ظهر مصطلح “فقه الأقليات المسلمة” في تسعينيات القرن الماضي، وقد أوردت عليه جملة انتقادات في 3 مناسبات على الأقل، كانت الأولى في بروكسل في مايو/أيار 2015 ضمن ندوة عقدها المجلس الأوروبي للعلماء المغاربة عن “أثر الواقع الأوروبي في تشكيل المنظومة الفقهية المؤطرة للحضور الإسلامي في أوروبا”، ثم في الكلية الأوروبية للدراسات الإسلامية في فرانكفورت، ومؤخرا في المركز الإسلامي بمانشستر ضمن ندوة خاصة عن “أثر الخطاب الديني المستورد في مسألة الاندماج”.

وقد أبدى بعض المهتمين رغبة في أن أدوّن في ذلك شيئا، ولهذا سأخصص 3 مقالات أقدم فيها رؤية نقدية لما سمي “فقه الأقليات المسلمة”، أتناول في أولها المفهوم والرؤية المؤسِّسة له، وفي الثاني أبين أوجه نقدي للأساس المنهجي الذي قام عليه هذا الفقه الخاص، وفي الثالث أختم بالحديث عن الفقه العام وضرورة تجديد منهج النظر عوض اقتطاع جزء منه للأقليات المسلمة في الغرب.

يمكن تناول “فقه الأقليات المسلمة” من خلال أحد نظرين:

  • الأول: نظر اجتماعي يرصد القدرة على التلاؤم أو المواءمة بين التراث الفقهي والواقع الأوروبي عبر تقديم صيغ جديدة تحاول بعثه في مجتمع مفارِق للمجتمع الذي نشأ له، وفيه الفقه التاريخي (أو الموروث)، وهذا النظر أليق بمناهج العلوم الاجتماعية، لأنه يركز على أثر السياق الاجتماعي في ظهور صيغ التلاؤم بين الموروث التاريخي والواقع المعاصر أكثر من تركيزه على الخطاب نفسه، أي أنه يبحث في أشكال الاستجابة للزمن الجديد ودواعيها والصياغات الناتجة عنها والأدوات المعينة على تحقيقها أو المستعملة في إنجازها.
  • الثاني: نظر معرفي يهدف إلى تحليل الأساس المعرفي الذي يقوم عليه “فقه الأقليات المسلمة” أو ما يشبه نظرية القانون، لفحص معقولية هذا الفقه الخاص ووجاهة أطروحاته واختبار خصوصيته ومدى اتساقه وخلوه من التناقضات وما إذا كانت مداخله المنهجية المقترحة صالحة لتحقيق أهدافه وغاياته، ولفحص قدرته على التمييز بين ما هو معرفي وما هو دعوي في تناوله مسائله وموضوعاته (أو لنقل فروعه)، وهذا النظر الثاني هو ما أنشغل به هنا، لأنه أليق بحقل الدراسات الإسلامية عموما وبميدان الفقه خصوصا بوصفه صنعة (أو تخصصا علميا)، وهذا النظر يلائم أيضا أطروحة “فقه الأقليات المسلمة” وسمة المشتغلين به أو المنظّرين له، فهو إذن نظر يقف على أرضية منتجي هذا الفقه الخاص ويناقشهم وفق مرجعياتهم وبالاستناد إلى موروث الفقه الإسلامي وقواعده وآلية اشتغاله، فلنبدأ بعد هذه المقدمة النظرية بمناقشة مفهوم “فقه الأقليات المسلمة”.

أثار هذا الاصطلاح جدلا كبيرا، الأمر الذي يفسر توقف عامة من كتبوا فيه عند الاصطلاح والتسمية في محاولة لتسويغها وإيضاح مستندها من الناحيتين اللغوية والاصطلاحية، ولكن المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث استقر في ما بعد على “صحة” استعمال مصطلح “فقه الأقليات المسلمة”، أضف إلى ذلك أنه قد جرى استعماله في الخطاب المعاصر، خاصة في الكتابات التي تناولت موضوع المسلمين في أوروبا عامة من حيث إن المجلس الأوروبي للإفتاء تحوّل إلى ما يشبه المرجعية الفقهية التي تحاول الإجابة عن الأسئلة التي تُهم المسلمين فيها، خاصة من منظور هذا الفقه الخاص.

