قضية تعاون المسلم فردًا كان أم جماعة أم نظامًا حاكمًا مع العدو المحتل، أو الغاصب أرضَ المسلمين، قضيةٌ شغلت بال الفقيه المسلم قديمًا وحديثًا، وقد برزت هذه المسألة أكثر من ذي قبل، منذ بداية الاحتلال الصهيونيّ أرضَ فلسطين، ومن المؤسَّسات الدينية الكبرى التي صدرت لها فتاوى في هذا الشأن: الأزهر الشريف، وهي مؤسّسة يصعب أن توصف بالتطرف، أو المغالاة، خاصةً لو صدرت منه فتاوى على مراحل تاريخية مختلفة، منتهية لنفس الرأي الفقهي، سواء اتّفق معها أم اختلف، لكنها فتاوى ومواقف جديرة بالقراءة والتأمل، وهذا ما نحاول الوقوف عليه في مقالنا.

فتوى لجنة الفتوى بالأزهر

لقد صدرت فتاوى عدّة عن الأزهر الشريف تتعلق بقضية فلسطين، وبخاصة ما يتعلق بالتعاون مع العدوّ الصهيوني، أو ما يسمى في لغتنا الفقهية: موالاة الأعداء، ومن أوائل ما صدر من فتاواه: فتوى لجنة الفتوى بالأزهر، والتي صدرت في 14 شعبان، لعام 1366هـ، الموافق شهر يونيو/ حزيران 1947م، وقد كان رئيسها آنذاك، الشيخ عبد المجيد سليم، والذي صار بعد ذلك شيخًا للأزهر، ومما جاء في فتواها:

(الرجل الذي يحسب نفسه من جماعة المسلمين إذا أعان أعداءهم في شيء من هذه الآثام المذكورة، وساعد عليها مباشرة، أو بواسطة، لا يعد من أهل الإيمان، ولا ينتظم في سلكهم، بل هو بصنيعه حربٌ عليهم، منخلع من دينهم، وهو بفعله  الآثم أشد عداوة من المتظاهرين بالعداوة للإسلام والمسلمين.

ولا شك أن بذل المعونة لهؤلاء، وتيسير الوسائل التي تساعدهم على تحقيق غاياتهم التي فيها إذلال المسلمين، وتبديد شملهم، ومحو دولتهم، أعظم إثمًا؛ وأكبر ضررًا من مجرد موالاتهم.. وأشد عداوة من المتظاهرين بالعداوة للإسلام والمسلمين.. والذي يستبيح شيئًا من هذا بعد أن استبان له حكم الله فيه يكون مرتدًا عن دين الإسلام، فيفرق بينه وبين زوجه، ويحرم عليها الاتصال به، ولا يصلى عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين).

من الفتاوى الجماعية التي صدرت عن الأزهر، فتوى مجمع البحوث الإسلامية، وقد صدرت بعد اجتماع عددٍ من علماء العالم الإسلامي، بعد تباحث وتشاور

فتاوى الشيخ محمود شلتوت شيخ الأزهر

أما الشيخ محمود شلتوت، فقد تعرض للموضوع في أكثر من مناسبة، وكان موقفه نفس الموقف، بل زاد في التفصيل فيه، مبينًا صور التعاون، فكتب فصلًا في كتابه: (من توجيهات الإسلام) طبعة الأزهر سنة 1959م، بعنوان: موالاة الأعداء، ص: 250-251، فقال: (هذا ولموالاة الأعداء، صور وألوان، المعونة الفكرية بالرأي والتدبير، موالاة للأعداء. والمعونة المالية، بالبذل والإنفاق، موالاة للأعداء، وترويج سلعهم بالبيع والشراء، تنميةً لأموالهم، وتثبيتًا لأقدامهم في بلاد المؤمنين، موالاة للأعداء، والاغترار بزخرف ثقافتهم، وأن فيها ماء الحياة، وتوجيه النشء إليها، وغرس عظمتها في نفسه، موالاة للأعداء، والعمل معهم في المصانع والمعسكرات  التي يهيئونها للنيل من المؤمنين، موالاة للأعداء.

وإفشاء الأسرار، والترتيبات التي يعدها المؤمنون لمكافحتهم، وزعزعة سلطانهم، موالاة للأعداء. وهو فوق هذا (جاسوسية) على الوطن وأهله، يهدر – في حكم الشرع والدين- دم القائم به، ويجعلهم في حكم  المرتدين، (ومن يرتد منكم عن دينه فيمت وهو كافر، فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة، وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) البقرة: 217. والتثاقل عن رد عدوانهم، ومد يد المعونة الفعلية في كبح جماحهم موالاة للأعداء).

