لم يدرس المخرج الأميركي كوينتن تارانتينو السينما في أي من المعاهد أو الجامعات، لكنه تعلمها في متجر صغير لأشرطة الفيديو، ورغم ذلك فقد تحول إلى مدرسة لتعليم السينما، ليس في الولايات المتحدة وحدها حيث قدم أفلامه التسعة، ولكن في العالم كله.

ولفت تارانتينو منذ بدايته بفيلم “مستودع الكلاب” في العام 1992 الأنظار بذلك العنف الهائل والصريح وشلالات الدماء التي تتدفق في أفلامه، لكنه في المقابل قدم أعمالا عبرت بحرفية فائقة وصراحة جارحة عن الحداثة وانعكاسها على الحياة وفداحة الخسارات الإنسانية التي ارتبطت بها.

ولم يكن غريبا أن تظهر ظلال أسلوب تارانتينو في الأجيال التالية له، لكن الغريب أن تظهر ظلال فاقعة وفي بعض الأحيان مشاهد محددة وخطوط درامية كاملة في أعمال آخرين.

ويأتي فيلم “دماء وذهب” للمخرج الألماني بيتر ثوروارث ليجسد تلك السمات التي يمكن القبول بها باعتبارها تأثرا بأسلوب تارانتينو، وتلك التي لا يمكن القبول بها باعتبارها انتحالا لسمات محددة في فيلم بعينه.

بداية مدهشة

لا يغيب شبح الحرب العالمية الثانية عن السينما كثيرا، خاصة في إنتاج كل من الولايات المتحدة الأميركية وألمانيا، وقد جاء تناول الأميركي كوينتن تارانتينو للحرب العالمية الثانية مختلفا تماما عن غيره وإن دار حول التجسس والانتقام، وأغرق جمهوره في الأحلام، وغيّر التاريخ الذي نعرفه إلى تاريخ خاص به، حيث قتل هتلر في انفجار بدار عرض في باريس، وأنشأ في فيلم “أوغاد مجهولون” في العام 2009 فرقة خاصة للانتقام من جنود النازي بقتلهم ونزع فروة الرأس والاحتفاظ بها.

أما الطرف الألماني في فيلم “دماء وذهب” -الذي يعرض حاليا على منصة نتفليكس- وهو المخرج بيتر ثوروارث فيخطف اهتمام المشاهد بمعركة شديد الشراسة بين جندي ألماني منشق “هنريك” (روبرت ماسير) وبين فرقته القديمة، وينتهي بأسره ومحاكمته ثم تعليقه على حبل المشنقة.

وبعد أن يصل المشاهد إلى لحظة اليقين بموت الجندي تظهر امرأة شابة تدعى إلسا (ماري هاك) وتنقذه وتخفيه وتتولى علاجه.

كان “هنريك” -الذي تم إنقاذه من الموت- في عجلة من أمره للبحث عن ابنته التي نجت من الموت في انفجار، فيما ماتت أمها وشقيقها، وقد انشق على الجيش الألماني وأدرك عبثية تلك الحرب بعد أن فقد ابنه وزوجته، فقرر أن ينقذ ابنته التي نجت، لكن زملاءه -الذين يدركون في قرارة أنفسهم أن الحرب في نهايتها وأن الهزيمة على الأبواب- يبحثون عن كنز ذهبي أخفاه أحد الذين تم طردهم من قرية تسكن في طرفها “إلسا” التي أنقذته.

الحرب والذهب

قدمت السينما الألمانية حديثا فيلم “كل شيء هادئ في الميدان الغربي” 2022، والذي جاء دمويا وتراجيديا بدرجة مخيفة، لكن تلك المبالغة المقصودة جاءت لتصوير بشاعة الحرب والتحذير من الوقوع في حماقة التورط فيها مرة أخرى، لكن فيلم “ذهب ودماء” لم يرق لمثل هذا النبل، وإنما اتخذ موقفا فيه إدانة للجنود الذين أجبروا على الحرب ولقطاع كبير من الشعب أيضا.

فقد طرد سكان القرية الصغيرة إحدى الأسر ظلما، واعتدوا عليها وأحرقوا بيتها، وتجاهلوا تماما مشاركة الأسرة في بناء القرية نفسها، وهنا يكشف المخرج بيتر ثوروارث والسيناريست ستيفان بارث عن إضافة جديدة وبعد آخر لم يرد في أفلام الاضطهاد العنصري من قبل، حيث كانت الإدانة تقتصر على القيادة السياسية (هتلر) وأتباعه المقربين وبعض القادة، لكن الشعب كان بمعزل عن الأمر.