يمكن رد مسوغات تسمية “فقه الأقليات المسلمة” -في نظر أصحابها والمتبنين لها- إلى مسألتين مركزيتين:

  • الأولى من جهة اللغة، ومفادها أن الإضافة اللغوية تقع لأدنى سبب، كإضافة الضحى إلى العشية في قوله تعالى ﴿إلا عشية أو ضحاها﴾، ومن ثم فإضافة الفقه هنا إلى الأقليات هي من نوع الإضافات التي يراد بها تمييز المضاف وتخصيصه، وهي من نوع الإضافة شبه المحضة، بحسب الشيخ عبد الله بن بيه.
  • الثانية من جهة الاصطلاح، فلا مُشاحّة في الاصطلاح، فتقسيم الفقه بحسب موضوعاته أمر شائع كتسمية الفقه الطبي والفقه الاقتصادي والفقه السياسي وهكذا، ومن ثم فإن المراد هنا أن هذه الفئة المخصوصة من الناس (أي الأقليات المسلمة) لها أحكام تخصها نظرا لظروف الضرورات والحاجيات التي تعتريها، بحسب الشيخ يوسف القرضاوي رحمه الله تعالى.

ولكن تسمية “فقه الأقليات” تكتنفها -في رأيي- إشكالات عدة، أبرزها ثلاثة:

  • الأول: أننا لسنا هنا أمام إشكال لغوي حتى نبحث في صحة التسمية من جهة اللغة والاستعمال الصناعي على طريقة بن بيه، وإنما هو إشكال اصطلاحي وفكري كما سيتضح لنا في ما بعد.
  • الثاني: أن تقسيم الفقه بحسب الموضوعات أو الأبواب أمر شائع كما قال القرضاوي، ولكن تقسيمه بحسب الجماعات أو بناء على الجغرافيا أمر مختلف تماما من الناحية المنهجية، ومن ثم فإن الحجة التي حاول القرضاوي تقديمها هنا لتسويغ التسمية لا تستقيم، ثم إن تسمية “فقه النساء” أو “أحكام النساء” تسمية بباب من أبواب الفقه العام يدور حول عموم النساء في كل مكان وزمان في ما يخصهن وحدهن من أحكام عُلِّقت على وصف منضبط هو كونهن نساء، وهذا ليس نوعا مستقلا من الفقه ينفرد عنه بمزية أو خصوصية أو قاعدة كما هو الزعم في ما سمي فقه الأقليات المسلمة.
  • الثالث: أن ما أود قوله -بناء على ما سبق- هو أن تسمية “فقه الأقليات” اصطلاح يعبر عن رؤية إشكالية لم تُبحث بشكل نقدي من قبل منظّري هذا الفقه الخاص، وهي مسلّمة الخصوصية لجماعة أو جماعات مسلمة بعينها تعيش في أوروبا على وجه الخصوص أو في الغرب عامة، وتكاد هذه المسلّمة تختصر أطروحة “فقه الأقليات المسلمة” وتفسر انشغالات القائمين عليه وطريقة تفكيرهم في التوسعة على مسلمي الغرب أحيانا، والتضييق عليهم في أحيان أخرى رغم ما انطوى عليه الفقه الإسلامي الموروث من سعة في هذا الذي ضيّقوا عليه فيه، ولكن تلك الخصوصية المفترضة فرضت مجموعة من الشعائريات التي تتعلق بالهوية التي يراد صياغتها لجماعة المسلمين في الغرب كما في مسألة الطعام الحلال مثلا، ولعلي أخصص لهذه الجزئية مقالا في المستقبل.

