“منذ بضع سنوات، قامت مجموعة من الحكومات العربية بتوقيع اتفاقيات تطبيع مع إسرائيل؛ لقد اتفقوا على الاعتراف بوجود إسرائيل، وإنشاء السفارات، وبدء حركة التجارة، والتعاون الأمني المُعلن. ولكن ولا واحدة من هذه الحكومات تعبر عن ديمقراطية حقيقية؛ شعوبهم لم تُستشر في هذه الخطوة، ولم تُسأل إن كانت ترغب في عقد مثل تلك الاتفاقيات مع بلد يحتل أرض فلسطين بطريقة غير مشروعة لأكثر من 50 عاما”.

 

ميكائيل صافي، مراسل غارديان لمنطقة الشرق الأوسط، في تقرير مرئي قصير بعنوان “حركة تحرير فلسطين تدفقت إلى كأس العالم.. لماذا؟”، نُشر في التاسع من ديسمبر/كانون الأول 2022، على قناة “Guardian News” الرسمية على يوتيوب (1).

 

قائمة الأولويات

إن كنت تقرأ ما يُكتب هنا عادة، فأنت تعلم أننا كثيرا ما نستخدم الاقتباسات في افتتاحيات التقارير، وبالتالي ستدرك سريعا أن هذا هو الاقتباس الوحيد الذي كُتب لأجل مصدره، لا لأجل محتواه.

 

نعم، ما قرأته صحيح؛ هذا هو ميكائيل صافي، الذي يتحدث بإنجليزية بريطانية لا تشوبها شائبة، لقناة “غارديان” (Guardian) الرسمية على يوتيوب، إحدى أعرق وأشهر صحف إنجلترا والعالم، قائلا بوضوح إن إسرائيل كانت -وما زالت- تحتل أرض الفلسطينيين بطريقة “غير مشروعة” (2).

بالطبع هناك الكثير من الاستدراكات المشروعة بدورها على ما قاله صافي؛ أولها وأهمها على الإطلاق هو أن الكيان الصهيوني ليس “دولة تحتل أرض الفلسطينيين لأكثر من 50 عاما”، لأن هذا يفترض أن لهذا الكيان حقا في الوجود في تلك الأرض ابتداء، وبالتالي المسألة هنا ليست في وجوده، بل في احتلال أراضي جيرانه، بينما في الحقيقة وجوده ذاته أُقيم على اغتصاب هذه الأرض في المقام الأول. مجرد وجوده هو الدليل الأوضح على العدوان، وحتى لو لم تقع محاولات الاستيطان والاعتداء، التي لم تتوقف يوما.

“هذا يُظهر أنه حتى لو كانت القضية الفلسطينية في قاع قائمة أولويات الحكومات، فإن الشعوب لا تشاطرها الرأي ذاته”.

ميكائيل صافي في التقرير ذاته (1)

رغم ذلك، يُعد هذا التقرير مدخلا مهما لفكرة محورية؛ نحن لسنا معزولين عن العالم، ولا العالم معزول عنّا، حتى لو شعرنا بغير ذلك نتيجة لسياسات التعتيم والتضييق والتكميم التي تتبعها منصات التواصل ومحركات البحث.

 

قبل أن ينشر صافي تقريره بشهر واحد، كانت جماهير بلباو ترفع أعلام فلسطين في المدرج الرئيس قبل انطلاق مباراة فريقها ضد بلد الوليد. السبب كان توصيل رسالتها إلى مهاجم بلد الوليد الصهيوني شون وايزمان، الذي أعلن تأييده -سابقا- للاعتداءات الصهيونية على قطاع غزة.

طبعا أنت تسمع عن هذا الأمر لأول مرة، وهو المقصود بالضبط؛ المصدر الوحيد هنا هو مقطع نشره حساب “ميدل إيست آي” (Middle East Eye) على تويتر، ويُظهر -بوضوح- أعلام فلسطين في مدرج “تريبونا نورتي” (Tribuna Norte) -المدرج الشمالي بالترجمة الحرفية- الذي يضم أكثر مشجعي بلباو حماسا (3).

