تسير “لينا” في حارة بحي باب شرقي في مدينة دمشق تلقي التحية بطريقة عفوية على كل من تلقاه، وقبل أن تصل وجهتها إلى محل الأشغال اليدوية الذي تديره، يسبقها العم وجيه مستكشفا المكان لأول مرة فيجلس بعفوية على الكرسي ويبدأ من دون مقدمات العزف على آلة العود والغناء ليطرب الزبائن. يأتي سائرون بالحارة في الخارج ليستمعوا له وهو يشدو: “كوني الدفا بدنيتي كوني الشمس، إنت حكاية ليلتي، إنت الحكي وإنت الهمس، إنت اللي ناطرك عُمر”.

كان الألم يعتصر العم وجيه بعد أن فقد أحد أقربائه ودخل في حالة نفسية سيئة أفقدته بعضا من ذاكرته. ويقاوم هذا بالغوص في أماكن ذكرياته القديمة التي تقوده إلى معارف جديدة مثل لينا صاحبة المحل في الفيلم السوري “حكاية في دمشق” من إخراج أحمد إبراهيم أحمد، الذي حصل على جائزة أحسن ممثلة للفيلم العربي في مهرجان الإسكندرية السينمائي لدول البحر المتوسط في دورته هذا العام 2022.

يختلف هذا المهرجان عن بقية المهرجانات السينمائية المصرية كونه يعكس بُعدا ثقافيا دوليا مهما تمثله مدينة الإسكندرية، خاصة مكتبتها المطلة على البحر التي أقيم فيها حفل المهرجان

يعزف الفيلم سيمفونية الحنين على إيقاع الزمن الماضي باستخدام كل الأيقونات من الحارة التاريخية إلى العود وصوت موسيقى الشجن. المشاهد تدور في أماكن محدودة: الحارة القديمة وبعض المحلات والمنازل؛ مما يجعل نسيج الفيلم صالحا للدراما التلفزيونية أكثر منه عملا سينمائيا. غير أن المخرج استطاع توظيف العناصر البصرية بشكل جيد من مشغولات يدوية وديكور في خلفية المشاهد لإيصال معاني الحب والشوق والمعاناة والذكريات، بالإضافة طبعا إلى الأداء التمثيلي العالي للنجم السينمائي غسان مسعود الذي قام بدور العم وجيه. وتبدو هذه العناصر وغيرها قاسما مشتركا بين كثير من مدن الدول المطلة على البحر الأبيض المتوسط شماله وجنوبه.

إن مشهد هذه الحارة وهذا الشجن وحب الموسيقى والفنون والتاريخ هو أحد القواسم المشتركة بين مدن أخرى مثل طنجة في المغرب أو صقلية في إيطاليا أو مالقة في إسبانيا. وهو أحد العناصر المشتركة التي تميز دول المتوسط بالإضافة إلى التشابه في بعض أنماط الطعام والطقس؛ مما استدعى حضور ما يسمى الهوية المتوسطية في الأوساط السينمائية، وهي حاضرة بقوة في السينما عبر عدة مهرجانات تقام كل عام، منها مهرجان الإسكندرية السينمائي لدول البحر المتوسط.

يختلف هذا المهرجان عن بقية المهرجانات السينمائية المصرية كونه يعكس بُعدا ثقافيا دوليا مهما تمثله مدينة الإسكندرية، خاصة مكتبتها المطلة على البحر، التي أقيم فيها حفل المهرجان. إذ يتم التأكيد على التعاون الفني والثقافي بين دول المتوسط عبر برامج دعم وعروض الأفلام، وهو تعاون مبني على تاريخ عريق من انتقال الأفكار والثقافات والهجرات عبر ضفتي المتوسط، أو على إحدى ضفتيه دون الأخرى. فقديما كان يمكن خلال يوم واحد أن ينتقل الإنذار من الإسكندرية شرقا إلى جبل طارق غربا عبر إيقاد متسلسل للنيران على المنارات الساحلية في مدن شمال أفريقيا للتحذير من شن الصليبيين أية هجمات؛ كما يشرح ذلك الدكتور عبد العزيز كامل وزير الأوقاف وشؤون الأزهر المصري الأسبق في لقاء له على قناة ماسبيرو الدينية أجري خلال الستينيات، وحديثا لا تزال الفنون والأفكار تنتقل بطرق مختلفة عبر مسارات جديدة منها هذا المهرجان ومهرجانات سينمائية أخرى تحمل الهوية ذاتها.