لقد جرى تجاهل هذا الإشكال الثالث (أي مناقشة الرؤية التي قام عليها فقه الأقليات المسلمة) في كتابات منظّري هذا الفقه الخاص، وهو المقصود بتقديم هذه الرؤية النقدية في هذه السلسلة، ففيما يخص المفهوم والرؤية لا بد من تسليط الضوء على 5 نقاط مركزية كالآتي:

  • النقطة الأولى: تقوم مسلّمة الخصوصية على 4 افتراضات هي محل إشكال، سواء من جهة الواقع أم من جهة الفقه، وهي بحسب مجموع كلام منظّري فقه الأقليات، خاصة الأساتذة القرضاوي وبن بيه وعبد المجيد النجار:
    1. خصوصية “المغلوبية الحضارية” التي تسم علاقة المسلم بالغرب.
    2. خصوصية الإلزام القانوني من حيث إن الأقليات المسلمة مضطرة للتعامل وفق أنظمة المجتمع وقوانينه.
    3. خصوصية الضعف النفسي والضغط الثقافي.
    4. خصوصية التبليغ الحضاري الرسالي كما عبر عن ذلك النجار على وجه التحديد.
  • النقطة الثانية: أن أوجه الإشكال في هذه الخصوصيات المفترضة تتلخص في أنها تقوم على رؤية أيديولوجية تخلط بين الجماعة المسلمة والجماعة الإسلامية، وبيان ذلك من أوجه:
    – الأول: أن هذه الخصوصية تضفي على الوجود الإسلامي في الغرب أغلال علاقة المسلمين مع الغرب (المغلوبية الحضارية بتعبير عبد المجيد النجار) رغم أن عدد المسلمين الغربيين في تزايد مستمر، وهم ممن لا ينطبق عليهم معيار “الهجرة” الذي يسم التفكير في فقه الأقليات، وأن أبناء المهاجرين صاروا مواطنين غربيين: ثقافة وتعليما ونمط حياة، أي أنهم أيضا ليسوا مهاجرين وإن كان آباؤهم أو أجدادهم من المهاجرين.
    – الثاني: أن مسلّمة الخصوصية تفترض وجود تعارض تام بين القوانين الغربية وبين الشريعة الإسلامية، وهو فرع عن مقولة تطبيق الشريعة التي تتخذ صيغة قانونية في تفكير جماعات ما سمي “الإسلام السياسي”.
    – الثالث: أن مسلّمة الخصوصية تكاد تمزج بين الديني والثقافي رغم أن الإسلام اختلط عبر تاريخه المديد بثقافات عديدة (عربية وفارسية وتركية وغيرها) وأفرز أنماطا متعددة من التدين بحسب هذه الثقافات رغم بقاء جوهره ثابتا، والثقافة -كما هو معلوم- أحد مكونات الهوية، مما يجعل من الحديث عن هوية واحدة ثابتة أمرا محل إشكال هنا.فالتفكير بمنطق “الأقلية” يحول -مثلا- دون مساهمة المسلمين أنفسهم في تشكيل هويات بلدانهم الجديدة التي أصبحوا مواطنين فيها أو هم جزء منها ولكنهم تحولوا إلى الإسلام، فالغربيون الذين أسلموا هم أبناء تلك الثقافة نفسها، وهم في غنى عن أن يرثوا مثل هذه التوترات الأقلية ممزوجة بالعقيدة الإسلامية، في حين أن هذه التواترات هي مسائل ثقافية تم استصحابها من البلدان الأصلية للمهاجرين وعاداتهم، وهنا يثور إشكال جديد حول “العرف” في السياق الأوروبي الذي يأخذ مساحة مهمة في الفقه الإسلامي، سواء في العلاقات الاجتماعية أم في المعاملات المالية، فعرف من يُحتَكم إليه؟ وما الذي يشكل العرف في السياق الأوروبي؟ هذا بحاجة إلى نقاش منفصل ليس هنا مجاله.