ثم عادَ بعد ذلك الشيخ شلتوت، وكتب مقالًا، في صيغة بيان، بعنوان: موالاة الأعداء وموقف الإسلام منها، نشره في مجلة (الأزهر) في العدد (2-3) من المجلد الثاني والثلاثين، الصادر في ربيع الأول والآخر سنة 1380هـ، ومما جاء فيه: (فلئن حاول إنسان أن يمد يده لفئة باغية يضعها الاستعمار لتكون جسرًا له؛ يعبر عليه إلى غاياته، ويلج منه إلى أهدافه، لو حاول إنسان ذلك لكان عمله هو الخروج على الدين بعينه، والنكوص الممقوت).

فتوى وتوصيات مجمع البحوث الإسلامية

من الفتاوى الجماعية التي صدرت عن الأزهر، فتوى مجمع البحوث الإسلامية، وقد صدرت بعد اجتماع عددٍ من علماء العالم الإسلامي، بعد تباحث وتشاور، فأصدروها على هيئة توصيات وفتاوى، ومما ورد في توصيات المؤتمر الثالث لمجمع البحوث (جمادى الآخرة سنة 1386هـ – أكتوبر سنة 1966م) هذه التوصية أو الفتوى:

(تنبيه المسلمين في جميع أقطار الأرض إلى أن العمل الجدي الدائم على إنقاذ فلسطين من أيدي الصهيونيين الباغين الغاصبين هو فرض في عنق كل مسلم ومسلمة، وتحذيرهم من فتنة المروق من الإسلام بالتعاون مع الصهيونيين الغاصبين الذين أخرجوا العرب والمسلمين من ديارهم، أو التعاون مع الذين ظاهروا على إخراجهم، وتوكيد ما تقرر في المؤتمر الثاني من دعوة الدول الإسلامية التي اعترفت بإسرائيل بسحب اعترافها).

قراءة في الفتاوى

لقد ذكرت هنا أهم الفتاوى التي صدرت عن الأزهر في موضوع التعاون -أو الموالاة باللغة الفقهية والقرآنية- مع الأعداء، وتحديدًا هنا العدو الصهيوني المحتل للأراضي الفلسطينية، وهناك فتاوى أخرى مشابهة متعلقة ببيع أراضي فلسطين، وغيرها من الفتاوى، ولم أتتبع فتاوى الأزهر فيما بعد في قضية التعاون، وهل صدر عن المؤسسة، أو عن رموزها فتاوى متعلقة بالموضوع ذاته أم لا؟ وقد حاولت البحث فيما صدر عن الفتاوى فيما بعد، ولم أصل إلى فتاوى معبرة عن المؤسسة الأزهرية كما في هذه الفتاوى، وربما يوجد فتاوى فردية لمشايخ وعلماء كبار من الأزهر، لكن إطار القراءة والبحث فيما صدر، ووقفت عليه.

فتاوى جماعية

وهي فتاوى كما نرى، صدرت على فترات مُختلفة، وربما متباعدة، ومع اختلاف الشخصيات العلمية التي أصدرت الفتوى، فإنها كلها فتاوى جماعية، سوى فتوى الشيخ شلتوت، والتي صدرت عنه بوصفه شيخًا للأزهر، وقد كان ضمن العلماء الذين حرروا فتوى لجنة الفتوى، والتي صدرت باسم الشيخ عبد المجيد سليم؛ لأنه كان رئيسها آنذاك. أي أن مجمل ما صدر لم يكن رأيًا فرديًا، ولا قولًا علميًا شاذًا صدر عن رأي فقهي غريب، فهو رأي يمثل الأزهر، ويمثل المؤسسة، وقد جاء على فترات مختلفة كما رأينا، فمنها ما صدر قبل احتلال فلسطين، وأكثرها صدر بعد احتلالها، ودخول البلاد العربية والإسلامية مع الكيان الصهيوني في حروب.

هل تتسم بالشدة؟

ربما ظن بعض القراء للفتاوى، أنها شديدة، وفي حكم عملي، لا يتعلق باعتقاد واضح، فالمتعاون هنا لم يكفر بالإسلام، ليحكم عليه بهذا الحكم الشديد، والمتأمل لهذه الفتاوى، ولطبيعة المعارك التي تتعلق بالمقدسات، سيجد أنها ليست شديدة، فالقوانين العربية نفسها تحكم بالفتوى نفسها، فالعسكري – أو المدني – الذي يثبت انتماؤه أو تعاونه مع العدو، سواء بالإمداد بالمعلومة، أو التعاون العملي، فحكمه في العسكرية أنه خائن، ويعدم بالضرب بالرصاص، وهو حكم لا يزال معمولًا به في جلّ الدول العربية والإسلامية، ولم يلغَ إلا في بلاد ألغت حكم الإعدام بوجه عام.