 

تقريبا لا يوجد خبر واحد على الشبكة عن هذه الواقعة.

 

من باريس إلى القدس

“تجمع أولتراس باريس” و”أولتراس الصهاينة”؛ كان هذا هو الصدام الذي حسبت حسابه الشرطة الفرنسية عندما التقى باريس سان جيرمان وماكابي حيفا الصهيوني في دور المجموعات من النسخة الماضية من دوري أبطال أوروبا، تقريبا في التوقيت ذاته الذي شهد واقعة مدرج بلباو الشمالي (4).

 

التقييم الأمني للمباراة كان يتراوح بين الدرجة الثالثة والخامسة. هذا يعني أن هناك “خطرا يمكن التعرف عليه”، وقبل المباراة، أكدت إدارة باريس على المشجعين منعها دخول أي أعلام لأي دول “لا يعبر عنها نادي باريس سان جيرمان”، لأن “تجمع أولتراس باريس” معروف بتضامنه مع القضية الفلسطينية، وبالتالي الصدام محتمل ومتوقع، خاصة في الساحات خارج ملعب “حديقة الأمراء” (5) (6).

 

هذا خبر آخر لن تصل إليه إلا لو طلبت من “غوغل” مزيدا من النتائج، أو انتقلت إلى الصفحة الثانية من البحث، رغم أنه لا يشمل صورا للأعلام الفلسطينية في المدرجات، بل مجرد اعتراف بأن “تجمع أولتراس باريس” يناصر الحق الفلسطيني، وأن هناك كذلك ما يُعرف بـ”أولتراس الصهاينة” (Ultras Zionist)، وهي جريمة أخرى مستقلة بحق كلٍّ من الإنسانية والمنطق في آنٍ واحد.

“غزة موجودة.. غزة تقاوم.. الحرية لفلسطين”.

إحدى اللافتات التي شملها تحقيق الاتحاد الأوروبي بعد مباراة باريس سان جيرمان وماكابي حيفا

دعم المجموعة ذاتها لفلسطين، التي تُلقب بـ”CUP” اختصارا لـ”Collectif Ultras de Paris”، امتد للحظة الحالية، وتحديدا في التاسع من أكتوبر/تشرين الأول الجاري، عندما رفع بعض أفرادها لافتة بعنوان “من باريس إلى غزة.. فلسطين ستحيا” في أحد شوارع العاصمة الفرنسية، بعد أن أخفوا وجوههم لأسباب مفهومة طبعا.

 

هذا هو أول ما تلاحظه أثناء البحث عن الأخبار والعناوين المشابهة، أن هناك مقاومة واضحة من خوارزميات منصات التواصل ومحركات البحث لكل محاولات الوصول إليها. الأمر ذاته تكرر مع الأخبار عن حركات أولتراس لاتسيو وليفورنو في إيطاليا؛ الأخيرة تحديدا قد تكون الأكثر يسارية بين أندية إيطاليا في الدرجات المحترفة المختلفة، وتحتفظ بتقاليدها التاريخية في دعم ومناصرة كل المظلومين والمهمشين حول العالم (7).

 

دكتور مارك دويدج، عالم الاجتماع الرياضي الأميركي الذي غرد خارج السرب طيلة مسيرته المهنية تقريبا، وتخصص في الكتابة عن توجهات وأصول الحركة الجماهيرية لنادي ليفورنو، يعتقد أن هناك نمطا من الارتباط بين الحركات السياسية الأوروبية واللاتينية من جهة، وبين التعاطف مع القضايا المشابهة من جهة أخرى، خاصة في ليفورنو التي تحاول التحرر من إرثها الفاشي (7).

 

جماهير ليفورنو رفعت الأعلام الفلسطينية أمام لاعبي ومناصري الفريق ذاته -ماكابي حيفا- أثناء مواجهتهما في إطار منافسات كأس الاتحاد الأوروبي -الدوري الأوروبي بالنظام القديم- في موسم 2006-2007 (7).