    – الرابع: أن خصوصية التبليغ الحضاري والرسالي المفتَرَضة تقوم على افتراض وجود “الجماعة الإسلامية” -بالمعنى السياسي- الممثلة عن “الأمة الإسلامية”، وهو تحميل للمسلمين الغربيين أعباء لا تلزمهم وليست في طاقة جميعهم.
  • النقطة الثالثة: أنني لا أفهم كيف يمكن الجمع بين خصوصية الضعف النفسي والضغط الثقافي والمغلوبية الحضارية من جهة، وبين خصوصية التبليغ الحضاري الرسالي من جهة أخرى، وقد جمع بينهما الأستاذ عبد المجيد النجار.
  • النقطة الرابعة: أن مسلّمة الخصوصية تجعل من وضع جماعات مسلمة في عموم أوروبا -على اختلاف أوضاعها وأحوالها وثقافاتها وقوانين بلادها الأوروبية- وضع ضرورة، فيكون أفرادها جميعا من أصحاب الأعذار ويستحقون أن يُفرد لهم فقه خاص، إذ وضعهم ليس وضعا طبيعيا بل وضع طوارئ، ومن ثم فإن مسلّمة الخصوصية تؤسس لفقه الاستثناء لا انتماء المسلمين في الغرب إلى بلدانهم الغربية نفسها والعيش في زمانهم وله بما لا يناقض عقيدتهم وشريعتهم على أقل تقدير (فنفي التناقض هو الحد الأدنى والحرص على الموافقة هو الحد الأعلى)، وفي الفقه الإسلامي من السعة والتعددية ما يفي بكثير من أوضاع الناس على اختلاف أزمنتهم وأمكنتهم التي يعيشون فيها.
  • النقطة الخامسة: أنه جرى تضخيم مسلّمة الخصوصية من أجل بناء الفكرة المركزية لفقه الأقليات المسلمة، وهي أن وضع هذه الجماعة المسلمة في الغرب هو وضع “ضرورة بالمعنى العام”، مما يعني أن الضرورة هنا تشمل درجة الضرورة ودرجة الحاجة العامة التي تُنزّل منزلة الضرورة بحسب اصطلاح الفقهاء، وهذا كان مقدمة للتوصل إلى بناء فقه الاستثناء من عموم الفقه العام ومن عموم أحوال المكلفين، أي أن “خصوصية الوجود” المسلم في السياق الأوروبي على وجه الخصوص قادت إلى خصوصية “الأحكام الفقهية” التي يجمعها هذا الفقه الخاص رغم أن وضع الضرورة لا يُعد فقها أصلا، فمن تَلبس بضرورة لا خيار أمامه إلا ارتكابها إن كانت فعلا ضرورة من دون الحاجة إلى فتوى مفتٍ أو البحث عن مدرك أو تعليل، فالضرورة بيّنة بنفسها وتستمد مشروعيتها من كونها ضرورة وتُقدّر بقدرها، والأمر في تقديرها متروك إلى المكلفين أنفسهم وأماناتهم.