التفريق بين اليهودية والصهيونية

والملاحظ في فتاوى الأزهر- وبخاصة الفتوى الثالثة الصادرة عن مجمع البحوث الإسلامية- أنه يفرق بين اليهودية والصهيونية، فهو يفرق بين الديانة كمعتقد، ولا عداوة بين المسلمين واليهود كمعتقد، وبين الصهيونية كمحتل باغٍ على الأرض المسلمة، فلا ينظر هنا لمعتقده، بل ينظر لبغيه واعتدائه، ولذا كانت الصيغة منضبطة، ومقيدة، بالاعتداء والبغي.

لم تصدر في وقت حروب مباشرة

الملاحظ للفتاوى- التي ذكرتها للأزهر- أنها كلها صادرة في وقت لم يكن هناك حرب، ليروا فظائع هذه الحروب، فتكون هي الدافع والمحفز لفتاواهم، فالأولى سنة: 47، والثانية: سنة 61، والثالثة: سنة 66، وغالبها قبل حروب كبرى، فهي بعيدة عن أي تأثير، يكون سببًا لشدة الفتوى، ومن الواضح أنها كانت صادرة في كل هذه المناسبات، عن بعد نظر، وتأملٍ لتاريخ الخيانة والتعاون في تاريخنا البعيد والقريب، واستحضارٍ لآثار هذا التعاون والخيانة، وما يجلبه من نكبات كبرى على الأمة، أي: أنها فتاوى بعيدة عما يمكن أن يثار ضدها، بأنها صدرت بناء على واقع معيش، جعل الفقيه يذهب لهذا الرأي، بل على العكس، فقد كانت المؤسسة الفقهية هنا في أناة وتمهّل في الموقف والرأي.

ليست فتاوى سلطة

الملمح البارز في هذه الفتاوى جميعًا، أنها لم تكن بناء على رغبة سلطة طلبت من الأزهر، أو علمائه، إصدارها، فقد صدرت كما ذكرت في فترات متباعدة، وبعيدًا عن أوقات حروب مباشرة، فالأولى سنة 1946م، وأصحاب الفتوى- وعلى رأسهم الشيخ عبد المجيد سليم- معروفون بمواقفهم التي لا تلين مع السلطة، فسليم فيما بعد سيكون شيخًا للأزهر، وهو الذي عرّض بالملك فاروق، وعرض ببذخه في حفلاته، وتقتيره على الأزهر، وقال قولته المشهورة عندما قللوا ميزانية الأزهر: أإسراف هناك، وتقتير هنا؟!! وما يقال عن سليم يقال عن بقية أعضاء اللجنة، وهو ما يعطي لهذه الفتاوى صفة الاستقلالية والحياد العلمي التام.

فتاوى مقاصدية تراعي مآلات الأفعال

فهذه الفتاوى تعد مقاصدية بالدرجة الأولى، حيث اعتبرت مآلات الأفعال، من حيث ما ينبني على هذا التعاون، فما يبنى على التعاون والموالاة مع العدو، فهو فساد كبير، وتمكين للعدو من المسلمين ومقدراتهم، وهو ما يعد عملًا خطيرًا؛ لذا كانت شدة الفتاوى مبنية على هذا الاعتبار، على ما ينتج عن الفعل من آثار تدميرية على مستوى اعتقاد الشخص، ومستوى ذلة الأمة، ومستوى تقهقرها، وامتلاك عدوها زمامَ أمرها.

فقد يبدو الفعل للبعض هينًا من حيث شكله، لكنه من حيث جوهره، ومن حيث مآله هو كارثة تتعلق بدين وخلق وولاء الشخص، لدينه وأمته، ثم لوطنه وبني جلدته؛ ولذا راعت الفتاوى هذه المآلات التي تبنى على هذا الفعل الذي يمقته العدو نفسه، لو قام به أحد من أهله.

حكم عام لا يتعلق بمعين

الفتاوى الصادرة هنا بحكمها على المتعاون مع المحتل، هي معنية ببيان حكم الفعل، وليست معنية بالحكم على معين، أي: شخص معين، أو جهة معينة، سواء كانت فصيلًا أو سلطة، أو نظامًا، أو هيئة، بل كل هذه الفتاوى يبدأ وينتهي دورها ببيان الحكم الشرعي، فدورها ووظيفتها البيان، وليست مخوّلة بالحكم على أشخاص، ولا تعطي هذا الحق لأشخاص، فلا بد من فهم الفتاوى في إطارها الصحيح، فهي تبين حكم هذه الموالاة، أما الحكم على معين بذلك، فهي مسألة أخرى، هو حكم قضائي؛ لأنه يتعلق به أمور كثيرة، ليست من سلطة المفتي، بل من سلطة القاضي.

المصدر: وكالات + الجزيرة نت

Share.

صحفية عراقية من اربيل خريجة وزارة الاعلام في اربيل سنة 2004

Comments are closed.