ورغم أن السارق الرئيسي للذهب هو عمدة القرية فإن شركاءه كانوا من المدنيين، وبينهم امرأة، لكن مشهد النهاية البديع يؤسس لحقيقة جديدة تؤكد أن العسكريين -سواء كانوا ألمانا أو أميركيين- سيطمعون في الذهب، وهو ما حدث حين استطاع الأميركيون بعد دخول البلاد أن يضعوا أيديهم على الكنز، فقد اقترح قائدهم ألا يتم الإبلاغ عنه.

الأبطال والأشرار

لم تكن رغبة “هنريك” في الفرار من الميدان إلا محاولة للعثور على ابنته، لذا بدا في المشاهد الأولى للعمل كما لو كانت عيناه تشبهان عيني روبوت تمت برمجته، ولم يطلق تلك الطاقة الكامنة التي تصله بوجدان المشاهد، فتحقق ذلك التعاطف الذي يهدف إليه مخرج العمل، ولم تظهر تلك الطاقة ولم تنطلق تلك اللمسة الإنسانية إلا في المشهد الأخير حين عانق طفلته وأخبرها أنه والدها.

وعلى العكس تماما، جاء أداء المقدم “فون ستارن فيلد” (ألكسندر شير) قائد الفرقة القتالية شديد الكرم بالأداء، للدرجة التي يمكن معها الحديث عن أداء مسرحي بدلا من الأداء السينمائي المطلوب، لكن الممثل الذكي حاول أن يعوض نقص التعبير الحادث نتيجة تغطية نصف وجهه بقناع يخفي جروحه القبيحة.

قدم شير أداء متميزا يتفق مع رجل يحمل الكثير من التناقضات والشرور والغرور، وجاءت نهاية المقدم على يد “إلسا” التي أراد أن يمتلكها، إذ أخرجت كبسولة السم التي يحتفظ بها في خاتم بأصبعه لوقت الهزيمة ووضعتها في فمه، لتؤكد بطريقة قتله أنه هزم بالفعل وحان وقت انتحاره.

“إلسا” نفسها هي تلك الروح الحرة التي لم تشأ أن تستسلم بعد قتل والدها من قبل القوات النازية، وهي التي أخفت شقيقها المعاق في دولة قررت التخلص من المعاقين بعد أن اعتبرهم الزعيم “مخلوقات من الدرجة الثانية” وأخفته، لكنه قتل في النهاية بعد أن قضى على عدد كبير من الجنود.

أكد صناع العمل أن اللعبة في هذه الحرب جاءت باسم القومية والجنس الآري ومزاعم العظمة مقابل النظر إلى الآخرين بدونية واعتبارهم ذوي طبيعة متدنية، لذلك جاء دور البطل سلبيا، فلم يستطع حماية الأسرة، لكنه أخذ الذهب واحتفظ به في الكنيسة.

الأماكن والبطولة

منزلان ودار عبادة وبضع سيارات هي كل ما استخدمه صناع العمل، وما عدا ذلك كانت الأسلحة المتنوعة بين بنادق آلية ومسدسات وسكاكين وجاروف أيضا، لكن المنزلين ودار العبادة قامت ببطولة حقيقية في العمل، إذ كانت تلك الأماكن في زمن الدكتاتورية والقتل على الهوية هي أماكن الاختباء من رصاص القتلة، وهي مواضع الستر لأولئك الذين يخططون للثورة عليهم.

احترق المنزل الأول، وقد كان مخبأ لإلسا وشقيقها المعاق، لكن بعد أن شهد معركة أذل خلالها “هنريك” زملاءه وقائده السابق، وبقي المنزل الآخر سليما حتى النهاية، لكن دار العبادة أسقطت قمتها وانفجر مذبحها المقدس وشهدت المعركة الأخيرة بين قطاع طرق في زي جنود وبين رجل وامرأة يدافعان عن أسرتهما.

قد يكون القتل فعلا عاديا تماما خلال الحروب، لكن اللقطات المكبرة للرؤوس المتطايرة والأشلاء المقطوعة وجز الرقاب وانطلاق شلالات الدم بهذه الوحشية لا تنتمي للجمال في شيء، والفارق بين عنف تارانتينو وعنف غيره من المخرجين -وبينهم بيتر ثوروارث- هو أن الأول يصور العنف على طريقة ألعاب الساحر خفيف اليد الذي يخطف بصر المشاهد إلى جهة، فيما يخفي الأشياء في الجهة المقابلة بيده داخل سوار قميصه فلا يلاحظها المشاهد، وهكذا يفعل تارانتينو حين يقدم العنف ملفوفا في موقف كوميدي أو أداء كاريكاتيري مضحك كأنه يقول للمشاهد: لا تصدق فنحن نمثل.

المصدر: وكالات + الجزيرة نت

Share.

صحفية عراقية من اربيل خريجة وزارة الاعلام في اربيل سنة 2004

Comments are closed.