    هل الانتماء الديني مرادف للهوية؟ وما أثر المكونات الثقافية والاجتماعية والأعراف في تشكيل هوية فرد أو جماعة ما؟

تعتمد الرؤية التي قامت عليها تسمية “فقه الأقليات” إذن على 3 اعتبارات:

– الاعتبار الأول: مركزية البعد السياسي من حيث تسمية “الأقليات”، فالأقليات مصطلح سياسي في الأغلب، ولا يَغفل منظّرو فقه الأقليات المسلمة عن هذا البعد، ومن هنا كان أحد مستندات قرار المجلس الأوروبي للإفتاء في صحة استعمال “فقه الأقليات” هو أن “العرف الدولي يستعمل لفظ (الأقليات) كمصطلح سياسي يُقصد به مجموعات أو فئات من رعايا دولة تنتمي من حيث العرق أو اللغة أو الدين إلى غير ما تنتمي إليه الأغلبية”.

وأعني بمركزية السياسي هنا أن مبدأ تعريفهم وتحديد وضعهم قائم على أساس أنهم جماعة دينية، وأن وصفهم أقلية يتحدد بناء على موقعهم من السلطة القائمة، وأنهم في وضع حياة جديد هم فيه جماعة “تابعة لا متبوعة، مغلوبة لا غالبة” بحسب تعبير عبد المجيد النجار، رغم أن مثل هذا التصور محل إشكال بالنظر إلى طبيعة تشكل السلطة في الدول الأوروبية، وأنه لا يحتكم إلى مبدأ القلة والكثرة وإنما إلى دولة القانون والمؤسسات، ويقوم على مفهوم المواطنة العلماني أصالة.

– الاعتبار الثاني: مركزية الجغرافيا -وهي هنا الغرب- التي يأخذ التعبير عنها صيغا مختلفة، بعضها معاصر وبعضها تاريخي (مثل تعبير دار الكفر الذي يقاس عليه ويحضر في خلفية عدد من النقاشات الفقهية الخاصة بالسياق الأوروبي).

ففقه الأقليات -حسب تعريف المجلس الأوروبي للإفتاء- “هو الأحكام الفقهية المتعلقة بالمسلم الذي يعيش خارج بلاد الإسلام”، ولكن هذا “الخارج” لا يشمل -سواء بحسب عمل المجلس أم بحسب كتابات منظّري فقه الأقليات المسلمة- إلا الأقليات المسلمة في الغرب دون الشرق، بل إن كتابات القرضاوي وبن بيه والنجار وغيرهم صريحة في التركيز على الوجود الإسلامي في الغرب حصرا، والذي شكل قسما مؤثرا منه هجرة المعارضة السياسية التي تنتمي إلى جماعات الإسلام السياسي الفارة من أنظمة البطش العربية والإسلامية، ولهذا يأخذ الحديث عنه أبعادا سياسية وحضارية وثقافية ناجمة عن توترات العلاقة مع الغرب المهيمن سياسيا وثقافيا.

– الاعتبار الثالث: التميز والتمايز، فهذه الأقليات لها هويتها الخاصة إلى جانب خصوصية وضعها، ويُحيل سياق نشأة “فقه الأقليات” إلى أنه جزء من خطاب الهوية الذي ساد منذ ثمانينيات القرن الماضي في مواجهة الأنظمة العربية (أنظمة ما بعد الاستعمار)، وفي مواجهة الغرب الاستعماري والثقافي، ولذلك يحيل القرضاوي مثلا بزوغ هذا الفقه إلى شعور المسلمين في أوروبا بذاتيتهم، وانتشار الصحوة الإسلامية، وحلّ المشكلات الناجمة عن ذلك، ولذلك يغدو من الضروري الحفاظ على “كيانهم” و”الانتماء الإسلامي” و”الهوية الإسلامية” و”الهوية الدينية” ومتطلباتها.

ويكثر الحديث عن “الهوية” والحفاظ عليها في إطار الحديث عن “فقه الأقليات المسلمة” عند عامة من كتب فيه، ربما باستثناء بن بيه الذي لم أره يستعمل تعبيرات “الهوية” و”الذاتية” و”الانتماء”، ولكنه يقف عند حدود التحديات التي تواجه المسلم في مجتمع مادي على المستوى الفردي (العقيدة والعبادة) وعلى المستوى الجماعي (الأسرة والقوامة والعلاقة بالآخر).

ولكننا لا نجد تحديدا واضحا للمراد بالهوية هنا، وهل الدين أو الانتماء الديني مرادف للهوية؟ وما أثر المكونات الثقافية والاجتماعية والأعراف في تشكيل هوية فرد أو جماعة ما؟ ويتعقد الأمر إذا استحضرنا تنوع خلفيات وثقافات المسلمين المهاجرين إلى أوروبا، هذا إذا لم نأخذ بالحسبان المسلمين الأوروبيين أو المسلمين الذي ولدوا ونشؤوا في أوروبا وتعلموا وتشكلت ثقافتهم وهويتهم فيها، فأصبح انتماؤهم لهذه الأرض وتاريخها وثقافتها، الأمر الذي يفرض تحرير مفهوم الهوية من مواريث “دار الكفر” في وعي منظّري فقه الأقليات رغم أنهم أو كثيرا منهم تجاوزوا -ظاهريا على الأقل- ذلك المصطلح.