 

هناك قائمة طويلة من الوقائع المشابهة ضد ماكابي حيفا تحديدا، الذي يبدو أنه -لسبب ما- يستفز مناصري الحق الفلسطيني أكثر من غيره؛ في 2014 مثلا أُلغيت مباراته الودية ضد ليل الفرنسي في سالزبورغ بعد اقتحام مناصري الفلسطينيين للملعب واشتباكهم مع اللاعبين (8).

 

التالي ورد حينها في بيان النادي الصهيوني، وقد تكون تلك المرة الوحيدة التي صدقت فيها أي عبارة واردة في بيان صادر عن كيان صهيوني في التاريخ: “هذا لم يحدث بسبب الرياضة أو كرة القدم. هذا حدث لأننا نادٍ يُمثِّل إسرائيل”.

 

انتصارات صغيرة

هذه هي المفارقة الأولى هنا؛ حتى “الديمقراطيات الحقيقية” لا تعبر عن كل شعوبها بالضرورة، وحركات الرفض والاعتراض كانت وما زالت وستظل موجودة حول العالم، على الأقل، عبر هؤلاء الذين سعوا لمعرفة الحقيقة، ولم تُغسل أدمغتهم بعد، المتشككين الذين قرروا ابتداء أن حكومات بلادهم ليست جديرة بالثقة في سياساتها الخارجية، ما دامت لم تكتسب تلك الثقة في الداخل ابتداء.

 

الأهم أن هذه الحركات تُزعج الصهاينة فعلا، الذين أنفقوا المليارات عبر السنوات في عمليات شراء ذمم الآلاف من الإعلاميين والصحفيين والمحررين ورؤسائهم؛ في 2012 مثلا، كتب سام لوبرستي مقالا مطولا عبر منصة “بليتشر ريبورت” (Bleacher Report) يطالب فيه بمعاقبة جمهور لاتسيو “عقابا رادعا” على حد تعبيره، بعد هتافاته المعادية ضد جماهير توتنهام، التي استخدمت تعبيرات وإيحاءات تشير إلى “أصول النادي اليهودية”، وارتباطه الشديد بالمجتمعات الصهيونية في شمال لندن، لدرجة أن مشجعيه يطلقون على أنفسهم لقب “جيش الييد” أو (Yid Army) (9).

“Yid” هي اختصار “Yiddish”؛ الاسم الإثني ليهود الأشكينازي الذين تمركزوا في شرق أوروبا ومركزها في القرن التاسع الميلادي، الذين كانوا يتحدثون لغة هجينة بين الألمانية القديمة والعبرية، استخدموا فيها كلمات وحروفا من الأخيرة بكثافة (10) (11).

 

في تلك المباراة المذكورة بين لاتسيو وتوتنهام في ملعب الأولمبيكو، التي أُقيمت في إطار منافسات الدوري الأوروبي لموسم 2012-2013، تكررت لافتات “الحرية لفلسطين” في مدرجات مشجعي النسر العاصمي السماوي، وهو ما تكرر مجددا بعد الاقتحام الأخير للمستوطنات الإسرائيلية من قِبل كتائب القسام (12).

 

هذا الصراع التاريخي مع الفاشية، في البلد الذي صكّ المصطلح ذاته، متأصل في وعي العديد من حركات الأولتراس هناك، لدرجة أنه يوجد عدو مشترك يدفعهم لتجاوز خلافاتهم الكروية التاريخية؛ تخيل مثلا أن شرطة روما تمكنت من القبض على اثنين من أشهر قادة مدرجات روما، الغريم التاريخي للاتسيو، في الاشتباكات بين جماهير الأخير وجماهير توتنهام قبل المباراة (9).

 

هناك عالم كامل مجهول في هذه المساحة لا نعلم عنه شيئا تقريبا، تكشف عنه عناوين متفرقة هنا وهناك، تحتاج إلى الكثير من البحث والتدقيق للوصول إليها، ولكنه موجود، ومفيد، ويجب الاستفادة منه وتعظيم قدراته في كشف حقيقة هذا الاحتلال للعالم.

 

نعم، نسمع ما يدور برأسك الآن؛ ما فائدة كشف حقيقة هذا الكيان للعالم؟ العالم لا يهتم على أية حال!