مهرجانات السينما المتوسطية

إن مسار المنارات القديمة يتقاطع مع مسار مهرجانات السينما المتوسطية حديثا في شمال أفريقيا؛ فهناك مهرجان منارات التونسية للسينما المتوسطية، ومهرجان عنابة الجزائري للفيلم المتوسطي، وصولا لمهرجان تطوان المغربية لسينما البحر الأبيض المتوسط. وهي مهرجانات تجاوزت الإطار الصراعي القديم بين ضفتي المتوسط لترسخ قيم التعاون الفني والثقافي عبر الدول المطلة على البحر الأبيض المتوسط. وهذا لا ينفي وجود حساسيات سياسية وحضارية لا تزال قائمة، ويمكن رصدها بوضوح في مهرجانات جنوب المتوسط السينمائي، وهو مشاركة إسرائيل بوصفها مطلة على البحر المتوسط، وهو مناط الخلاف -وربما التباين الشديد- في تعريف السينما المتوسطية شمالا وجنوبا؛ فعلى المستوى العربي من يمثل هذه البقعة الجغرافية شرقا هو الفيلم الفلسطيني، أما في الضفة الشمالية فلا مانع من مشاركة الفيلم الإسرائيلي بجوار الفيلم الفلسطيني. ولهذا يتوجس كثيرون من الإطار المتوسطي للتعاون الثقافي على المستوى الدولي، خوفا من أن يكون بوابة خلفية للتطبيع مع إسرائيل.

أما عن دلالات الهوية المتوسطية في الفيلم السينمائي فيتساءل الناقد والمؤرخ السينمائي البريطاني رونالد بيرغان عن معنى السينما المتوسطية وعن جدوى إقامات مهرجانات باسمها، فما الذي يجمع تركيا مع إسبانيا وإيطاليا وألبانيا؟ وهو إذ يقر بصعوبة الإجابة يحاول أن يجيب بطريقة تبدو ساخرة، وهي حضور البحر والمناظر الجميلة في مشاهد أي فيلم، الأمر الذي ينقذه من الفشل في حال كانت جودته الفنية دون المستوى المطلوب.

وهو الأمر الذي يختلف معه المخرج الهولندي من أصل جزائري كريم تريديا الذي يؤمن بقوة بارتباط الهوية بالمكان. لقد مثل تريديا هولندا في جائزة الأوسكار بفيلمه “العروس البولندية” عام 1998، ويرى أن شعوره “كمتوسطي” بالدراما والشعر يختلف عن أبناء دول الشمال، ويلخص هذا الشعور بكلمتين: “الإيقاع” و”المزاج”. وهذا لا يتناقض مع عدم إيمانه بالهوية المتوسطية.

كذلك يرى الناقد السينمائي المصري الدكتور وليد سيف في كتابه “من روائع مهرجان الإسكندرية وسينما البحر المتوسط المعاصرة” أن الصفات المشتركة لشعوب البحر المتوسط تؤثر بلا شك في أساليبها السينمائية. كما يغوص بعمق نقدي تحليلي في الكتاب الصادر عن الجمعية المصرية لكتاب ونقاد السينما في الأفلام التي عرضت في مهرجان الإسكندرية على مدار 20 عاما مضت؛ ليخرج بالنتيجة ذاتها.

هذا التباين النقدي الشديد حول معنى ومفهوم وجدوى الهوية المتوسطية على الصعيد الفني لا سيما السينمائي منه لم يمنع استمرار هذه المهرجانات عدة عقود، بل والشروع في إقامة مهرجانات جديدة؛ مثل مهرجان أوروبا-الشرق للفيلم الوثائقي في مدنية طنجة المغربية، الذي توقف لاحقا لتعكس معنى يتعلق بأن هناك هويات فنية جغرافية موازية لا تعكس بالضرورة التقسيمات الجغرافية السياسية ذاتها.

المصدر: وكالات + الجزيرة نت

Share.

صحفية عراقية من اربيل خريجة وزارة الاعلام في اربيل سنة 2004

Comments are closed.