مما يؤكد أوجه الإشكال التي أوردتها سابقا على مسلّمة الخصوصية أن التدين المطلوب حفظه في خطاب فقه الأقليات المسلمة ليس تدينا فرديا فقط، بل تدين الجماعة المسلمة خارج سلطة الدين أو نظامه الاجتماعي والذي يبدو لدى منظّري الأقليات وضعا جديدا علينا مواجهته والاجتهاد له، ولذلك ركز القرضاوي على “فقه الجماعة لا فقه الأفراد”، وركز النجار على “الحفاظ على مفهوم الجماعة المتدينة” والبعد الجماعي للعبادات، وتحدث بن بيه عن أن من مقاصد فقه الأقليات “التأصيل لفقه الجماعة في حياة الأقلية”.

بل إن النجار يتحدث عن حفظ الحياة الدينية للأقلية المسلمة “لتكون -في بعديها الفردي والجماعي- إسلامية في معناها العقدي والثقافي وفي مبناها السلوكي والأخلاقي، منتهجة في ذلك منهج المواجهة لما تتعرض له من غواية شديدة من قبل الحضارة الغربية في بنائها الفلسفي والثقافي والسلوكي، والمواجهة أيضا لمغلوبية حضارية متمكنة في شعور تلك الأقلية من شأنها أن تبسط لتلك الغواية منافذ واسعة للتأثير الذي يعصف بالتدين في النفوس والأذهان كما في الأخلاق والأعمال”.

ومما يلفت الانتباه أيضا أنه على الرغم من إلحاح منظّري فقه الأقليات المسلمة على خصوصية هذا الفقه الخاص والحاجة إلى تأصيل أصول جديدة له تفي بمتطلبات خصوصيته وتميزه بحسب ظنهم فإن عامة الكتابات المؤسِّسة له تلح -في الوقت نفسه- على أنه جزء من الفقه العام غير منفصل عنه ولا مستقل بأصول خاصة، ولكن ذلك الإلحاح على ربط فقه الأقليات بالفقه العام لا يلغي خصوصية هذا النوع من التفكير الفقهي الحركي في الأغلب وفق الرؤية التي شرحناها، ومن ثم فنحن أمام 3 مسارات:

  • الأول: تكييف نوع من الفقه مع الشروط والسياقات الجديدة بمعزل عن تجديد الفقه العام نفسه، التجديد الذي يفرضه منطق التاريخ وتحولاته وتطور المجتمعات والثقافات، فالفقه نشأ على أساس الوعي بالتغير وحركة التاريخ والمجتمعات.
  • الثاني: انتقاء فقهي قائم على شرطَيْ الخصوصية والاستثنائية من جهة، والتكيف والتلاؤم مع هذا السياق الأوروبي أو الغربي من جهة أخرى.
  • الثالث: أن الإلحاح على تميز فقه الأقليات من جهة وعلى أنه جزء من الفقه العام من جهة أخرى يضعنا أمام أحد احتمالين: فهو إما جزء منه فعلا ومن ثم فلا معنى لإضفاء تسمية خاصة عليه، وإما أنه جزء مستقل عنه ومتميز لجماعة مخصوصة، ومن ثم يتناقض هذا مع مبدأين من مبادئ الفقه هما: مبدأ عموم أحكامه للناس على اختلاف أزمنتهم وأمكنتهم، ومبدأ أن الثبات والتغير في الأحكام لا يتم تقريرهما بناء على جغرافيا شاسعة ومتنوعة أو بناء على سلطة ما مغايرة كما هو الحال في عمل “المجلس الأوروبي للإفتاء” مثلا الذي لا يبحث في التنوع والاختلاف القانوني والسياسي والاجتماعي في كل بلد أوروبي على حدة.

المصدر: وكالات + الجزيرة نت

Share.

صحفية عراقية من اربيل خريجة وزارة الاعلام في اربيل سنة 2004

Comments are closed.