 

هل تعلم ما الخطأ الوحيد الذي لم يرتكبه الكيان الصهيوني عبر تاريخه؟ أن يفكر بالطريقة ذاتها.

 

منذ أيام، خاض “نير بيتون”، لاعب سيلتيك السابق، الذي توج معهم بتسعة ألقاب للدوري، صراعا يعلم نتيجته مسبقا مع جماهير سيلتيك، وتحديدا “القافلة الخضراء” (Green Brigade) التي دعمت الحق الفلسطيني عبر تاريخها، من مدرجات ملعب سيلتيك بارك (13) (14) (15) (16).

لماذا يعلم نتيجته مسبقا؟ لأنه لاعب سيلتيك السابق الذي فاز معهم بتسعة ألقاب للدوري طبعا، وبالتالي هو يعلم مسبقا أنها معركة خاسرة؛ جماهير سيلتيك لن تتزحزح، ولن ينجح في ابتزازها بادعاء المظلومية والضعف، لأنه لم ينجح في ذلك عبر تسعة مواسم كاملة وهو في صفوفهم، وهو ما حدث فعلا، وكان الرد عنيفا.

 

رغم ذلك صمَّم “بيتون” على أن يكون موجودا، وعلى أن يخوض المعركة بالكذب والتزوير، لأنه يعلم أن غيابه يترك الساحة خالية للقافلة الخضراء، دون منافسة أو صراع، وهذا يعني أن سرديتها ستفوز بقلوب المحايدين على الأقل.

 

هذا ما لا يقبله “بيتون”، رغم أنه يعلم يقينا أن كيانه المحتل قام على جرائم حرب غير مسبوقة، وهذا هو ما لا يقبله أي صهيوني رغم دناءة قضيته وخستها ووحشيتها، فلماذا يجب أن تقبله أنت؟

—————————————————————————–

المصادر:

1- حركة “تحرير فلسطين” تدفقت إلى كأس العالم.. لماذا؟ – The Guardian

2- ميكائيل صافي – The Guardian

3- ملعب سان ماميس: أتلتيك بلباو – Football Stadiums

4- مسؤولو باريس سان جيرمان يلجؤون لإجراءات احترازية قبل مباراة ماكابي حيفا بسبب مناصرة أولتراس الفريق لفلسطين – Get French Football News

5- “من باريس إلى غزة.. فلسطين ستحيا”.. أولتراس باريس سان جيرمان يرسلون رسالة قوية في خضم الحرب – Sportskeeda

6- باريس وباريس سان جيرمان في حالة حذر وترقب بسبب فلسطين وإسرائيل قبل مباراة ماكابي حيفا – Be Soccer

7- ليفورنو؛ دليلك البديل لأندية السيري آ – The Guardian

8- مباراة ماكابي حيفا ضد ليل تُلغى بعد اقتحام الملعب من قِبَل مناصري فلسطين – The Guardian

9- لاتسيو يجب أن يعاقب بقسوة لأجل تصرفات مشجعيه! – BR

10- قاموس أوكسفورد يُضمّن مشجعي توتنهام هوتسبر في تعريف لفظة “Yid” – BBC

11- نادي توتنهام هوتسبر يدين التعريف الجديد للفظة “Yid” في القاموس – CNN

12- أولتراس لاتسيو يظهرون تضامنهم مع الفلسطينيين في ملعب الأولمبيكو – Nogomania

13- أصول مصطلح “فاشية” – Britannica

14- نجم سيلتيك السابق يهاجم جماهير الفريق بعد لافتات “الحرية لفلسطين” في لقاء الفريق الأخير.. “عار عليكم!” – The Mirror

15- لماذا رفع مشجعو سيلتيك علم فلسطين؟ – The Guardian

16- جماهير سيلتيك، والجيش الجمهوري الأيرلندي، والتعاطف مع فلسطين – Vice


المصدر: وكالات + الجزيرة نت

Share.

صحفية عراقية من اربيل خريجة وزارة الاعلام في اربيل سنة 2004

Comments are closed.