري يعد مفتاحا لفهم الكيفية التي قد تسهم بها الأوبئة السابقة -كالطاعون- في زيادة تعرضنا للأمراض في العصر الحديث”.

المصدر: وكالات + الجزيرة نت

Share.

صحفية عراقية من اربيل خريجة وزارة الاعلام في اربيل سنة 2004

Comments are closed.